نصر شمالي
من حين لآخر تطلع علينا شخصيات يسارية مرموقة عالمياً، من أمثال المفكّر نعّوم تشومسكي، فتنال إعجابنا بتحليلاتها النقدية العميقة الرصينة لبنية النظام الاحتكاري العالمي، وبفضحها لممارسات قادته وجيوشه، وبتعاطفها عموماً مع الشعوب المظلومة، لكنّها تفاجئنا وتصدمنا عندما تتحدث عن فلسطين والعراق المحتلين منطلقة من ثوابت المحتل، مستخدمة توصيفاته ومفرداته ومتبنّية إستراتيجيته المقرّة رسمياً ودولياً، فيهبط المستوى وينحدر كأنّ المتحدّث انقلب شخصاً آخر بغتة، كما لاحظ الدكتور ثائر دوري في مقالته (أزمة اليسار العالمي) وقد فات الدكتور دوري أن يضيف البلقان إلى فلسطين والعراق، حيث يتّخذ تشومسكي من هذه المنطقة الموقف نفسه! غير أنّ المفاجأة والصدمة تزولان عندما نكتشف أنّ هؤلاء المفكرين ليسوا سوى الوجه الآخر اليساري للنظام الاحتكاري العالمي، فهم يعترضون على ممارسات اليمين ويرفضونها بإخلاص، لكنّهم يتمسّكون بالاحتكار العالمي المتجسّد بالمركزية الأوروبية الأميركية (العنصرية) وعندما تتعارض مفاهيمهم الأخلاقية والمنطقية مع الثوابت الاستراتيجية التاريخية للنظام العالمي فإنّهم يتجاوزونها لصالح هذه الاستراتيجية غير آبهين لتناقضهم ولهبوط مستواهم فجأة، كما هو حالهم عندما يعرّجون على قضيتي فلسطين والعراق، ونراهم يضحّون بهذين البلدين اللذين يعني انتصارهما الحقيقي المؤزّر تهديداً جدّياً للمركزية الأوروبية الأميركية، بفضل موقعهما الاستراتيجي ومكانتهما التاريخية في الماضي والحاضر، وفي المستقبل أيضاً، ولذلك لا يضير هؤلاء اليساريين أن يضحّوا في الوقت نفسه برصانتهم العلمية وبنزعتهم الإنسانية وبمصداقيّتهم!
إنّ مشكلة العرب والمسلمين، الذين يتوقّعون الإنصاف والعدل من اليسار العالمي فيخيب توقّعهم، لا تعود إلى أزمة هذا اليسار، فهو في حال نجاحه في الخروج من أزمته، إن وجدت، لن يغيّر موقفه غير المنطقي من فلسطين والعراق، بل هو لن يغيّره حتى لو حلّ ممثلوه محلّ جميع الحكومات اليمينية في البلدان الرأسمالية! ولفهم هذه الحقيقة ينبغي أن نتذكّر بأنّ الحركات اليسارية الإشتراكية تطلعت منذ القرن التاسع عشر إلى تحقيق انتصاراتها وتطبيق برامجها في أوروبا والولايات المتحدة فقط، وليس في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية التي سوف تحتفظ بمواقعها ووظائفها التابعة المفروضة عليها، وهي المواقع والوظائف التي يقرّرها المركز الأوروبي الأميركي حتى وإن غدا هذا المركز يسارياً اشتراكياً!
لقد اتضحت هذه الحقيقة، بصدد كون اليسار الأوربي وجهاً آخر للنظام العالمي الاحتكاري، في الحرب العالمية الأولى، عندما تفكّكت الأممية الثانية وانحاز كلّ حزب اشتراكي إلى وجهة نظر الدولة التي ينتمي إليها، ورفض الاشتراكيون فكرة تحطيم جهاز الدولة الرأسمالي الاحتكاري وإقامة جهاز جديد قوامه تحالف العمال والفلاحين، كما رفضوا فكرة إمكان قيام الاشتراكية في بلد واحد، وخاصة في روسيا المتخلّفة، أي أنّهم أحجموا عن العمل من أجل تقويض النظام الرأسمالي! وفي ما بعد دخلت أحزاب الاشتراكية الدولية، ومن دار في فلكها، عضوياً في تشكيلة النظام الرأسمالي العالمي، بحيث لم يعد وجودها يعني نفي وجود اليمين الرأسمالي وضرورته، وبالمقابل لم يعد وجود اليمين ينفي وجودها وضرورتها، وغدا فكر الاشتراكية الدولية بمنزلة يسار الفكر الكلي للرأسمالية الاحتكارية! إنّ إثبات هذه الحقائق لا يعني إنكارنا لوجود مشاعر وتطلعات إنسانية في أوساط هذه الاشتراكية، لكنّ ذلك لا يعني جهلنا للحدود الإستراتيجية التي لا تتعدّاها مثل هذه المشاعر والتطلعات، وهو ما يظهر بوضوح في مواقف تشومسكي وأمثاله، بل لعلّ مثل هذه المشاعر والتطلعات التقدمية الإنسانية تخدم، غالباً، النظام الرأسمالي العالمي، من حيث تجميل صورته وتسويغ سياساته وحلّ بعض عقده! أي أنها في المحصّلة، وبغضّ النظر عن براءتها أو عدم براءتها، تخدم مصالح المركزية الأوروبية الأميركية ومليارها الذهبي على حساب مصالح أربعة أخماس البشرية! ويكفي أن نتذكّر وجود حزب العمل الإسرائيلي في الاشتراكية الدولية بكلّ تاريخه الإجرامي ضدّ الفلسطينيين والعرب من جهة، وعدم تناقض وجوده مع وجود حزب جنبلاط التقدمي الاشتراكي اللبناني العربي، مثلاً، في المحفل نفسه من جهة أخرى، فذلك هو التجميل والتسويغ وحلّ العقد لصالح النظام العالمي كما أشرنا!
وللإنصاف ينبغي القول أنّ التحولات التي طرأت على مواقف أحزاب الاشتراكية الدولية، والتي كشفت حقيقتها العميقة، لم تقتصر عليها وحدها بل شملت أيضاً الأحزاب الشيوعية الأوروبية واليسار عموماً، فقبل أكثر من نصف قرن كتب هوشي منه، قائد الثورة الفيتنامية، يقول: “لقد ولدت في مستعمرة فرنسية، وأنا عضو في الحزب الشيوعي الفرنسي، ويؤسفني جدّاً القول أنّ حزبنا الشيوعي لم يفعل أيّ شيء للمستعمرات، ولو قارنا عدد الأعمدة المخصّصة للمستعمرات في صحيفة الحزب المركزية (لومانيتيه) بمثيلاتها في الصحف البورجوازية فإنّ المقارنة لن تكون في صالحنا! وعندما وضعت وزارة المستعمرات (الفرنسية) خطة لتحويل عدّة مناطق أفريقية إلى مزارع خاصة شاسعة، وتحويل أصحابها الأصليين إلى عبيد بكلّ معنى الكلمة، ظلّت صحيفتنا صامتة! وعندما جرى تجنيد إجباري في المستعمرات الفرنسية غربي أفريقيا، بأساليب قسرية لم تمارس منذ قرون، ران الصمت المطبق على صحفنا أيضاً! وقد تحوّلت السلطات الاستعمارية (الفرنسية) في الهند الصينية إلى تجار عبيد، وراحت تبيع سكان فيتنام الشمالية إلى أصحاب المزارع في جزر المحيط الهندي، وعندما باعت القسم الأعظم من الأراضي المستعمرة لطواغيت المال، لم يكن من صحفنا سوى التزام الصمت التام! ولو ذهبنا إلى أبعد فسوف نرى أشياء لا تصدّق تجعل الناس يعتقدون أنّ حزبنا (الشيوعي الفرنسي) يحتقر كلّ ما له علاقة بالمستعمرات! مثلاً، لم تنشر صحيفة الحزب نداء الفلاحين الأممي إلى شعوب المستعمرات! وفي المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الفرنسي كانت المواضيع في جدول الأعمال تتناول جميع القضايا السياسية عدا قضية المستعمرات..الخ”!
وهكذا فإنّ الصمت أو الغمغمة أو غضّ الطرف من قبل اليسار العالمي، أي الأوروبي الأميركي، سواء بصدد المستعمرات السابقة أم بصدد المستعمرات الحالية، كفلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، هو موقف ضمني تاريخي، وتواطؤ مع الأيديولوجية الإمبريالية ومع استراتيجية المركزية الأوروبية الأميركية ضدّ البلدان والشعوب التي يشكّل نهوضها خطراً على النظام العالمي. إنّه تعبير عن الطبيعة الحقيقية لهذا اليسار العالمي، وليس عن أزمته سواء وجدت أم لم توجد!
ns_shamali@yahoo.com