(الحلقة الثالثة)
عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1776)
□ وصلت الدولة القُطرية/البرجوازية حدَّها
□ من تفكيك مفاصل الدولة القطرية إلى تقويض وجودها
□ الأممية الشعبية-الشابة في مواجهة الصهيونية
□ الشعبي والرسمي عالمياً …طلاق بائن
□ كيف نحافظ على كسب الموقف الشعبي العالمي
□ سقوط حاجز الخوف من الصهيونية والمحرقة
“أما وكافة شعوب العالم تتضامن مع شعبنا، بينما تتآمر الدولة القطرية العربية عليه، فهذا يخرجها من نطاق الضرورة وسياق التاريخ”
* * *
لم يسبق في التاريخ الحديث أن تمكنت حركة سياسية ومن ثم دولة قامت على عدوان مباشر فاحتلت أرض شعب وطردته منها وأقامت مكانه دولة أخرى تماما، لم يسبق أن حصلت هذه الدولة على اعتراف وتعاطف مختلف أو معظم بلدان وشعوب العالم بما في ذلك المؤسسات الدولية التي يُفترض فيها الحياد. هذا حال الكيان الصهيوني الذي طرد الشعب الفلسطيني من وطنه وقام بأكثر من ثمانين مذبحة حتى عام 1948، وسلسلة حروب ومذابح أخرى لم تتوقف حتى اللحظة ومع ذلك حظي بدعم رسمي عالمي، وتعاطف شعبي عالمي ايضاً.
وإذا كان بوسع المرء أن يفهم دوافع الدعم الرسمي، مصالح الطبقات الراسمالية الحاكمة في المركز، ومصالح تمفصلاتها من الدويلات ذات التشكيلات الرأسمالية المحيطية، فإن جهداً أكبر مطلوب كي نفهم سبب أو اسباب التعاطف الشعبي، وهنا يمكن لموضوعة الهيمنة أن تساعدنا في فهم الأمور وكذلك قوة ماكينة الإعلام الرسمي وضعف ماكينة الحق.
لسنا هنا بصدد التأريخ لتفاصيل جلب المستوطنين وتسليحهم وتدريبهم وتمويلهم، وإنما تكفي الإشارة إلى أن هذا الكيان حل محل شعب طُرد من وطنه! بمعنى أننا نتحدث عن حقيقة واقعة وواضحة ومع ذلك فإن المجتمع الدولي بقي داعماً ومؤيداً للمعتدي.
هذه معادلة معقدة تتطلب في الحقيقة قراءة معقدة بدورها. صحيح أن دول المركز الإمبريالي خلقت الكيان، ولولا دورها لما كان بوسع مستوطنين غزو فلسطين واحتلالها لا سيما انهم لم تكن لهم دولة لا مجاورة ولا بعيدة. فلكل مستوطنة بيضاء دولة متروبول هي التي اسست للاستيطان وغزت واحتلت وقتلت وأقامت كياناً لمستوطنيها. أما الكيان الصهيوني فكان المتروبول بالنسبة له هو النظام العالمي باسره.
لكن هناك عوامل أخرى أنتجها واستثمرها الكيان الصهيوني نفسه، وشاغل العالم الشعبي والرسمي بها لعقود طويلة. دعنا نسميها “الصناعات” الصهيونية:
ـ صناعة الهولوكوست
ـ صناعة الأمن
ـ صناعة متسادا
ـ صناعة أرض الميعاد
ـ صناعة الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
لعل الأشد خطورة منها هما صناعتا الهلوكوست والأمن، وهما الأكثر تعلقاً بهذا البحث.
استثمرت الحركة الصهيونية والنظام الراسمالي العالمي محرقة النازية على أعلى درجة ممكنة، وعليه تحولت راسمالية المركز الغربي والحركة الصهيونية كما لو كانتا يد الرحمن على عباده. هذا رغم أن النازية والفاشية هما توليدات وتمفصلات الرأسمالية نفسها، ورغم أن الصهيونية وليدة نفس النظام، وهي كذلك حالة تمثُّل العبد لسيده والقتيل لقاتله.
لكن آلة الإعلام والمثقفين العضويين للطرفين تمكنتا من خلق حالة هيمنة إعلامية إيديولوجية أدخلت الرأي العام العالمي في حالة من دروشة التخلص من ذنب لم تقترفه اصلاً، فبات العالم الشعبي يهذي بجريمته التي لم يرتكبها مُشعراً نفسه أن ما حصل لليهود كان يمكن دفعه لو حاول. لقد حمل العالم الشعبي جثة ضحايا النازية كما لو كان هو القاتل، ولا شك أن تبني هذا الإرث الثقيل ما كان ليحصل لولا هيمنة إيديولوجيا راس المال على المجتمع المدني والأخير على الناس ككل!
لكن هذا العالم الشعبي، لم يدرك بالطبع أن من قام بتجهيز أدوات ومناخ هذه المذابح هي برجوازياته نفسها، هو راس المال! وبهذا سقط العالم الشعبي في خطيئة مزدوجة تبدأ بالشعور بالذنب على ما لم يرتكب، وبالذهاب في تأييد الحركة الصهيونية والنظام العالمي لارتكاب جريمة أفظع للتخلص من شبح الجريمة الأولى. وهي الجريمة التي كان أحد مرتكبيها النظام الراسمالي العالمي نفسه، وهذا ما ولَّد الخطيئة الثالثة أي إعفاء راس المال من جريمته. وفي تبرير فظائع الصهيونية، كان العالم الشعبي يتقدم أحياناً على العالم الرسمي، فيأتي الشباب من مختلف بلدان العالم متطوعين في كيبوتسات الكيان الصهيوني تحت وهم أنها مزارع تعاونية اشتراكية.
والحقيقة أن الكيان الصهيوني تمكن لفترة من جعل الكيبوتسات محط أنظار ومحجأً للكثير من اليسار العالمي الذي كان يعرف كيف يتلاعب بعقول وعواطف هؤلاء الشباب، العواطف المشبوبة بالإشتراكية، ناهيك عن كون هؤلاء الشباب قد حُقنوا من قيادات كثير من اليسار العالمي بأن الكيان دولة اشتراكية في شرق متخلف وبدائي. ولا شك ايضاً أن الأنظمة العربية ساعدت على تعميق هذه الصورة السوداء بما قدمته من تسهيلات لإقامة الكيان (اي دور الأنظمة العربية في إقامة الكيان) ناهيك عن طبيعتها القمعية داخل القطريات العربية مما قدَّم للعالم صورة تدفعه بقوة لصالح الصهيونية. بعبارة أخرى، لم تقدم هذه الأنظمة، ولم تحاول تقديم، رواية علمية ديمقراطية للصراع ضمن نموذج حكم تقدمي تنموي يساوي ولو شكلا بين المرأة والرجل.
وفي الجانب الآخر كانت صناعة الأمن التي أُقيمت على وهم حماية اليهود من فتك العرب، اي حماية المعتدي والسارق من أهل القتيل. فبقدر ما كانت صناعة المحرقة “إنقاذاً” لليهود من نازية الغرب نفسه، اصبحت صناعة الأمن “حماية” الدولة الاستيطانية من أصحاب الأرض التي تم اغتصابها، اي من اصحاب الحق، وتشريع قيامها بعدوانات متواصلة على الوطن العربي باسره، اين توجد بؤرة تقدم!!
في هذا السياق جرى التلاعب بوعي الشعوب، لا سيما في بلدان المركز لتسليح الكيان حتى أخمص قدميه بحجة حماية نفسه، بينما هدفه الأساس هو السيطرة على المنطقة وتثبيت وتوسيع سيطرة ومصالح النظام العالمي في الوطن العربي. إن طبيعة العلاقة بين الصهيونية والمركز الإمبريالي هي علاقة تؤكد أنهما يقومان معاً بالعدوان على الوطن العربي، وبأن الفلسطينيين والعرب، وأية مقاومة في العالم هي “إرهاب يعمل على تقويض الدولة الرسمية، الإبنة السفاح لما يُزعم أنه النظام العالمي”.
وتحت فزاعة الأمن، اصبحت يد الكيان المدججة بالسلاح طليقة كي تقتل ذات اليمين وذات الشمال، محمية من النقد بسلاح “الفيتو” النووي. ومجزرة غزة شاهد آخر وليس الأخير بعد!
المتغير الأساس …طلاق الشعبي والرسمي
ولأننا نحن العرب الفلسطينيين وربما كل العرب في حالة دفاع متواصل عن مجرد الوجود، قد لا نلمس احياناً طعم التضامن معنا من قبل كثير من فتيات وشباب العالم. وإذا اضفنا إلى هذا اندحار الثورة العالمية على يد العولمة في العقود الثلاثة المنصرمة، فإن طعم العنف الثوري قد خبى عالمياً. لكنه ولَّد مرارة هائلة في صفوف شباب العالم بغض النظر عن الهوية والقومية والعقيدة…الخ.
إن حلم المشاركة في الثورة او المقاومة لأي نظام يكمن في قلوب الأجيال الشابة في العالم. حلم رفض التعليب القانوني والتلاعب السياسي والاستغلال والظلم والقمع…الخ. وكثيراً ما يتجلى ذلك في الكره المباشر من المواطن، في مطلق بلد لرجل الشرطة.
قد يرى البعض أن هذا الحلم وممارسة تلبيته أو تحقيقه تتقاطع بدرجة ما مع النزعات الأنارخية، وربما كان هذا صحيحاً بمقدار، ولا بأس، لأن المهم هو الروحية، النَفَسْ.
لقد بانت هذه الروح في المظاهرات العالمية ضد الحرب على العراق وضد العولمة، وهي مظاهرات لم تقتصر على الجيل الشاب، بل تدفقت البشرية على شكل لوحة أممية تشمل مختلف الأجيال. وقد كتبت غير مرة، بأن هذه الحركة العالمية هي ضد العولمة بشقيها، ضد رأْسيْ الأفعى:
□ الراسمالية
□ والصهيونية
فالراسمالية هي العولمة التي أخضعت البشرية لها بشكل متوحش. وعليه فإن الوقوف ضد العولمة يمكن ترجمته دون عناء إلى وقوف ضد الراسمالية، اي لا بد ان يتحول ضد الراسمالية. وها هي الرأسمالية تتجلى اليوم في الأزمة المالية/الإنتاجية على صعيد عالمي، مما يدفع مليارات البشر إلى الفقر وبالتالي للوقوف ضد سحرها الكاذب حيث التلاعب والسرقات والاستغلال والمتاجرة بأجساد النساء لإشهار السلع[1].
أما الحرب فتقود حتماً لوقوف العالم ضد الصهيونية لأنها ماكينة الحرب الأولى في العالم.
لم يعد يحتمل العالم هذا الترف الصهيوني في القتل والإيغال في الدم، وهذا يكشف حقاً عن الروح الأممية للبشرية بعيداً عن اللون والدم وحتى الثقافة.
ويظل السؤال: كيف نستثمر هذا التحول الشعبي العالمي، وكيف نحوَّل أنفسنا من ضحايا صمَّاء صامتة كتيمة للنظام العالمي إلى المحرك المادي للغة عالمية جديدة، تبدأ ضد الدولة الطبقية، وتنتهي بلا دول حيث ينتقل العالم إلى عالم مختلف تحل فيه إدارة الأشياء محل إدارة الأفراد و/أو الطبقات. وليس المقصود بدورنا هذا اي تميُّز عرقي، بل لأننا الأرضية المادية أو مسرح المذبحة، فلماذا لا تنبت فينا ورود على حواف المذبحة لتوفر نسغ الحياة لحرية الإنسانية التي يزيد إليها التوق.
ليست مهارتنا الإعلامية هي التي كشفت للعالم وحشية الصهيونية، فليس هناك أوضح من العدوان الجاري على قطاع غزة، حيث تُدار مذبحة علنية ضد مدنيين أكثر مما هي ضد مسلَّحين يدافعون عن حرية بلدهم المغتصب من الاستعمار الاستيطاني.
وهو عدوان مدعوم بوضوح من مختلف الأنظمة الرأسمالية في العالم، كلُّ على قدر “فاشيته”. لقد وقفت الأنظمة الرسمية بدءاً من الولايات المتحدة وفي أعقابها الاتحاد الاوروبي وانتهاء بمعظم الأنطمة العربية لصالح العدوان الصهيوني، وأعلن أكثر قادتها بوضوح إدانة حركة حماس، واعتبار الكيان الصهيوني في حالة دفاع النفس.
ولا شك أن هذا النفاق والتلاعب مستندا على تراث انهزامي للقيادات العربية والفلسطينية التي حصرت التناقض مع الكيان الصهيوني في العمل على “إزالة آثار العدوان”، أي نفي التناقض الحقيقي القائم على طرد الشعب الفلسطيني من وطنه عام 1948، وهذا التشويه التنازلي بامتياز هيّأ للراي العام العالمي كما لو كان اتفاق اوسلو قد أعاد للفلسطينيين ما هو حقهم، اي الضفة الغربية وقطاع غزة دون ان يعرف ان هذه مجرد جزء صغير من فلسطين المحتلة.
رغم أن إعادة حقيقية لم تحصل، ولكن تشكيل سلطة الحكم الذاتي كان مثابة صورة لدولة، وليس الدولة نفسها. فهذه السلطة هي محاولة أو مشروع للحصول على دولة على حساب الوطن، بل اقتسام الوطن مع العدو والاكتفاء بجزيئات منه.
وعليه فالمقاومة اليوم تهدف فيما تهدف إليه إعادة تصحيح الصورة لتطابق الواقع الذي هو استرجاع الوطن المحتل عام 1948 وعودة الشعب إلى وطنه.
وفي هذا الصدد لا بد من وعي مخاطر مؤسسات الإعلام العربي التي تقدم للمواطن العربي قادة الصهاينة كما لو كانوا “مواطني دولة مجاورة”.
إن ما يقوم به الكيان من عدوان، هو الذي وضع العالم باسره على مفترق طرق: مع المقاومة أو مع العدوان؟ ومع أن كافة الأنظمة الرسمية في العالم تعلم تماماً أن الكيان الصهيوني اغتصب فلسطين، فقد وقفت لصالحه وبكل الصفاقة الممكنة، بدءاً من الرئيس الأميركي ووزيرة خارجيته والمستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي ورئاسة الاتحاد الأوروبي، وكافة أعضائه، هذا ناهيك عن الحكام العرب.
وبالمقابل، رغم أن الوعي الشعبي على صعيد عالمي ليس بكل ذلك الاطلاع على اساس الصراع العربي الصهيوني، وخاصة اغتصاب فلسطين 1948، إلا أن شعوب العالم وقفت مع شعبنا وتدفقت عفوياً إلى الشوارع.
إن علينا التقاط هذا التدفق المشبوب بالعاطفة الثورية لدى الشباب والغريزة الإنسانية لدى الأعمار المتقدمة والتي تشكل تغيراً حاداً في المزاج الشعبي العالمي لم نتوقعه وعلينا عدم فقدانه.
لا بد من التقاط الخيط الناظم والحبل السُري بين تأجج الحماسة الثورية لدى الشباب وتمني المشاركة في اي عمل ثوري ضد مؤسسة : الدولة، الطبقة الحاكمة، الاستغلال، الإمبريالية، الحرب، العنصرية، راس المال…الخ، وهي الدوافع التي تدفعهم لتأييد شعبنا. إن كثيرين منهم يبحثون عن اي مكان ساخن ومتفجر في العالم ليلبوا ويمارسوا طموحهم ضد راس المال وخاصة ضد الولايات المتحدة الأميركية.
لم نعهد هذا التغير من قبل في العالم. كانت الصهيونية كذبة كبيرة تجتذب تعاطف شعوب العالم، وما تزال إرهاباً للنخب ولا سيما في الأكاديميا حيث يُهدد كل صاحب ضمير حي وعقل نوعي المعي مستنير بقطع رزقه إذا ما نقد الصهيونية. ومع ذلك هناك من يُضحوا من أجل كرامة عقلهم الإنساني كما يضحي الاستشهاديين.
هناك أمثلة عديدة على مفكرين كبار القامة، لم يجرؤوا حتى على ذكر اسم الكيان الصهيوني باعتباره مستوطنة بيضاء، حتى دون ان ينقدوها. لا بل إن الفيلسوف جون بول سارتر كتب ما يؤكد تزلُّفه للكيان الصهيوني، والاقتصادي ارجيري إيمانويل وغيرهما[2].
لقد كشف موشيه ماخوفر مبكراً جداً خطورة الكيان الصهيوني ومؤخراً نورمان فنكلشتين، وإيلان بابيه. ولا داع لذكر مفكرين عرب وخاصة سمير امين.
[1] أنظر عادل سمارة، أزمة الرأسمالية المعولمة: َعَتَبَةًٍ إلى الاشتراكية، سيصدر قريباً عن الإئتلاف التنموي في رام الله..
[2] انظر عادل مسارة، الاقتصاد السياسي للصهيونية من المعجزة إلى الوظيفية، القسم الأول، المبحث الثاني، موقع الصهيونية في الإمبريالية والنظام العالمي، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2008، ص ص 41-82 . والبحث ورقة مقدمة لمؤتمر البرلمانيين الدوليين للتضامن مع الشعب الفلسطيني في بروكسل (مايو 2008).