الجامعة العربية حاضنة وفرَّاخة القطرية

الوطن، عند القطرية، مكان

إذا كان مشروع التجزئة ممكناً، فلماذا يكون مشروع الوحدة مستحيلاً[1]؟

(الحلقة الثانية)

عادل سمارة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1772)

الدولة كما هو مألوف عالمياً، وإن هي جهاز في خدمة طبقة على حساب الطبقات الأخرى، وإن كانت تحكم بالسيطرة أو بالهيمنة أو حتى بإيديولوجيا ما قبل الثورة الصناعية، مثلا حق الملك الإلهي، او الدين…الخ، إلا أن الفرضية الأولية لوجودها: أن تحمي وطن، ولا تتعامل مع الوطن كما لو كان مكاناً عابر الوجود، أو عابرٌ وجودها فيه، وبالتالي ليست معنية في حمايته أو الدفاع عنه. كما لا تبالي إذا أقتطعت منه أجزاء، طالما بقيت بيدها تلك الدائرة الصغيرة حول القصر، وقطيع من أشباه الرعايا!

دولةُ أصغرَ منزلةٍ عشرية

الدارج في الدولة، ولا سيما في ما يسمى عصر الدولة القومية، الدولة العصرية، بما هي نمط أوروبي تبلور مع الثورة الصناعية وبالطبع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي فهي معنية بالضرورة بتوسيع رقعتها الجغرافية او سوقها أو كلتيهما، وهو الأمر الذي نقل الرأسمالية في المركز إلى مرحلتي الراسمالية الاستعمارية والرأسمالية الإمبريالية وأخيراً راسمالية العولمة.

أما الدولة القطرية العربية سواء الريعية أو/و دولة الكمبرادور، فهي على العكس متحولة إلى الداخل فيما يخص عجزها الإنتاجي، ومتخارجة فيما يخص مصالحها وولائها وديمومتها. بل قابلة لأن تتفكك هي نفسها إلى جزيئات، أو أن يقوم العدو بتفكيكها وحيث يتم التفكيك تتكيف معه وتصبح التجزئة أمراً عاديا، بل إيديولوجيا مقبولة إذا ما تطلب المركز تفكيكاً أعمق لها. لذا، فالمقاومة الفلسطينية مصدر حرج للدولة القطرية لأنها ترفض المقاومة في مختلف القطريات التي لها أراضٍ محتلة، وهناك الكثير من الأراضي العربية المحتلة كاقطار بأكملها أو اجزاء من اقطار!

هذا ما أرساه اتفاق سايكس-بيكو، وهو ما حافظت عليه الدولة القطرية العربية وطبقت توليداته في المناطق من الوطن العربي التي لم ينص عليها اتفاق سايكس-بيكو نفسه، كالمغارب العربية وإفريقيا العربية (باستثناء مصر)، ودويلات الجزيرة العربية. واليوم، تتم عمليات تفكيك القطرية الواحدة إلى جزيئات أخرى.

تشكيل الجامعة كبديل للوحدة…وموتها لتسهيل الوحدة

لكي لا يتم توحد أو توحيد القطريات العربية جرى إرساء اساس لتثبيت القطرية، تركيزها وتقديسها عبر تشكيل جامعة الدول العربية كبديل لمشروع الدولة العربية الواحدة أو الموحدة. فمجرد وجود جامعة الدول العربية هو إقرار ب “حق” كل قطرية بالانفصال عن الأخرى، واعتبار كل واحدة أن الأخرى جارتها، وأن ليس مطلوباً لعلاقتهما سوى “حسن الجوار”. وحسن الجوار لا يشترط علاقة خاصة، فهو يفترض عدم الاعتداء، بمعنى أن من حق الدولة القطرية الواحدة أن تقيم علاقات أقوى مع اية دولة بعيدة إذا شاءت، أي شاءت مصالح الطبقة الحاكمة فيها، وأن لا تتبادل مع اية دولة عربية جارة لها في اي مستوى، بل أن تحاربها في حالات معينة، اليمن والسعودية، الجزائر والمغرب، مصر وليبيا، بينما أراض كثيرة محتلة.

وهذا اسس بدوره لتبرير علاقات التبعية بكل معانيها لدول المركز الإمبريالي على اعتبار أن لكل دولة “حق” اختيار علاقاتها حتى لو كانت على حساب “جارتها” العربية، وحتى لو كانت الدولة الأجنبية معادية ل “الجارة” العربية. وهذا أسس بدوره لاعتبار الكيان الصهيوني دولة جوار، وإقامة دول معينة علاقات معها دون أن تقيم علاقات مع دول عربية أخرى!

واليوم، والجامعة العربية تقف عاجزة بين شقيها:

* شق ينفذ الإملاءات الأميركية بمواصلة ذبح الفلسطينيين في غزة وصولاً إلى راس المقاومة، وهو شِق لم يعد لديه ما يخفيه. فهو مع الاعتراف بالكيان وتثبيته في فلسطين وربما ابعد منها. ومع إنهاء اية مقاومة لأنه يرى في المقاومة حضور الشعب لتفكيك الدولة القطرية.

* وشق يرفض الإملاءات الأميركية ويحاول الإفلات من قبضة أميركا المتراخية واستثمار هذا التراخي لتحسين شروط الدور العربي عالمياً ووقف نزيف دم الفلسطينيين.

هل ستعود الجامعة العربية كما كانت؟ ربما لا. لكن المهم أن هيمنة الكمبرادور والتطبيع عليها آخذة في التراخي. وعليه، فمجرد انعقاد قمة الدوحة هو:

□ خروج على الهيمنة الأميركية.

□ إرغام أميركا على القول للكيان، ها نحن نفقد من نفوذنا بينما لم تنتصروا.

□ جلوس الشيعة في ضيافة السنّة، وهذا نسف لخبثاء الفتن الطائفية.

□ جلوس الرئيس اللبناني في القمة باسم المسلمين ايضاً،وانكفاء السنيورة في منزله الوثير، يا إلهي ما أجمل هذه اللوحة!

□ حضور السنغال عن المسلمين.

□ حضور فنزويللا عن العالم باسره، كأني ارى صورة جيفارا تغطي الوطن العربي ويزور ناصر في مثواه كما زاره عام 1965 في القاهرة.

لو كان لنا أن نعطي الأمور حقها، فهذه قمة بمعنى القمة. أول قمة حقيقية.

التمهيد للاندماج المهيمن

لقد خدمت جامعة الدول العربية الكيان الصهيوني منذ بداية وجودها، على الأقل في هذا السياق. فهي مؤسسة لم تمانع في وجود علاقات سرية بين أكثر من دولة عربية والكيان الصهيوني قبل عام 1948 حيث سمحت بتدفق اليهود العرب إلى الكيان الصهيوني[2] منذ عام 1948، ولا تمانع في إبقاء أية دولة تعترف بالكيان الصهيوني عضو فيها، أو أية دولة تقيم علاقات مع دولة إمبريالية تعتدي على قطرية أخرى أو تحتلها! لدينا أمثلة احتلال اميركا للعراق وإثيوبيا للصومال الذي انسحب مهزوما اليوم (16-1-2009). ماذا قدمت الجامعة العربية للصومال؟ لا شيىء، بل ايدت الاحتلال بصمتها!

وعليه، فإن استمرار عضوية الدول القطرية التي اعترفت بالكيان الصهيوني الإشكنازي يمهد السبيل للمشروع الصهيوني الذي يرمي إلى دمج هذا الكيان في الوطن العربي اندماجا مهيمناً Integration through Domination. في خضم التحفيز والإثارة والتهييج لحرب طائفية في الوطن العربي بالنيابة عن الإمبريالية والصهيونية، ولمواجهة مشروع إيران النووي، اقترح وزير خارجية البحرين ضم الكيان الصهيوني إلى جامعة الدول العربية. فهل هناك أكثر من هذا اندماجاً مهيمناً للكيان في الوطن العربي؟

تطبيع الشعب على التجزئة

هذه المرتكزات للدولة القطرية العربية هي نفسها التي جعلت مشروع التجزئة ممكنا، وتعمل على جعل مشروع الوحدة مستحيلاً لأنها هي نفسها مشروع تجزئة ولأن لها مصالح متناقضة تماماً مع مشروع الوحدة.

ولتحقيق هذا الأمر، ركزت هذه الدول على تضخيم “مقومات” القطرية سواء العَلَمْ أو الثقافة أو المؤسسات، لكن ما جعل القطرية متماسكة هو البوليس والقمع والجيش والعسس…الخ ليشعر المواطن أنه في بلد “قوي” من حيث الشكليات ومن حيث ماكينة الذبح على الرصيف.

لكن هناك سمتين اساسيتين تؤكدان هشاشة هذه الدولة القطرية وعدم شرعيتها.

الأولى:المؤسسة الأمنية. فقد ركزت الدولة القطرية على الاحتماء بأجهزة أمنية هائلة العدد والعدة، ودربتها على العداء المطلق للشعب كي تقوم هذه الأجهزة بسحق اية معارضة او احتجاج مما يحقق استمرار النظام الحاكم حتى لو مارس كافة أنواع الخيانات القومية والوطنية. فالدولة القطرية دولة أمنية بامتياز. وبما هي اقتصادياً دولة ريعية، لا دولة إنتاج، فهي اقل حاجة للديمقراطية والحريات الفردية التي يفرض وجودها درجة ما من المتسع للمجتمع المدني وحاجة الطبقة المالكة/الحاكمة لمناخ ديمقراطي يحول دون الاشتباك مع الشارع وبالتالي تعطيل خط الإنتاج.

في الدولة الريعية تحديداً يغيب خط الانتاج، بمعنى أن القطاع الخاص شبه غائب، فهناك سيولة مالية دون خط إنتاج، هناك بورصات أسواق مال دون وجود شركات إنتاج حقيقي. وبالتالي يتم تمويل أجهزة الأمن والإدارة من السيولة المالية الريعية.

أما دولة الكمبرادور، فيتم تمويلها من أتاوة تفرضها دول المركز على دول الدخل الريعي لتساعد دول العجز، أو بمساعدات من دول المركز نفسها لتثبيت أنظمة الحكم في دول العجز هذه.

والثانية: هو عدم اكتمال البنية: وهذا مصدر التشوه الرئيسي لهذه الدول وهو الناجم عن كونها مختلقة وغير طبيعية بمعنى أن كل دولة قطرية تشتمل على مقومات إيجابية بينما تفتقر لأخريات تتوفر في غيرها، إلا أن مجرد وجودها القاضي بالتفكك يحول طبعاً دون الذهاب باتجاه تكاملي. فمصر التي تفيض بفائض سكاني على مختلف انواع حاجاتها، تفتقر للسيولة المالية لإقامة مشاريع تنموية، بينما دويلات الخليج تفتقر للعنصر البشري لدرجة أن معظم سكانها من العمالة الأجنبية الوافدة والتي لا ضمانة بأن لا تعلن نفسها دولاً، أو يخلق منها المركز ذلك!

لكن هذا التشوه البنيوي تتم حمايته، بما هو المقوم الأساس لهذه الدول، عبر اعتماد السيطرة بالقوة والقمع.

القمع اساس المُلكْ

أما وهذه التشوهات هي مكونات اساسية للدولة القطرية، فقد اعتمدت القمع لتثبيت سلطتها. وعليه، فإن الوطن العربي يخلو تماماً من ظاهرة المجتمع المدني حتى بالمفهوم المشوّه لنظرية غرامشي في هذا الشأن. فإذا كان دور منظمات المجتمع المدني هو المساهمة في تثبيت هيمنة الدولة من خلال تهذيبها، اي ليس عبر الشرطة والسجون والجيش عند الضرورة، فإن هذه المنظمات ليس لها هذا الدور في الوطن العربي، كما أن المجتمعع السياسي في الوطن العربي لا يسمح بذلك ولا يتحمله، هذا ناهيك عن أن المجتمع السياسي في الوطن العربي هو حالة سابقة أو ما قبل المجتمع السياسي في الغرب الراسمالي الذي يحاول الهيمنة بالإيديولوجي، اي إيديولوجيا اللبرالية سياسيا والراسمالية إقتصادياً.

فالدولة القطرية ، بما هي راسمالية محيطية ليست رأسمالية مكتملة بالطبع. وعليه، فإن إيديولوجية هذه الدولة هي القمع المكشوف والتنكر لحقوق المواطنين وكراماتهم والتنكر لحدود الوطن نفسه، مما يجعل العلاقة بينها وبين الناس قمعية بحتة.

لا ترتكز إيديولوجيا القمع على الهيمنة، بل على الخوف والرعب، اي استدخال الهزيمة داخليا أمام السلطة بمعنى أن لا أفقاً لإسقاط دولة البوليس حيث امام كل مواطن شرطي أو جندي مدجج بالتعطش للدم، مفصول عن العلاقة بالوطن ومدجج بالسلاح كي يتمكن من سحق المواطن دون أن ينزف قطرة عرق، ومشترىً بالراتب والامتيازات. لذا، لا بد من استراتيجية دفاع شعبي أخرى.

قد يجادل البعض بأن رواتب الجند في الوطن العربي ليست عالية بما يؤكد كونهم مشتريين من قبل النظام باثمان بخسة. لكن عامل البطالة والفقر والنمو السكاني بلا حساب وكذلك الأزمة الاقتصادية العالمية حتى قبل انفجارها الأخير، كل هذه تلعب دوراً بارزاً في اقتناع الشرطي بأنه “صاحب امتياز” إذا ما قورن بجاره الذي لا يعمل اساساً!


[1] هذه الجملة كانت عنوان مقالة كتبتها عام 1987 في رد على إميل حبيبي الذي هاجمني في دفاعي عن ناجي العلي قبيل اغتيال ناجي، وهو الاشتباك الذي انتهى باغتيال الرفيق ناجي العلي. كتب إميل حبيبي آنذاك عنا: “الحمير القومجية” وغيرها. وها هي الجماهير العربية اليوم تختنق بها شوارع الوطن في استفتاء على الوحدة.

[2] أنظر عادل سمارة ، الاقتصاد السياسي للصهيونية: من المعجزة إلى الوظيفية، منشورات مركز المشرق /العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2008.