العدوان على غزة : الصراع بين المخيم والمستوطنة

أكرم إبراهيم

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1774)

قبل بدء العدوان على غزة بشهر كلفت إسرائيل سفاراتها في العالم ببدء حملة إعلامية تهيئه للعدوان. إسرائيل تفعل هذا وهي التي تنعم بتأييد كل إدارات الدول القادرة وتوابعها في العالم الثالث. نحن نعاني من انحياز العالم الرسمي بما فيه المنظمات الدولية إلى الكيان الصهيوني، وليس لنا من حليف ممكن وقادرسوى قطب الشعوب، خاصة الشعوب القادرة. التركيز على الخطوات العملية الإجرائية في تلك الدول جيد، إلا أننا قد نصاب بالخيبة ما لم نبادر الآن الآن وليس غداً إلى اعتماد خطاب إعلامي وثقافي يكشف عن طبيعة الصراع. لتوضيح هذه الفكرة سأحاول أن أقارن في عجالة بين خطاب العدو والخطاب العربي.

وزعت بعثة الكيان الصهيوني في هيئة الأمم بياناً جاء فيه ما يلي:” لا توجد دولة في العالم يمكن أن تسمح باستمرار إطلاق الصواريخ على مواطنيها دون القيام بالإجراءات اللازمة لوقف تلك الهجمات”. هذا الكلام لا يطمس حقيقة اقتلاع شعب فقط، بل يطمس حقيقة احتلال ما تعتبره الأمم المتحدة نفسها أراضٍ محتلة. لكن المغزى الذي أريد التنبيه إليه هو أن البيان لم يوزع على عابري سبيل غير ملمين بالسياسة، بل على بعثات الدول الأخرى، أي على رجال سياسة من الطبقة الأولى، عارفين بقصة نشوء إسرائيل، ومطلعين على مجريات الصراع والقرارات الدولية بشأنه. إذاً لسان حال الكيان الصهيوني يقول : صحيح أن الضفة والقطاع هي بعرف الأمم المتحدة والعالم أرض محتلة، وأنهما يعجان باللاجئين الذين طردناهم من أراضي 48 ، هذا صحيح لكن أين الحكمة في ذكر هذا في بيان صادر عني؟! إن غسل الأدمغة يعتمد آليتين رئيسيتين؛ طمس الحقيقة من جهة، وتكرار الكذب من جهة أخرى.

في المقابل كيف نتصرف نحن؟ نحن نردد على مسامع العالم تعبير ” انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة”؛ لقد كررنا هذا القول حتى أصبح أول ما يتبادر إلى ذهن الإنسان العربي لدى قراءة مثل هذا البيان هو رد من نوع “ولكن لتنسحب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة وتنتهي المشكلة” ـ طبعاً هذا ما يمكن أن يقوله صاحب النزوع الوطني وذي النوايا الوطنية الطيبة، أما الشباطيون فلهم شأن آخر ـ لكن بقليل من التأمل نكتشف أن هذا الإنسان ذو نزوع وطني وذو نوايا طيبة فقط، وأنه بحاجة إلى أن يلطم نفسه أو يقرصها كي يصحو ويتأمل ما فعل بدماغه أصحاب هذا الشعار، ذوو نهج التسوية والتعاون السائدين اليوم في الساحة العربية، طبعاً بالاشتراك مع القوى الاستعمارية.

إن الدعوة إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة لا تصح إلا على بلد احتل جزء منه، لأن كلمة “المحتلة” هي صفة تفيد تحديد الموصوف، والتحديد لا يكون إلا إذا وجدت أراضٍ لا تتصف بهذه الصفة، والحال أن فلسطين جميعها واقعة تحت الاحتلال، وبالتالي كلمة “محتلة” في تعبير ” الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة” هي من باب الحشو، والأهم أن التعبير بمجمله تعبير مضلل، ليس لأنه يفيد أن هناك أراضٍ فلسطينية غير محتلة، بل لأن كلمة الانسحاب لا تصح هنا، لأن فلسطين جميعها محتلة، ليس من جنود أرسلتهم دولتهم ويمكن انسحابهم إلى وطنهم، بل من مجموعات استيطانية أتت من بلدان مختلفة؛ فعندما نقول ” انسحاب إسرائيل” فهذا معناه أن هناك مكاناً تنسحب إليه وتبقى مع ذلك دولة ذات سيادة، وبالتالي يجب أن ننتبه إلى أن الذين يستخدمون هذا التعبير يقصدون بالأراضي الفلسطينية الضفة والقطاع باعتبارهما كل فلسطين؛ فكأن الأراضي المحتلة عام 48 كانت بلا شعب، وكأن إسرائيل كانت قائمة منذ زمن غير معروف.

إن الدعوة إلى انسحاب إسرائيل يتفق مع بيان بعثة دولة المستوطنين من حيث أنهما كليهما يطمسان أصل المشكلة، وهي تهجير شعب من أجل استيطان آخرين مكانه؛ كلاهما يطمس حقيقة أن المستوطنين في أراضي 48 إما أنهم يسكنون في بيوت لها أصحابها، أو أنهم يسكنون في مستوطنات أقيمت على أراضٍ لها أصحابها، وأن بعض أصحاب هذه البيوت والأراضي يشكلون اليوم ثلثي سكان القطاع التي تطلق منه الصواريخ.

القارئ المفترض لهذه المقالة هو العربي المهتم بالسياسة، الدائخ الذي قد يستعمل هذا التعبير بالرغم من شعوره بأنه تعبير غير دقيق، لكنه لا يجد البديل المناسب فيستعمله بحكم العادة وقوة تكرار السماع. أما الإنسان العادي فهو ببساطة يستعمل كلمة تحرير فلسطين أو احتلال فلسطين. هذا الإنسان لا توجد كلمة الانسحاب بين مفرداته، فكيف نجا الإنسان العادي وداخ المهتم بالسياسة؟ إن سلطاتنا كلها بما فيها السلطات التي تشتبك مع الغرب بين حين وآخر، وقوانا السياسية كلها بما فيها الأحزاب اليسارية التي ترفع شعار العداء للامبريالية، كل هذه الأطراف التي تصوغ وعي المهتم دون غيره، كلها تستعمل تعبير ” الانسحاب ” أو ما ينوب عنه في الدلالة على نفس الأمر: السلطات لأنها برجوازية وفاسدة، غير معادية للغرب أو معادية له عداء غير جذري، وبالتالي إن عداءها لإسرائيل غير جذري؛ باعتبار إسرائيل كما قالت كثير من التصريحات والوثائق الغربية قاعدة متقدمة للغرب في المنطقة. أما الأحزاب، فإما لأنها أحزاب برجوازية لها نفس طبيعة السلطات، أو لأنها أحزاب برجوازية صغيرة أو شيوعية متأثرة بمقولات مرحلة التعايش السلمي. وهكذا كل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع يتكافل على تشويه وعي العربي المهتم بالسياسة. إذا كانت الحال عندنا على هذا النحو فكيف ستكون عند الشعوب غير المعنية أو المعنية بصورة غير مباشرة؟ لا يمكن الحديث عن وعي حقيقي، وبالتالي عن دعم حقيقي؛ فما نراه في الغرب وأمريكا من تضامن يكاد يقتصر على الملونين الذين نقلوا معهم إلى المغتربات تضامنهم متعدد الأسباب.

الوعي الذي يقول بالانسحاب هو وعي مشوه لأنه ببساطة لا يستطيع أن ينكر حقيقة احتلال أراضي 48 ، وإذا اعترف بهذه الحقيقة لا يستطيع أن يقدم حلاً عادلاً وشاملاً ودائماً.

لنأخذ هذه المفردات الثلاثة كلاً على حدة : العدل لم يعد ممكناً لأنه لا شيء يعوض عن أرواح الشهداء ومعاناة الناس على مدى سنوات الصراع، لكن هناك حل أقرب ما يكون من العدل هو أن يكون شاملاً، وهو لا يكون كذلك إلا بعودة المهجرين الفلسطينيين والتعويض لهم. هذا الحل هو الحل الوحيد الذي يمكن أن يكون دائماً. لذلك إن بقاء إسرائيل دولة يهودية، ولو في حيفا وحدها، لا يتناقض مع العدالة فقط، أو يجعله غير دائم من جهة العرب فقط، بل يجعله غير دائم من جهة المغتصب أيضاً، لأنه لا يغير من طبيعة هذا المغتصب ووظيفته؛ فإذا كانت قاعدة أمريكية في العراق تشكل خطراً على محيطه، فمن الأولى أن تشكل هذه الدولة في حيفا هذا الخطر.

عندما طرح شعار “الدولة والعودة وتقرير المصير” سوغ بأنه أكثر قدرة على حشد القوى الفلسطينية والعربية والدولية، لكن الواقع أثبت أنه أكثر قدرة على حشد هذه القوى لتشديد الضغط على القوى الفلسطينية الرافضة له المتمسكة بشعار التحرير والعودة؛ يقول نايف حواتمة في رسالة إلى ياسر عرفات بتاريخ 15/12/2001: الوقت ناضج الآن لبلورة برنامج سياسي موحد ، عملي وواقعي ، تحت راية منظمة التحرير ، من يخرج عليه محكوم بالعزلة كما وقع في تاريخ الثورة والمقاومة مع جبهة الرفض وغيرها ( الحرية ، العدد 878 ، من13-19/1/2002 )، فما هي آليات فرض العزلة على قوى التحرير والعودة عندما تكون الثورة الفلسطينية رهينة رضا الأنظمة العربية.

بعد أن تم تطويع هذه القوى فتبنت شعار “الدولة والعودة وتقرير المصير” تم التراجع عنه وبدأت مرحلة العزف على وتر “انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة”. حدث هذا التراجع بالتزامن مع إضعاف حق العودة. والآن يخلي شعار “الانسحاب” مكانه لصيغته الأكثر إبهاماً وتعمية وتضليلاً، لشعار حل الدولتين الذي لا يفهم منه إلا وجود شعبين في رقعة واحدة أحدهما يريد دولة خاصة به؛ فلا احتلال ( حتى لأراضي 67 ) ولا اقتلاع ولا توطين. وهكذا فإن هذه الشعارات تضعف من قدرتنا على حشد الرأي العام العالمي الذي عول عليه كثيراً أولئك المتدحرجون إلى شعار حل الدولتين، وبدلاً من أن يكون تحقيق الشعار أقرب منالاً كما روج في حينه، أنتج لنا سلطة متعاونة تعتقل عناصر من الجهاد الإسلامي لمجرد تعليق ملصقات في ذكرى استشهاد فتحي الشقاقي، وتحول الفلسطينيين في الضفة إلى متضامنين مع غزة يعتقلون إذا ما هتفوا للمقاومة أو احتكوا بالجنود الصهاينة على الحواجز العسكرية.

لقد تبين أنه لتحقيق الشعار الأقرب منالاً لا بد من اعتماد آليات تحشد كل الطاقات الممكنة، منها اعتماد شعارات تكشف للرأي العام عن واقعة الاقتلاع والاستيطان، ولكن …

لا شك أن نتائج هذا الانحدار على مستوى الشعار كانت واضحة في أذهان الفاعلين، بدليل أن قادة فصائل “الانسحاب”، ومن ثم “حل الدولتين”، الأصليين منهم واللاحقين، أولئك تحولوا في عز العدوان الهمجي على شعبهم في غزة إلى أدوات لضبط تظاهرات التضامن ومنعها من الخروج عن هدفها المخطط لها؛ فمجرد وجود القادة من الصف الأول على رأس هذه التظاهرات يجعلها من باب رفع العتب وتنفيس الاحتقان، لأن مظاهرة تهدف إلى الاشتباك مع الجنود لا يشارك فيها القادة من الصف الأول؛ إنهم ببساطة لا يريدون الاشتباك مع الجنود حتى لا تضطر سلطتهم ـ التي حرضوا على الجسم الأساسي للمقاومة من أجل إطلاق يدها ـ إلى توسيع أعمال القمع في هذه اللحظة، ذلك لأن من شأن قمع الانتفاضة في الضفة في مثل هذه الأجواء كفيل بإسقاط آخر ما تبقى عليها.

بيان البعثة الإسرائيلية الذي بدأت به، وقرار مجلس الأمن 1860 الذي جاءت كل كلمة فيه منتقاة بدقة لتغيب أصل المشكلة عن الأذهان، يصبحان مقبولين ومستساغين من الرأي العام بعد طمس عملية الاقتلاع والاستيطان بشعار “الانسحاب” و”حل الدولتين”؛ فمن الطبيعي أن ” لا توجد دولة في العالم يمكن أن تسمح باستمرار إطلاق الصواريخ على مواطنيها دون القيام بالإجراءات اللازمة لوقف تلك الهجمات”، ومن الطبيعي أن يدين مجلس الأمن “كل أشكال العنف والأعمال العدائية ضد المدنيين وكل أعمال الإرهاب”، كإطلاق الصواريخ من غزة. أما العودة إلى شعار عودة المهجرين أو إلى الدولة الواحدة ـ وجهه الآخر ـ فيعيد إلى الأذهان واقعة الاقتلاع والاستيطان، ويضع المخيم في صراع مع المستوطنة، فيصبح مطلقو الصواريخ مدنيون وأبرياء في صراع مع عسكريين إرهابيين، حتى ولو لم يحملوا السلاح.

لا يمكن أن يكون لشعب تحت الاحتلال جيش؛ فعندما تنهار الدولة بفعل الاحتلال يتولى الشعب بنفسه مهمة طرد المحتل المعتدي؛ فالمقاوم هو مدني وبريء حتى ولو حمل السلاح؛ فإن كان من شبهة في براءة الجندي النظامي الذي قد ينفذ أمراً عسكرياً لدولته غير عادل، فهذه الشبهة غير موجودة بالنسبة للمقاوم المدني لأنه يمارس أمراً طبيعياً وفطرياً. أما المستوطن وإن كان في كثير من الحالات غير مسلح فهو يمارس العدوان بواسطة دولته، خاصة وأن جيش هذه الدولة يعتمد على الاحتياط بشكل أساسي، أي على المستوطنين؛ فالمستوطن يفقد صفته المدنية لمجرد أن تطأ قدمه أرض فلسطين، أو لمجرد رفضه حق المهجرين بالعودة وتمسكه بيهودية الدولة وقانون العودة الصهيوني.

ما هو البديل؟ أرى أن الأسلوب المناسب هو الاقتصار في كلامنا على الدعوة إلى إنجاز حق المهجرين بالعودة، أو إلى تطبيق القرارات الدولية بدون خلطها بأية قرارات عربية أو فلسطينية ( يسمونها شرعيات )، مع التركيز على القرارين 194 و 181 ودون أن نشوش على هذا الطرح بالدعوة إلى تهجير المستوطنين من فلسطين … فضلاً عن أي اعتبار، هذه الدعوة غير عملية، لأنه ريثما نستطيع فرض تطبيق القرار 194 تكون قد جرت مياه كثيرة، وربما تكون فلسطين خالية منهم، إلا من تخلى عن نزعته العنصرية الاستيطانية ورضي بالعيش خارج المعزل مع الآخرين على قدم المساواة. وفي كل الأحوال ستكون هذه الفئة قلة قليلة لا تؤثر في طابع فلسطين الديموغرافي.

عندما نثبت في أذهان العالم أن الصراع في حقيقته هو بين المخيم والمستوطنة، عندها فقط نستطيع أن نرد على كلام بيان بعثة دولة المستوطنين في الأمم المتحدة وعلى القرار 1860 بأن هذه الصواريخ يطلقها مهجرون، وهم يطلقونها على مستوطنات، فننفي بذلك الصفة العسكرية عن المقاوم ونثبتها على المستوطن.

إن تثبيت هذه الحقيقة في الأذهان يحاصر سلطة أوسلو ويمنع من إعادة إنتاجها، كما أنه يحاصر كل الكلام الرسمي على صعيد المنطقة والعالم.

لنأخذ مجموعة من التصريحات التي صدرت في 7|1|2009، اليوم الذي بدأت فيه التحركات السياسية المرتبطة بالعدوان على غزة.

بان كي مون : يدعو لوقف فوري لإطلاق النار قابل للاستمرار.

وزير خارجية بريطانيا في مجلس الأمن : معظم من قتلوا في غزة من المدنيين.

الرئيس الفرنسي في المؤتمر الصحفي مع الرئيس السوري: وقف إطلاق نار يوفر ضمانات حقيقية لأمن إسرائيل … يسكت السلاح ويعود السلام … حل الدولتين.

الرئيس السوري: إسرائيل ارتكبت منذ أحد عشر يوماً مجازر كثيرة بحق المدنيين الأبرياء … الاحتلال لن يستطيع كسر إرادة الشعب الفلسطيني من أجل دولة مستقلة وانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

السلطة السورية هي الأكثر التصاقاً بالقضية من كل السلطات العربية ومن بعض القوى الفلسطينية، وخطابها هو الأنضج بعد خطاب المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، ومع هذا تصريح الرئيس السوري يطمس واقعة احتلال أراضي 48. أما التصريحات الثلاثة الأولى فتطمس واقعة الاحتلال ككل، حتى احتلال الضفة وغزة.

إن كل الكلام الرسمي الذي يقال اليوم على صعيد المنطقة والعالم لا يساعد على تعبئة الرأي العام العالمي. وبالتالي هو كلام يضعف قطب الشعوب. وهذا هدر لا تسمح به قدراتنا الذاتية وتتجنبه إسرائيل القوية بكل شيء، ومن المفترض بمن يسعى إلى إنجازٍ أقرب منالاً أن يعد ما استطاع من قوة دون هدر وبأكبر قدر من الاقتصاد في النشاط السياسي، وأن يترك تقديم المبادرات للمعتدي بعد أن ينضج للحلول تحت تأثير مختلف أشكال القوة، وإلا كان كسلطة أوسلو التي تنزع سلاحها وسلاح غيرها قبل الحصول على أي شيء. لكن هذه هي حقيقة الأمر، فالذين يهدرون قوة الرأي العام أكثر قرباً من السلطة الفلسطينية منهم إلى المقاومة.