الأزمة المالية تطال المرأة أولاً ونهايةً…فلِمَ هذا الحياد؟

بادية ربيع

(نشرة “كنعان” الالكترونية – العدد 1742)

تدفع النسوة دائماً ثمن حروب الرجال بمعزل عن شدتها، وتقبل النسوة بذلك إلى أن يحل الرجال حروبهم، وغالباً بالدم، وعلى النسوة الدموع! ثم يبدأ الحديث عن المساواة! ولا تتذكر كثيرات من النسوة أن من يمكنه إسالة الدم لن يقبل المساواة مع من يذرف الدموع ولو حرَّةً وصادقة! فالحياة، لا بل المصالح المادية أكثر توحشاً من ما تبدو عليه بمظهرها الخارجي، أو مما يبديها أهل المال والأعمال، او كما اسماه ماياكوفسكي، شاعر روسيا العظيم:

“ايها العالم الرومانسي القذر…سنحطمك

ايها البرجوازيون سنغزل من ملابس أطفالنا البالية مشانق لكم

وسنجعل من جماجمكم منافض لسجائرنا”

داعي الكتابة هنا هو: ما موقع المرأة في الأزمة المالية/الإنتاجية الحالية على صعيد عالمي، من بروكلين إلى الصومال؟

ليس من قبيل المبالغة القول أن الحركة النسوية قد ضعفت في حقبة العولمة، بينما كانت أكثر نشاطاً في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وهي الفترة الزمنية التي جنت الطبقة العاملة بعض المكاسب من نضالها. وهذا أمر يعزز القول بتقاطع، وليس شرطاً تماثل او توحد، بل على الأقل تحالف، النضال الطبقي والنضال النسوي. وهو الأمر الذي طالما رفضته النساء “الراديكاليات” في محاولة منهن للمباعدة ما بين نضالهن وما بين الاشتراكية أو الشيوعية. وكأنما كنَّ يقلن لا مباشرة لراس المال : انتبه سيدنا، نحن لسنا مع الحمر!

في حقبة العولمة، حيث تراجع العمل لصالح راس المال سقط السقف على رؤوس النساء أكثر مما هو على رؤوس الرجال، وتدهور الوضع في البلدان الصناعية وخاصة في الولايات المتحدة بحيث اصبحت النساء والعمال كل “كاسر” إضرابات، أو “احتمال” إضرابات الآخر، وجرت بالطبع مبادلات التهم بالرجعية والركوع والتزلف لراس المال، بينما كان الكاسب من وراء ذلك هي الراسمالية التي لا تقيدها قيوداً.

لعل مثار الاستغراب كذلك أن حقبة العولمة التي اتسمت كذلك بالحرب والعدوان، والتصحيح الهيكلي، وتصغير عدد العمال في المصنع الواحد، إلا أن هذا لم يستنفر أو يجترىء نضالاً نسوياً رغم أنه يصيبهن في العظم، سواء كحرب خارج الحدود القومية أو كعدوان طبقي داخل البلد. صحيح أن النساء شاركن في الاحتجاج ضد الحرب، ولكن هذا الحدث لم يتم استثماره لإعادة ترتيب صفوف الحركات النسوية بما يعمق موقفها ضد رأس المال.

ورغم مآسي الحرب على النساء خاصة، والاغتصاب والقتل لا سيما في العراق وأفغانستان، إلا أن الحركات النسائية لم ترتق على البنية الشكلية للمجتمع المدني وبالتالي لم تقم بانتفاضة على المجتمع السياسي الذي خلق هذه الجرائم. لم تستثمر الحركات النسوية هذه المقدمات الموضوعية للوعي والعمل.

ومما يجعل الأمور أكثر إثارة هي تطورات الأزمة المالية الحالية، لأن النساء هن ضحاياها الأول، لكننا لم نشهد بعد اي حراك للحركات النسوية ولاسيما في مركز الأزمة الذي هو مركز العولمة، اي في الولايات المتحدة. وكأن هناك هيمنة ما “وطنية أو قومية أو طبقية أو إيديولوجية، او جميعها” في هذا البلد الرجعي عمالياً وطبقياً بامتياز، هيمنة تنخر وعي الحركات النسوية والطبقة العاملة فتجعل منهما “حريصتين” على النظام الراسمالي هناك! نعم الأمر غريب لا سيما وأن عدو المرأة والعامل يعلن بنفسه عن مأزقه الاقتصادي والعقيدي معاً!

قرأت ما كتب في عدة مواقع ووكالات أنباء عن مدراء المصارف والشركات والمندمجات الكبرى الذي أداروا الأزمة المالية فسرقوا من عشرات الملايين إلى المليارات، ولم اعثر على اسم إمرأة واحدة، ورأيت ما كتب عن مادوف الذي احتال فسرق 50 مليار دولار تكفي لإنقاذ جميع نساء إفريقيا من الإيدز. وتكفي لتعييش ثكالى حروب وعدوانات الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وكل العالم عيشاً مستوراً.

ها هي البطالة وتقليص عدد الأجراء يجري على قدم وساق من الولايات المتحدة إلى تركيا، وهذا يُطال المرأة بالطبع قبل الرجل. وتزداد توقعات البطالة أكثر. ولا ينحصر الأمر في البلدان الصناعية، فالصين والهند اللتين تضمان بين جنباتهما أكبر عدد من الفلاحين، تعانيان الأزمة الحالية وتستصرخان الشركات والمندمجات لدخولها للحلول محل الزراعة الطبيعية، اي لطرد الفلاحين من الأرض والنساء بالطبع من بينهم.

وفي هذه اللحظة من تجلي الأزمة، اللحظة الرمادية التي لم تتخلص بعد من عقيدة المحافظية الجديدة اليمينية التي تطالب المرأة بالعودة إلى البيت، ولحظة محاولات الشفاء الشيوعي من الركوع الإيديولوجي لليمين، في هذه اللحظة الحساسة من الأزمة يجري تغييب ما يحل بالنساء وهو الأكثر.

لكن هذه اللحظة بالتحديد حيث الولادة الجديدة متعسرة، هي الأنسب للمرأة كي تنتفض على صعيد عالمي. ولا يبدو لي أن المرأة البرجوازية البيضاء، حتى لو راديكالية إلى حد لفظي كبير، لا يبدو أنها المرشحة لحمل المشعل الأحمر. ولو كانت جاهزة لهذا لقادت حملة ضد أوباما وضد الانتخابات في أميركا اصلاً، على الأقل لقادت حملة رفض الانتخابات كي لا تجلب بيدها إلى السلطة من يعمق استغلالها واضطهادها واستضعافها فهي ما تزال مضمخة بهيمنة إيديولوجيا اليمين، والمحافظية والعلاج الاقتصادي بالصدمة.

كتبت النسوة الراديكاليات الكثير ضد اليسار وضد الإشتراكية إلى درجة جعلت مبرر وجودهن هو الهجوم على الإشتراكية ونقد ماركس بأنه لم يكن “نسوياً” بما يكفي، وبالطبع لينين وماو. وممارسة النقد حق حتى لو لم يكن حقيقياً. لكن سيوف النقد هذه ظلت مثلومة، بل في أغمادها، حينما تغولت اللبرالية الجديدة ومسحت حتى تراث اللبرالية القديمة الأقل توحشاً وتغولاً.

أما اليوم، وقد اناخت الأزمة بكلكلها على كل نساء الأرض ورجالها الفقراء، وما أكثر الفريقين فهل ستتدارك الحركة النسوية فوضوية بعض أطروحاتها وتعقد تحالفاً ندياً مع الطبقة العاملة، أم تظل مأخوذة بهيمنة إيديولوجيا البرجوازية اللبرالية التي تذهب بالمرأة إلى أقصى التطرف اللفظي والوداعة الثورية؟

كما تم تأنيث الفقر وتأنيث الخضوع، وتأنيث المرأة، يبدو أن تأنيث الأزمة اصبح أمراً مقبولاً، كي تدفع المرأة الثمن الأكبر. وإذا تم هذا في دول المركز، فما بالك بدول المحيط حيث مجمل عيش المرأة أزمة متواصلة؟

ولكي لا نقع في مشكلة الانحياز الأنثوي، فإن تقصير الحركات النسوية عن التقاط الحدث والمشاركة في محاصرة المحافظية الجديدة وتحالف رأس المال على صعيد عالمي، فإن التقصير منسوب كذلك إلى قوى اليسار والشيوعية والاشتراكية والماركسية التي حتى اللحظة لم تحاول مواجهة الصدمة بصدمة أخرى، لم تتمكن بعد من وضع الشارع على ناصية التجاوز، تجاوز هيمنة راس المال وبدء المهارشة معه. ولكي لا تمر الأزمة دون إضعاف حقيقي لعتاة راس المال لا بد للحركات النسوية أن تدرك أن حليفتها هي الطبقات الشعبية، وأن مصير المرأة هو مصير النساء والرجال المستضعفين معاً. في هذه اللحظة حيث انثلم خطاب اللبرالية والعولمة والمحافظية، لا بد أن يسطع اهل الخطاب الثوري بما يُؤمرون!