غزة: بين المجزرة… والمجزرة…ما العمل؟

عادل سمارة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1752)

“لو ترتب على المذبحة عدم اعتراف حماس والجهاد والشعبية والمقاومة كلها بالكيان الصهيوني الأشكنازي، نكون كسبنا المعركة. ولن يعترفوا، لذا، نكسب المعركة.”

* * *

القاعدة الأساسية للصراع

هم أتوا غُزاة، ونحن لم نذهب إليهم، هم أتوا مسلحين ونحن عزَّلاً، هم نتاج النازية والفاشية، ونحن نتاج التسامح وطيبة الشرق، وعبق تاريخه، هم مشروع راس المال ونحن مشروع الشراكة في الماء والكلأ والنار، هم مدرسة العنصرية الكالفنية والإنجيلية الجديدة، ونحن عرب من لا يقطع نخلة ولا يقتل كهلاً ولا طفلاً ونحن الأرثوذكس العرب والمسيحية الشرقية. هم تجميع الغرب العنصري الجشع والمتكبَّر وأزرق الدماء، ونحن البشرة السمراء، والدم الأحمر كالشفق. هم ابناء يهودا وعازر ذي الحمار، ومغتصبي النصرانية ومرسمليها وواضعيها في خدمة ألإمبريالية، هم صانعي المسيح المصنوع في الغرب الراسمالي مسيح النابالم ونحن أهل عيسى الحقيقي الذي قتلوه، ونحن لطيبتنا نحاول تبرئتهم من دمه. هم استعماريون ومستوطنون ونحن أهل البلاد.

أتوا بالحديد والنار ليُخرجونا من كل شبر وليذبحوا من لا يخرج، ولن يخرجوا هم بغير الحديد والنار. فالمكان بعقلهم المريض لا متسع فيه للأغيار، لا متسع فيه لأهله!

لم يكن بوسعهم القدوم الغازي وحدهم. أتى بهم راس المال من أوروبا وأميركا. هم تجميع قطع غيار من مختلف العربات المتهالكة في التاريخ، ونحن تاريخ واحد. هم حركة عنصرية متعددة القوميات، ونحن امة من الأمم القديمة المتجددة. هم ظل رأس المال يحملهم ويحميهم ويغذيهم حتى لحظة ذبح غزة. ولم يكتف أن خلق لهم حُماة محليين، لتكشف ملحمة غزة، أن الثلاثي متكاتف بأوضح مما اعتقد أفضل محللينا. نعم، الكيان الصهيوني يقود طائرات أميركية ودبابات أوروبية، وحكام اميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا وكل الغرب بمن فيه الغرب في شرق أوربا يباركون ويلقون اللوم على غزة والعرب والإسلام، وحكام الوطن العربي يباركون ايضاً وقلة منهم تشجب ولا تجرؤ على إشعال لتر نفط، لأن النفط لهم! أما فلسطين وبغداد ومقديشو وبيروت فهي نحن!

أتوا غزاة ومستوطنين ومستعمرين، أما وهم هكذا، فلا مكان لهم إلا أن يُهزموا ويستسلموا، وعندها نقول لهم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، أو كما قال حزب الله لعملاء جنوب لبنان، لن نقتلكم. هي إذن معركة حياة أو موت.

لمن لم يدرك هذا من قبل، ليدركه اليوم. لا بد من هزيمتهم وإن طال السفر. هم يدركون هذا، ونحن ندرك هذا، ولا مكان لسلام معهم. لقد أتوا ليأخذوا التراب وليس الخَراج! فأين نذهب؟

ولأنهم أتوا، فالمكان لنا، ولن يكون لنا ولهم، إلا أن يتحولوا مثلنا، ويتعلموا منا. هم لا أرض يملكون، فلن يُقيموا على أرض لا يملكونها، فحين يملكونها يجعلوا ترابها نابالم، فليست ارضهم. لن يُقيموا بسلاح لأنهم به يَقتُلون، ولا مال به يعبثون. لا مكان إلا أن يعيشوا كما كانوا مشتملين بكرمنا وسماحتنا من الأندلس وحتى القدس. هل سيرحل منهم كثيرون، سندفع لهم عندها أكثر مما دفع لهم نوري السعيد ليأتوا من بغداد إلى فلسطين، سيفعلوا ذلك ويقبلوا لأن وطنهم هو المال والمضاربات، وليس أولهم شيلوخ ولا آخرهم مادوف. أما بيت ابي سفيان فسيظل مفتوحاً لمن أراد اندماجاً غير مهيمن.

القاعدة الأساسية للمقاومة

حين انقضُّوا على أطفال غزة، قال بعضنا: جلست أمام شاشة الفضائية/ات ولم أُطق ما أرى لهول المجزرة، ولهول المؤامرة ولهول الصمت، ولعظمة الصمود. وقال بعض آخر: لم أُطق النظر إلى الشاشات، أغلقتها وأغلقت عيني، ورحتُ أغطُّ في جُبْنٍ عن رؤية الحقيقة. وبعض آخر لم يقل شيئاًً.

وقبل أن تُصبح هذه الحالات عادةً وطبعاً، نبادر بالسؤال:

لا يبدأ الأمر ولا ينتهي عندما تفتح المجزرة باب جهنًم. بل يبدأ الأمر ولا ينتهي حين نُجيب على سؤال مفتوح كالتاريخ، بل هو ابن التاريخ ومحركه: ما الذي عمله كل منا بين المجزرة والأخرى؟

السؤال بأثر يرجع إلى الوراء عقوداً إن لم نقل أكثر. منذ خطة سايكس- بيكو، والاستقلالات القطرية الشكلية، وبلورة أنظمة مصنوعة بيد الأجنبي ولصالحه بيد من يسلحون ذابحي غزة، بيد راسمالية أوروبا واميركا، قراصنة التاريخ الممتد منذ قرون، وإقامة اقتصادات تابعة، وهزيمة عام 1948 في فلسطين، وعدوان 1956 على مصر، ومجازر فرنسا في الجزائر، وهزيمة عام 1967، ومجزرة بحر البقر في مصر، وعدوان 1982 على لبنان، وتدمير العراق 1991، واحتلال العراق 2003، والعدوان على لبنان 2006، واحتلال الصومال 2007، ومجازر دارفور الممتدة منذ سنوات، ومجزرة قانا، ومجزرة غزة 2007، واليوم مجزرة غزة الدائرة كالقدر أثناء كتابة هذه الكلمات.

مرة أخرى، ما الذي فعله كل مواطن، ذكر أو أنثى، كل مؤسسة، حزب، جمعية، جندي، ضابط، نقابة، إتحاد…الخ ماذا فعل كل منا بين مجزرة وأخرى؟

نعم، ننشدُّ يوم المجزرة، نتوتر، نحنق ننفعل نتدفق ربما إلى الشارع، نبكي…الخ وبعد المجزرة نعود إلى شراء منتجات الأعداء، التخلف عن الإنتاج، الاستماع لإذاعات الأعداء، التهام ثقافة الأعداء، الحديث عن إمكانية السلام مع الصهاينة، التكاثر بلا حساب، الحديث عن أن الولايات المتحدة (عدو أحياناً)، الحديث ان اوروبا أكثر رحمة من أميركا، تصنيع أحدث قيود اعتقال المرأة، الاستهلاك للمعدة وليس للذهن، التغاضي عن التطبيع، تجاوز المقاطعة، تمرير خطايا المثقفين المتخارجين، التقرب من منظمات الأنجزة، الغفران للأنظمة ما فعلته وهو لا يُغتفر، عدم معاقبة رجال المخابرات الذين يعذبون من يذكر اسم الله والوطن، الركض وراء الربح بدل العمل والانتاج والاشتراكية ليعيش الكل جميلاً مكتفياً وعزيزاً.

نغوص في هذه وفي غيرها إلى ان تنفجر على رؤوسنا المجزرة التالية، فننفجر ندماً وحسرة ولوعة وصراخاً.

مع كل المعذرة والتفهُّمْ، هذا سلوك بشر بلا ذاكرة، ومن ثم بلا تاريخ. هذا ما يتم اليوم أمام مجزرة غزة. وهذا ما تراهن عليه الأنظمة العربية التي شاركت في المجزرة بدرجات، بين مشارك يشد على يد تسيفي لفني، وبين مغتبط يخفي ذلك، وبين من لا يملك من أمره شيئاً، ولا يهمه سوى عرشه. لذا، كان آخر ما قالوه وهذه السطور قيد الكتابة: “إن الأنظمة العربية لا تستطيع مساعدة أهل غزة”

حديث كهذا ينطوي على خبث أكثر مما هو على جُبن. خطاب في منتهى الخطورة، بأن غزة هي المعتدية، وأن غزة والكيان جارين طبيعيين، وأن القطريات العربية جارات محايدة. خطاب يقتلع من ذهنية المواطن العربي أن الأمة العربية هي الطرف الأساسي في الصراع،وليست جارة. وحين يقتلعوا البعد القومي، يكون على فلسطين السلام!

لعل المهم أن هذه الأنظمة قد فهمت المعادلة جيداً: سوف ينفعل الناس ويصرخون ويهددون ويبكون بالطبع، لكنهم سوف يعودون للنسيان وإلى الحياة الرتيبة، وعندها سوف نفعل ما دأبنا عليه وأكثر، وسنؤكد كأنظمة : أن ما يحدث هو شأن جيران، لا شأناً قوميا داخليا من الطراز الأعلى.

ليس هذا تجنٍّ على الناس. في عام 1938 خرج أهل بغداد في مظاهرات ضد الكتاب الأبيض الذي طلع به الاستعمار البريطاني لفلسطين، وخرج سليمان باشا، رئيس الوزراء العراقي، على راس المظاهرة. وفي الليل استدعاه السفير البريطاني، فسأله كيف تتجرّأ على هذا؟ فقال: أقول لهم ما يريدون سماعه، وبعدها أُنفَّذ لك ما تريد!

وفي عام 1988، التقى صحفي صهيوني أحد كبار قادة منظمة التحرير في الجزائر، وأكد له ذلك القائد أن القيادة جاهزة للاعتراف بالكيان الصهيوني، ولكن إعلان ذلك لم يحن بعد، ولا داعٍ أن يعرفه الناس، لأنهم لن يقبلوا به. وعام 1987 قال محمود درويش للصحفي الصهيوني حاييم هنجفي: “المثقفون الفلسطينيون جاهزون للتفاوض مع الإسرائيليين” وكان ذلك من مقدمات اغتيال ناجي العلي. هل نغفر لهؤلاء ما فعلوا، لأنهم كتبوا سطوراً غيرها؟ كلا!

لو كنا نقوم بما علينا القيام به بين مجزرة وأخرى، لصار بوسعنا رد المجزرة أو منعها، أو القيام بالهجوم المضاد وبالمبادئة بحرب تحرير شعبية لا مجازر وحشية على الطريقة الصهيونية والغربية الراسمالية، طريقة الحيوان الأبيض. العبرة في التعبئة المتواصلة، في التحضير المتواصل، في الشعور المتواصل بالواجب، في عدم التفريط في أبسط الأشياء. وليست العبرة في الانفعال في اللحظة وعلى امتداد اللحظة، والخلود بعد اللحظة للنوم دهوراً.

لكن المجزرة، أنَّى سارت تطوراتها، فقد أكدت الحكمة الرئيسية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني وهي: أن هذا الدم قد دحر التسوية مسافة إلى الوراء. وهذا إنجاز حقيقيْ. فالتحرك الشعبي العربي، وانكشاف الأنظمة العربية باعد ما بين الشعبي والرسمي، أنجز الطلاق النهائي وأكد رفض وجود الكيان الصهيوني، وأعاق تقدم التسوية والتطبيع. أكد أن المطلوب تحرير فلسطين وإنجاز حق العودة وإعادة فلسطين كجزء من وطن عربي واحد واشتراكي. وهذا عكس وجود الأنظمة القطرية، عكس مجرد وجودها.

سيقول البعض، ولكن كم نزف من الدماء؟ هذا كثير، ولكن تحرير هذه الأمة، من عدوان أمم في مختلف أرجاء الأرض، يحتاج لغزة في كل شبر من الوطن العربي! هذه اصول المعادلة، فمن شاء فليصمد ومن شاء فليخون كما تفعل القصور وأوسمة الجنرالات.

دفعت الأمم المتحررة عشرات ملايين الضحايا كي تتحرر، ونحن نضيق بأي جرح! لنا أن نضيق باي خدش إذا كان بالمجان. وعلينا ان لا نضيق بأعلى التضحيات حين تكون للحرية والكرامة.

بين المجزرة والمجزرة، هل كنا نقول لأطفالنا كل صباح، تعلم واكبر كي تخلع الحاكم العربي، كي ترفض التطبيع، كي تقوم بالمقاطعة، كي تركل المؤسسات الغربية المغروسة هنا كالسرطان بقدمك، كي تاكل الزعتر، وليس الهمبورجر؟ كي تفهم ان على الصهيوني أن يركع هنا، ونمنحه الأمان كما تعودنا.

هل كنا نقول لأبنائنا اكتبو في دفاتركم اسماء العملاء والمطبعين، وباعة النفط للعدو، ومن يشترون منتجات العدو الأميركي والأوروبي، أكتبوا تحت نعال أحذيتكم اسماء مدراء الأنجزة الذين قبضوا ثمن كرامة الأمة وعذرية تاريخها ليشيدوا بيتاً أو ليُقيِّدوا رقماً آخر في حساباتهم البنكية.

هل كنا نقول لأطفالنا بين المجزرة والأخرى احتفظوا بأسماء المثقفين الذين بعد المجزرة بيوم، وربما خلالها، يندسون إلى منظمات الأنجزة ليأخذوا شيكاً كُتب بدم بكارة عذراء عراقية، أو شيخ صومالي، أو مقاتل فلسطيني أو شهيد من حزب الله؟ ومن ثمَّ يوقعون بياناً يدين المجزرة فيبدون كمن غسل ضميره من دم الوطن؟

هل كنا نقول لأطفالنا ارجموا أوكار الغرب الراسمالي هنا، الأوكار الملأى بألفِ صِلٍّ “المؤسسات والجمعيات والمراكز الثقافية والتنموية ومؤسسات الأنجزة” تنفث السم في الذهن، سموم التطبيع والتعايش والمجتمع المدني والتمكين الزائف للمرأة والديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما من أرسلوهم إلى هنا يملئون معدة الطائرت القاذفة باللهب والنار لتُلقى على عُراة غزة وبغداد والصومال ولبنان والسودان!

معركة تطهير ليتم التحرير

لا تقٌبل الصلاة بلا طهارة الجسد، ولا يُقبل النضال بلا طهارة العقل والروح. ولا يُعاد الوطن المسلوب بلا تطهير الوطن الذي لم يُُنهب بعد. بصمود غزة يتم تطهير الوطن من تراث أوسلو البغيض. اليوم، وشلال الدم يسيل، أنظروا إلى وجوه أنظمة وقيادات التطبيع، إنها صفراء ترتعش لأنها تعرف أن الدم هو تلقيح الأرض بمقاومة لا تلين، هي إرساء أسس تقويض عروشهم مصالحهم ومخادعهم وحاناتهم ويخوتهم. هم مرتاعون رغم أن الذين يُذبحون: نحن!

يُطهَّر الثلج الأرض من الجراثيم، ويطهر الدم الهواء من العملاء، والنفوس من الذل، والعيون من الرَمَدْ، والمثقفين من الجبن والنذالة وكتابة تقارير العسسْ. ليس الدم موتاً بل حياة تقول: موعدنا في العام القادم، في العمر القادم في الدهر القادم، فكل ما قادم هو أجمل. نعم حين ينبت الدم ورداً أحمر، وأطفالاً معافيين، ونساء متماسكات، ورجالاً رصينين، وارضاً معطاءة وفكرأ حراً، وحرية ومساواة بين النوع وبين القوم وبين الأمم. حينها، يكون الوجود الإنساني عملاً وحباً وثورة.

سيدي الصغير الآتي، كي لا تولد ميْتاً، كي لا تعيشِ ميْتاً، تذكر كل لحظة أنك مناضل بالمطلق، أن عليك جعل كل لحظة من عمرك اشتباك، كل لحظة معركة مع كل ما يحيط بك من الأعداء، من التاجر اللص، إلى الشرطي العَسَسْْ، إلى الحاكم المستخذي، إلى القائد الفاسد، إلى الجاهل الاستهلاكي، إلى البليد الذي لا يعمل…

ما أوسع المهام وما أضيق الزمن!

لو ترتب على المذبحة عدم اعتراف حماس والجهاد والشعبية والمقاومة كلها بالكيان الصهيوني الأشكنازي، نكون كسبنا المعركة. ولن يعترفوا، لذا، نكسب المعركة. في هذا المناخ العربي المجافي، والعالمي المنافق واللصوصي والنهبوي، فإن عدم الاعتراف انتصاراً، وبعدم الإعتراف ييأس العدو، ويدرك أن لا مكان له إلا الاستسلام. متى، ليس مهماً. المهم ان نستمر في الحد الأدنى من الاشتباك: نحن لن نعترف بكم!

أما صُنَّاع المجزرة، فتتحدث عنهم صورهم.