العدوان على غزة : أدوار قادمة أكثر ضراوة

أكرم إبراهيم

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1787)

بتاريخ 6|3|2008، وتحت عنوان : } محلل إسرائيلي: العملية العسكرية في غزة « فشلت » ! { ، نقل موقع قاسيون عن هذا المحلل ما يلي : إن لواء ”غفعاتي” طلب إخراجه من غزة بسرعة كبيرة بينما العملية الحقيقية يجب أن تنفذ رويدا رويدا. إننا نشتاق لأيام شارون وروفائيل إيتان. أين أيام العمليات الشجاعة؟.. أين أيام العز حين كان لنا قادة شجعان وجنود رائعون … كما هو واضح من التاريخ، الكلام لا يدور عن العدوان الأخير بل عن عدوان سابق. يتحدث المحلل عن قادة شجعان وجنود رائعين، أما والحقيقة فهي أن هؤلاء لم يوجدوا في جيش الكيان الاستيطاني في يوم من الأيام.

العنصري جبان بطبعه. لذلك أصاب أحد المثقفين العرب مركز الدريئة عندما وصف جيش الكيان الاستيطاني، أثناء العدوان على غزة، بأنه جيش قتل وليس جيش قتال؛ لقد اعتمد هذا الكيان على القتل منذ قيامه، فإذ تحقق التفوق العسكري للعصابات الصهيونية لجأت إلى المجازر من أجل إرهاب الفلسطينيين ودفعهم إلى الهرب.

قبل حرب تشرين لم يختبر جيش هذا الكيان في قتال حقيقي إلا في معركة الكرامة عام 1968. في هذه المعركة فشل هذا الجيش بسبب صمود المقاومة ومن خلفها شعبها، رغم أن الوعي كان ما يزال “مكوياً” بفعل هزيمة 67 والمجازر التي سبقتها. وفي حرب تشرين، أي بعد 6 سنوات من هزيمة عام 67 ، تمكنت الجيوش العربية من القتال بفضل صواريخ سام التي فرضت على الجيش الصهيوني أن يعتمد على قواته البرية، فكانت نتيجة الحرب أقرب إلى أن تكون انتصاراً للعرب، أي أنه في الحالتين اللتين حدث فيهما قتال وصمود تكشف الجندي الصهيوني المستوطن، القادر على القتل بسادية قل نظيرها، عن مقاتل أقل من عادي.

في حصار بيروت حيد المقاومون قدرة العدو النارية بالالتحام معه. وهنا أيضاً اختبرت قدرة هذا الجندي على القتال وجهاً لوجه. بعدها أخضعت المقاومة اللبنانية جيش المستوطنين لاختبار آخر، ففشل فيه واندحر عن معظم الأراضي اللبنانية. وفي عام 2006 شاب شعر رأس بعض قادته في مارون الراس، رغم أن سلاحه الجوي أظهر قدرة غير محدودة على القتل والتدمير. وأخيراً فشل في غزة كجيش قتال وتعززت صفته كجيش قتل أيضاً.

إنهم يقولون هذا الكلام لكن بصيغ مواربة، فلقد نقل موقع قاسيون عن محلل آخر، في 26|12|2008 ، أي في اليوم السابق على العدوان الأخير على غزة نفسها، مقالاً بعنوان “جيش يهرب من المواجهة”، يبدو وكأنه جواب على تساؤل المحلل الذي بدأت به. بدأت هذه المقالة بالسؤال التالي: كيف يمكن أن نفسر الحقيقة المدهشة وهي أن الجيش الإسرائيلي العظيم يهرب من المواجهة في غزة كهروبه من النار؟ وأنه يدعو الله كل صباح أن تستمر “التهدئة” وان تكون المنظمات الفلسطينية ربما لا تقصد ما تقول؟ في الجواب يشير الكاتب إلى اعتماد الجيش الصهيوني على سلاح الجو في العدوان على لبنان وغزة لأن الجنود لا يريدون القتال، ثم يعود إلى التساؤل من جديد: كيف فقد جيشنا “غريزة القتل”، التي كانت مرة عند قادته ؟ لماذا تصبح العمليات التي نحصل عليها هابطة كثيرا ومتوسطة مع هيئة قيادة عامة متثائبة ؟ في الإجابة على هذا التساؤل المرير يشير إلى أن المستوطنين لا يريدون حروباً تقع فيها خسائر في صفوف الجيش، إضافة إلى “زيادة التزام القانون”، وإلى أن “قيد منظمات حقوق الإنسان أحاط بالجيش الإسرائيلي في العقدين الأخيرين”.

لن أدخل في رد تفصيلي على كل هذا الكلام، بل سأكتفي بالإشارة إلى أن الكاتب يدعو إلى حرب بلا ضوابط، للاستفادة إلى أقصى حد من التفوق بأدوات الحرب، أي إنه يدعو إلى المجازر وإرهاب الفلسطينيين لدفعهم إلى الانفضاض عن المقاومة؛ العظمة عنده تكون يالقتل وليس بالقتال. وهو ما حدث فعلاً في العدوان الأخير على غزة.

بعد إدراكنا لهذه الحقيقة ماذا يبقى للجيش الصهيوني إذا جردناه من قدرته على القتل؟! لا شك أنه سيظهر على ما وصفه الكاتب به، جيش من الشوكلاتة. ليست هذه دعوة إلى الاستخفاف؛ ففي الحرب لا يجوز الاستخفاف بالعدو مهما كان أمره، وربما يكون أحد أسباب عجز جيش العدو هو اطمئنانه إلى تفوقه بالسلاح، وإلى استخفافه بالعرب بحكم نظرته العنصرية إليهم.

أردت من هذه المقدمة الطويلة التنبيه إلى أمرين:

1 ـ إن هذا الجيش يفقد وظيفته في المنطقة إذا ما جرد من قدرته على القتل. لذلك افترضت في مقالة سابقة أنه، ما لم تتم تبرئة قادة الكيان الاستيطاني وضباطه، ستنسف محكمة الجزاء الدولية، وستسقط تلك القوانين التي أجازت بها بعض الدول الأوروبية لنفسها محاكمة مجرمي الحرب من غير رعاياها وخارج أرضها؛ فهذه المحكمة وهذه القوانين لم توضع لحماية شعوب المستعمرات السابقة، بل لابتزاز مسؤوليها السياسيين والعسكريين ولحماية الإنسان “المتحضر” من نفسه؛ فلقد رفضت كندا وامتنعت أربع عشرة دولة أوروبية عن التصويت على قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تشكيل لجنة تقصي حقائق في غزة. كان على رأس هذه الدول بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، أي تلك الدول التي ورطت العالم في حربين عالميتين بسبب الاختلاف على اقتسامنا. بهذا تكون هذه الدول قد أعادت توكيد وفائها لماضيها وتجديد مسؤوليتها عن زرع هذا الكيان الوظيفي في منطقتنا؛ فلأي غرض وافقت هذه الدول على تشكيل مجلس حقوق الإنسان ومحكمة الجنايات الدولية ما دامت هذه هي حقيقة الأمر؟!

لا شك أن هذه الدول تنظر إلى الكيان الاستيطاني نظرة الأب إلى طفله الذي يحمل جيناته. لذلك ترسل قطعها البحرية لإحكام الحصار على غزة بهدف وقف إمدادات السلاح إلى الشعب الفلسطيني، ما يجعل العدوان الآن بالأصالة بعد أن فشل الوكيل، في عودة إلى ما يشبه ممارسات “الانتداب” البريطاني على فلسطين قبل عام 1948. إنها إذاً حرب عالمية على قوى التحرر في المنطقة، الأمر الذي يوجب علينا عدم التراخي والاستسلام لنشوة فشل العدو ووقوع قادته في الفخ الذي نصبوه للمقاومة، فلا شك أننا مقدمون على أدوار من الصراع أكثر دموية، بسبب استشعار العدو ومن خلفه أربابه الاستعماريين بأخطار وجودية، أو بضياع جهودهم على مدى سنوات من أجل تثبيت سلطة أوسلو.

2 ـ لقد بدأت هذه الحرب العالمية على المقاومة قبل العدوان العسكري المباشر، وتستمر الآن بعده بأشكال ضارية لكن دون ضجيج؛ ففضلاً عن قطع طرق إمداد المقاومة بالسلاح، يستمر الحصار وإغلاق المعابر، رغم كل ما ترتب على العدوان من نقص في الحاجات الضرورية ومن دمار وخراب ( خمسة وعشرون ألف منزل دمرت كلياً أو جزئياً ). الهدف المعلن للأطراف المعتدية هو عودة سلطة عباس إلى غزة؛ فهي تضع هذه العودة شرطاً مسبقاً لفتح المعابر ووصول المساعدات، وقبل ذلك كانت أمريكا وربيبتها قد قامتا بتسليح وتدريب قواته. وهكذا نحن أمام جدلية “سياسة حرب سياسة” في الصراع بين سلطتين، سلطة تعاون وسلطة مقاومة. ومع هذا ليست الخطورة في العدوان الصريح مهما عظمت قوة أطرافه وجبروتهم؛ الخطورة في انعدام الوضوح وتجريد المقاومة من شرعيتها الأخلاقية والوطنية، الأمر الذي تعمل عليه بعض القوى الفلسطينية “التوفيقية”؛ فبعد يومين من وقف إطلاق النار تقدم رجلان يلبس أحدهما قناعاً للسيد إسماعيل هنية والثاني قناعاً لعباس، تقدما مظاهرة في الضفة وقد تشابكت أيديهما. لا شك أن هذا تم بإيحاء من قادة على نمط مصطفى برغوثي، رئيس المبادرة الوطنية الذي خرج علينا في نفس الوقت بتصريح، فحواه أنه أصبح من الملح العودة إلى الوحدة الوطنية والكف عن الصراع على سلطة وهمية تحت الاحتلال.

لقد شن هذا العدوان بعد حصار طويل من أجل “الوحدة الوطنية الفلسطينية”، ويستمر الحصار وإغلاق معبر رفح، وكذلك يرهن تقديم الأموال من أجل إعادة تعمير ما دمر بعودة سلطة عباس. من هنا يتضح حتى للأبله أن لدينا سلطتين، واحدة مرفوضة بقوة والثانية مدعومة بقوة. وبالتالي إن الصراع بين السلطة وبين المقاومة هو على برامج وليس صراعاً على سلطة وهمية تحت الاحتلال؛ فالذي يدفع الدم في الضفة وغزة ليس كمن يريق هذا الدم فيهما. لذلك لا يمكن اعتبار الكلام عن صراع على سلطة وهمية تحت الاحتلال، بعد كل ما جرى وفي مثل هذا الوقت، إلا محاولة لترميم صورة السلطة، لمساعدتها على إمساك الوضع جيداً في الضفة. إن مسيرات أو تصريحات كهذه أصبحت مثيرة للاشمئزاز والغضب؛ فهي لا تصدر إلا عن مفلسين فقدوا كل حجة ولم يبق لديهم من سلاح سوى الاستخفاف بعقول الناس لعل وعسى، وعندما يستخف المرء بعقول الناس يكون قد أدرك خطأه وأصر عليه، فإذاً نحن أمام جريمة عن سابق قصد وإصرار وتصميم لكن بأسلوب غبي.

خلاصة: الكلام الذي أثاره الشباطيون حول المقاومة اللبنانية هو نفسه الذي يثار اليوم حول المقاومة الفلسطينية. وهو كلام قتل بحثاً ونقاشاً وحواراً، والرد عليه يكاد يكون كالعلك؛ غير ذي مردود. لذا يجب صرف الانتباه إلى خصوم المقاومة الأقربين، الذين يعلكون عبارة “صراع على سلطة وهمية تحت الاحتلال”، الذين يطبعون التعاون وينزعون عن المقاومة شرعيتها الوطنية والأخلاقية. إنهم أخطر باعتبار قدرتهم على التضليل، بحكم ما تبقى لهم من رصيد جمعوه في المراحل السابقة. أهمية الأمر تنبع من احتمال انكسار المقاومة عسكرياً في الجولات القادمة، التي من المتوقع أن تكون أشد وطأة كما أسلفت؛ فإذا ما حصد هؤلاء ثمار هذه الهزيمة ماتت القضية إلى سنوات طويلة يلتقط فيها العدو أنفاسه، أما إذا ما انكسرت المقاومة عسكرياً دون عزلة فهذا يساعد على النهوض سريعاً. هذا باتجاه الداخل، أما باتجاه الخارج فيجب اتباع سياسة هجومية على أكثر من صعيد.

إن تجريدنا من حقنا في الدفاع عن أنفسنا هو تجريد لنا من إنسانيتنا. أما إرسال القطع الحربية لوقف إمدادات السلاح فهو شراكة مباشرة بالعدوان المستمر أصلاً بالحصار. لذا من حقنا أن نعتبر هذه الدول دولاً معادية، وأن نعتبر أي قطعة حربية تخصها هدفاً. هذه ليست مهمة الحكومات، ولا تدخل أصلاً ضمن اهتمامها، بل إن حماية هذه الحكومات تدخل في صلب مهمة هذه القطع. إنها مهمة الشعوب، ولا شك أن هذه الشعوب قادرة على ابتكار طرق للتعامل مع هذه القطع الحربية ومع مصالح هذه الدول. هذا سهل بخصوص المصالح لأن الاعتداء علينا يعود أصلاً إلى كوننا ننتمي إلى منطقة مصالح لهذه الدول، وسهل أيضاً بخصوص القطع الحربية التابعة لها بحكم امتلاكنا لشواطئ البحر الأحمر وشاطئي المتوسط الجنوبي والشرقي، مناطق انتشار هذه القطع.