ليس مجرد حذاء… وإنما رمز استهدف رمزاً

… وشيء من أسلحة الغضب الشامل!

عبد اللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة الثامنة ـ العدد 1743)

كان مشهداً يُشهدُ له… قلّ نظيره في تاريخ البشرية… حسبه أنه قد دار تحت طائلة الكاميرات، فغدت وقائعه من نصيب أنظار كل العالم، وأضحت مشهديته غير المسبوقة وقفاً عائداً في معانيه للبشرية جمعاء… سارت الأمور على الوجه الذي لم يكن مرسوماً ولا متوقعاً… لم تعد الاحتفالية التوقيعية، التي اصطنعت ديكوراتها بعناية وشاؤوا أن يخرجوها بحيث لا يمسُّ مراميها ما يعكر صفوها المرسوم هي ذات الاحتفالية… وقع الطاغية المحتل اتفاقيته، التي خطّها بنفسه، وقعها مع من أراده ممثلاً لمن يزمع الرحيل عن وطنهم المحتل لكن مع إدامة احتلاله… وقع على ما أراده منجزه اليتيم… وقال، قبل 37 يوماً لا غير من أزوف أوان رحيله عن السلطة، مودعاً ركام عراق دمره و مزقه وأدماه:

“هناك الكثير من العمل للقيام به، فالحرب لم تنته بعد”!

شهر الفتى فرده حذائه و سدده لرأس القائل رامياً، وصاح: “هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي يا ….”، واتبعه بالفردة الأخرى، مفصلاً:”هذه من اليتامى والأرامل وأولئك الذين قتلوا”…

قلب حذائه السحر على الساحر… لم تعد احتفاليتهم المصطنعة رهينة المنطقة الخضراء… لم تعد كذلك، بعد أن غدت حكاية فردتي حذاء كونية طافت روايتها الدنيا واهتزت لفرادتها ورمزيتها شاشات العالم… وقع الزيدي ممثلاً بلاده وأمته والعالم بطريقته الخاصة… وقع رافضاً اتفاقيتهم المحتفى بها فتحولت احتفاليتهم المفتعلة إلى مشهد كوميدي وأضحت مدار تفكه لهذا العالم… هذا العالم المستفز المتعب من تكرار هلوسات وبلطجات وحماقات ممثليها.

هل كان لضربة حذاء مزدوجة أن تشغل الكون وأن يطوف صداها ذهولاً و استحساناً أربع أطراف المعمورة، لولا ما حمل هذا الحذاء من رمزية وما اختصر من معان قوتها تعادل آخر ما وصلت إليه تقنيات الموت من أسلحتهم الفتاكة؟!

وهل لها أن تهز وجدان أمة من محيطها إلى خليجها بدى لبنيها أنها تغط في كهف انكساراتها، فكأنما هي ستؤذن ببدء افاقتها من غيبوبة فرضت عليها، أو تلهب نيران حقد نبيل في رماد زمنها الحزين، لو لم يكن لها ما لها مما احتوته من رمزية؟!

* * *

لم يكن حذاء منتظر الزيدي مجرد حذائه، و لا كان ساعده الذي القاه هو مجرد ساعده، وانما هو حذاء كل العراق الأسير… كل الأمة الكسيرة… والبشرية كافة، هذه الظمئى إلى لحظة انعتاقها من بغي تمادى… التائقة لاستعادة انسانيتها من براثن وحشية توغّلت، وتطهيرها من فجور هيمنة تسنده آلة دمار فتّاكة إنفلتت وعاثت حتى عجزت… كان رمزاً استهدف رمزاً!

إنه سر منتظر الزيدي الذي يكمن في كونه قد جاء بسابقة ستغدو مثلاً يحتذى ومثالاً سوف يخلّد… عبر الفتى بسلاح لا يملك سواه عن موقف شعب، وغلّ دفين لوطن جريح يستباح، وأمة مقهورة تنتهك كرامتها، وانسانية مستائة يهتك ضميرها… قام بما عجزت عنه احوالنا وأقلامنا و إعلامنا… غدا رمزاً لعنفوان عراقي تليد ثُلم ولم يُفلُّ، وكبرياء أمة مجروح حتى الثمالة لكنما لم تستنزف مخزونه التليد المحن… انتقم حذائه لأبي غريب، لغزة، لكل بقاعنا الثكلى المدماة المهانة، من قمم زاغروس حتى عميق الأدغال الإفريقية… نَفّسَ عن كبت أمة لم يشأ تنفيسه ولا يجب تنفيسه وإنما تفجيره… نبش أكداس عميق مخبوء حقدها النبيل علّها تصحو… أطلق شماتة عالم ارتعد لما يقارب العقد مرعوباً أمام تكشير أنياب وحش الاستباقية المستشرسة السادرة في غيّها.

* * *

ما كان لرأس المتلقي أن يتفادى حذاء الزيدي دون أن ينحني له، وهو إن نجى فقد أصاب الحذاء العلم الذي قدم لغزو العراق تحت ساريته… أصابت الضربة الزيدية، الاستباقية الأمريكية، أنف السياسة الأمريكية، هامة الإمبراطورية البادئة بيارقها تواً في الأفول… رأس المشروع الغربي المعادي المزمن في دنيا العرب… لقي المُتلقي لها ما استحقه… كان غازياً قد جاء العراق آملاً بأن يستقبله العراقيون بالزهور، أو كما صوّروا له، فودّعوه هؤلاء بحذاء الزيدي الأمثولة… بدا أنه لم يتفاجأ… علّق، راسماً ذات الابتسامة البلهاء:”وماذا إذا رماني شخص بحذاء”!

وأردف: “هذه أمور تحدث عندما تكون هناك حرية”… ترجم زبانيته هذه الحرية بأن اقتادوا البطل مضروباً، مدمياً، مسحولاً… كان منهم هذا، كشاهد منهم على ديمقراطية احتلالية جلبوها مع دباباتهم، أما الحذاء الرمز، القذيفة الغضبة، فاخضعوها لاختبارات البحث عن المتفجرات… عن ثمة نوع من أسلحة الدمار الشامل… عن تلك الأكذوبة التي جاؤوا غزاة تحت مظلتها… لاحتلاله بزعم البحث عنها، فلم يعثروا إلا على أحذية الغضب الشامل التي ودّعوا بها… ربما عليهم أن يلحقوا بالاتفاقية الاحتلالية قريباً بنداً غفلوا عنه قبل ابرامها، هو إلزام العراقيين بخلع أحذيتهم و السير حفاة اثباتاً لتقيدهم بها وتعبيراً عن امتنانهم لفائض بركاتها!

* * *

أعلن منتظر الزيدي أن لا زهو لمحتل في ارض السواد وإنما ما تعنيه الأحذية المقاومة… أحذية، أسلحة، لشعب مقهور، وغضبة أمة أهينت. أمة نزعوا سلاحها فواجهتهم بأحذيتها… ويبقى المهم، و هو أن يوقظ المشهد إرادة أمة غيّبت، ولا يكتفي بتنفيس احساسها بمهانة كاد أعداؤها أن يخلدوا علقميتها… أمة يجب أن لا تكتفي نخبها بالتظاهر رافعة حذاء يرمز لأسلحة غضبة الزيدي الشاملة، تنفيساً، تعويضاً، عن فعل مستوجب انعدم … لأن الواقعة البغدادية، التي تردد صداها كونياً، لتغدوا ساحات العالم مسارح تمثل على خشبتها مشهد أحذية تتساقط على دمية متلقيها في الساحة الخضراء، حتى في تلك المحاذية للبيت الأبيض، يجب أن تفجر رمزيتها حقداً نبيلاً يعلن استعادة أمة لمخطوف ارادتها المغدورة، ويؤذن بفجر نهوضها الذي قال حذاء منتظر الزيدي أنه طال انتظاره… وبدون هذا، سوف لن تعدو “فشة خلق”، ولن تغدو أكثر من حادثة تلحق بسواها، من تلك الوقائع الكثر المعبرة عن أوجاع أمة أزمنت… أو روائع تلك البطولات التي تحفل بها تواريخنا الاستشهادية… تضحياتنا الهائلة الدائمة التي لا يفيد منها حالنا ومآلنا.