عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1790)
إذا استثنينا آراء العسكريين المحترفين، لا يعود معيار الانتصار هي تحيق استسلام العدو في الميدان أو انسحابه عن أرضه، لأن هناك عوامل عدة هي التي تعطي الانتصار معناه لا سيما إذا لم تنته الحرب.
في السياق التاريخي للصراع العربي الصهيوني حقق العدو انتصارات كثيرة على الجيوش العربية سواء بمعايير استسلام الجيوش أو فقدانها أراضي الوطن. ولا لازمة لتعداد المساحات ومن أية قطريات عربية. لكن العدو لم يحقق النصر لا على الشعب الفلسطيني ولا على الأمة العربية. لقد قتل ما لا يُحصى، وقتلت لصالحه أنظمة عربية ما لا يحصى، ولكن لم يستسلم الشعب.
هذا لا يعني ان كل الأمة أبطالاً، وبالضرورة هناك مواطنون عاديون، لا يريدون الحرب ولا يطمحون في الانتصار ويقبلون بعيش عادي حتى لو ضاع الوطن. لكن هؤلاء ليسوا هم معيار حياة ولا حيوية الأمم. وحين يتم الانتصار أو الهزيمة، يتمتعون بحياة هانئة. هؤلاء أميل إلى الحالة القطيعية التي لا علاقة لها بالتاريخ. وهذا ما يعطي المقاومين والثوار حق تمثيل الشعوب. وهناك في كل شعب من يشكون الألم ويرفضون احتماله، وهذا شعور إنساني، لا بد من أخذه بالاعتبار وفهمه، ولكن رغم ذلك ليس أمام المقاومة إلا الاستمرار لأن البديل هو عيش القطيع. بمعنى، من يفرض على الآخر نمط حياته، القطيعي أم المقاوم. فالمقاومة فرض عين، والانتخابات السياسية في وضع مستقل فرض كفاية.
في سياق مجزرة غزة، لم تكن هناك حرباً، على الأقل بالمفهوم المألوف للحروب، كانت هناك مجزرة مكثفة وبشعة كي تنهار القيادة ويهرب الناس إلى سيناء، وتُُقام لهم مخيمات لاجئين إلى الأبد. وعندها كانت ستحصل قمة عربية جديدة، تطالب بإزالة آثار العدوان وتنطوي الصفحة. لذلك ما تزال سيناء تحت الاحتلال ولا يمكن لشرطي مصري أن يدخلها دون إذن من الاحتلال. ولا أخال أن مصريا واحداً لا يعرف هذا. وكان هدف العدو احتلال آبار الغاز والبقاء في غزة وضمها كما الجولان. صحيح أن الاحتلال لم يعلن أنه يريد إسقاط قيادة حماس والمقاومة، وبشكل خاص حماس. ولكن هل هناك من عاقل لا يُدرك أن هذا هدف الاحتلال.
لم يتمكن الاحتلال من ذلك، وهذا يعني أنه لم ينتصر. على الأقل طبقا لما اعتدنا عليه، من انفضاض معاركه مع جيوش الأنظمة العربية عن فراغ الأرض وتعبئته لها. هذا معيب ومخجل ومحزن أيضاً، لكنه حقيقي.
لقد ناور العدو على ضواحي غزة، ولم يدخلها. ربما يقول البعض أنه عدو عصري يحرص على ارواح جنوده، وهذا تبرير يهدف إلى الطعن في جاهزية الاستشهاد. وربما كانت الثورة الجزائرية قد حلت هذا اللغز، بمعنى، أن تفوق السلاح لدى العدو يجيز لك البحث واستخدام اي سلاح آخر. وهذه المرة، لم يستخدم الفلسطيني سلاحاً محرم دولياً، بل استخدم جسده، فمن الذي له حق الاعتراض؟ (اعترض على هذا مثقفون في الأرض المحتلة هم في خدمة العدو).
نعم انتقم العدو ما وسعه ذلك لدرجة أن فتحت أميركا مخازن اسلحتها في اليونان لتزويده بالعتاد. شكراً لحكومة اليونان التي نعتبر شعبها صديقا والتي كنا نتعاطف أحياناً معها ضد تركيا!
من يضع مجزرة غزة في سياق الوضع الإقليمي والدولي يصل إلى قناعة أخلاقية بأن العدو قد انهزم، ليس في تل ابيب بل في عواصم مختلف مكوناته من واشنطن حتى باريس وحتى عواصم عربية. أي إذا كان هدف المجزرة إسقاط المقاومة وتحديداً استسلامها، فقد هُزم العدو لأنه اليوم في قلق هائل من مجرد وجود مقاومة. فالعدو، وهو مثقف وواع وعلمي جداً، ولكنه ليس تاريخي، هذا العدو يعرف أن مقاتلا شاباً يحمل غراد أو يفخخ نفسه هو أعلى بما لا يُقاس من جنرال حامل نياشين، يمكن لتذويبها سد عجز الميزان التجاري لدولة. فالجنرال ينهزم والشاب يصمد.
ما معنى هذا؟
معناه أن الشعب يدخل المعركة والدولة تنسحب، بل تتفق مع العدو على تصفية المقاومة. لماذا نخجل من قول الحقائق؟ إن بيوت العزاء هي في عواصم عربية لأن المقاومة صمدت. إذن في سياق الوضع المحلي لم ينتصر العدو وما زالت غزة بيد المقاومة، جريحة نعم، ولكنها ليست تحت ذل الاحتلال. ولأي عربي لا يعرف ذل الاحتلال، عليه أن يحاول توسيع خياله الثخين ليفهم ما معنى الذل تحت الاحتلال. ولكن، لا شك أن هناك عرباً تحت ذل اسوأ هو ذل أنظمة لا حاجة لوصفها.
وعلى الصعيد الإقليمي، حقق الاحتلال نصراً بوقوف أنظمة عديدة إلى جانبه تدعوه وتدعو لله أن ينصره على المقاومة. لهذا السبب تستنفر هذه الأنظمة إقليمياً ضد المقاومة. ولكن المتغير أن أنظمة في المنطقة وخاصة إيران وتركيا هما على الأقل ليستا مع هزيمة المقاومة، وهذا متغير شديد الأهمية.
وعلى الصعيد الدولي، فإن الاستعمار الذي لم يرحل حقاً، هو في غاية القلق، لأنه بدأ يواجه الشعب العربي عبر المقاومة، وبهذه المقاومة وحدها سوف يرحل، وسيحمل معه كثيراً من الأسر الحاكمة لتبني لها في واشنطن وشيكاغو ولندن (عرب -تاون Arab Town).
هذا القلق لدى الأطراف المعادية للمقاومة يؤكد أنهم لم ينتصروا.
لذا، لا بد من التفريق بين خطاب النصر الذي يؤكده تراجع الاحتلال حتى عن الأشبار التي احتلها في غزة، وبقائه في سيناء ورام الله والجولان ومزارع شبعا، وأجزاء شرقي نهر الأردن. وهو عدو لم يذق طعم الانسحاب إلا عام 2000 و 2006 والآن 2009.
مثقفو التيار السائد
كنت على شاشة المنار يوم 26 كانون ثاني مقابل السيد عمرو حمزاوي والسيد نجف من إيران. ورغم براعة حمزاوي كتكنوقراط إلا أن خطابه هو خطاب التيار السائد الذي يعتبر الوجود الصهيوني وجوداً عادياً على ارض له. ومع ذلك لم يتحدث عن النصر والهزيمة، ولكنه دافع بالنواجذ ليثبت ان أميركا ما تزال قوية ومرعبة، وهو خطاب مؤداه أن “لا تقاوموا أميركا”.
لم يحاول حمزاوي لمس انتصار او هزيمة المقاومة، لكن موقفه كان رسمياً بلا مواربة. إلا أن ما كتبه في جريدة الحياة (29-1-2009) ، يبين كيف بوسع الأكاديمي أن يلوي أعناق الحقائق وأن يلبس كل يوم لباساً سياسياً كملابسه القماشية، فيتغير جوهره طبقا لمظهره، فأي تطابق هذا.
كتب يوم 29-1-2009 في الحياة اللندنية ليؤكد هزيمة حماس وتطرفها في نقد منتقديها، ووصفها إياهم بالتواطؤ مع إسرائيل. وهنا حبذا لو يجد الرجل لحظات لينظر فقط إلى تقارير الفضائيات، حتى الأنظماتية، ليرى التواطؤ حتى في كيفية عرض الأخبار. هناك حقائق لا تخفيها الشطارة التكنوقراطية، ولا مصالح أفراد في وظائفهم. وفي هذه الحالة أفضل للمرء أن يغض الطرف عن امور تؤكد خواء تحليله الذي يقلل من شأنه العلمي والعقلي. بعبارة اخرى، من لا يمكنه رؤية ولمس روح الشعب، فلا داعٍ أن يمدح الأنظمة!
بينما كتب إيلان بابيه وهو إسرائيلي متمسك بإسرائيليته، أن الصواريخ بدأت بعد الحصار، لا يتطرق حمزاوي لهذه الحقيقة، وينضم إلى لائحة من يعتبرونها العاب أطفال. ولا شك أن حمزاوي يفهم الإنجليزية ليقرأ إيلان بابيه.
ولأن حمزاوي هو من التيار السائد، فلا أود إحراجه بالقول إن المعركة يا سيد هي على حق العودة، ولذا، من منظورنا كعرب، فإن إطلاق الصواريخ ضرورة وحق حتى بدون الحصار، وهو ما أشرت إليه على قناة المنار بعبارة: “يعتمد الأمر تحت اي سقف نتحدث، سقف 1967 أو 1948، وهل الكيان دولة على أرضها أم أرضنا”. لا يتطرق حمزاوي لهذه الأسس لأنه يفقد عندها اساس موقفه ومنطقه!
يركز حمزاوي في مقال الحياة على حماس ليس لأنها الطرف الأقوى في المقاومة، ولكن لعزل قوى المقاومة عن بعضها، ولكي يحاول نقدها كاصولية وإسلامية…الخ والأهم أنها كمغامرة، دخلت في هذه الحرب مع العدو. ويتجاهل حمزاوي أن الكيان هو الذي حاصر غزة منذ أن فازت حماس في انتخابات زعم الاحتلال نفسه ومن ورائه أنها نزيهة. وهذا الحصار مقصود به اقتلاع المقاومة، ليس لأنها حماس بلا لأنها مقاومة. ولأن مجرد وجود المقاومة يطرح وجود الكيان للتساؤل والرفض بعد أن اعترفت به الأنظمة الرسمية.
ليست المقاومة منزهة عن الأخطاء، ولكن عقلنة المقاومة إلى درجة الاستسلام أمر لا يليق إلا بالأنظمة، لا بالشعوب!
ورغم كافة المعطيات وحتى الأميركية عن الصراع على السلطة في غزة، ظل حمزاوي يتهم حماس بالسيطرة المنفردة، على غزة، منسجنماً مع التيار السائد. كما يرى أن هذا يقوض امكانية تحقيق دولة فلسطينية. وكأن المشكلة في الصراع العربي ـ الصهيوني هي مشكلة إضافة دولة إلى 22 دولة أم هي مشكلة استعادة وطن. لكن حمزاوي ليس معنياً بهذا لأنه يرى في قوة الاحتلال شرعية تاريخية. وهذا ما يعزله عن الشعب تماماً ويبقيه في ساح الأنظمة العربية. فليست كل أنظمة العالم هكذا! ورغم أن الرجل دبلوماسي، وتكنوقراط، إلا أنه يرفض رؤية ان 18 سنة من المفاوضات، انتهت إلى حكم ذاتي هو اليوم اصغر مما كان عليه في بداية المفاوضات!
ويرفض حمزاوي موقف حماس من اعتبار أهل غزة شعب مقاومة. ولكنه لا يرى أن الأنظمة التي يدافع عنها ولو بالمواربة ترفض مجرد تعاطف الأمة مع حق الشعب الفلسطيني في أرضه. لم تقم حماس بإرغام المواطنين هناك على أن يحمل كل مواطن مدفعاً. ولا شك كما اشرنا اعلاه، أن هناك من لا يريد المقاومة، ولكن مصير الأوطان لا يُقاس بحرص فرد على وضعه الخاص، ويكفي السماح لمن لا يريدالمقاومة أن لا يعيقها. ربما لأن عقلية السيد حمزاوي هكذا، لا يشعر بالعار من بقاء سيناء محتلة طالما هو يعيش في القاهرة أو واشنطن. لا يمكن للمقاومة استشارة أحداً حين تقاوم، لأنها تتصدى لمهمة وطنية. وحتى إذا كانت الأكثرية ضد استرداد الوطن، نظراً لغرقها بالمصالح وثقافة استدخال الهزيمة، فهذا لا يمنع المقاومة من الاستمرار في مشروعها.
عاد حمزاوي ليعزف على وتر رفض “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. لا باس، ولكن ما الذي على الفلسطيني ان يفعله والعدو يشن المعركة منذ 1897، وحتى معركة بيرس وأردوغان في دافوس. ما الذي علينا أن نفعله؟ هل نلقي على العدو الورود؟ خرج الاحتلال من قلب غزة إلى أطرافها، وحاصرها. اليست هذه معركة؟ قد نخرج عن لياقة التحليل حين نقول بأن ما يقوله الأكاديمي حمزاوي هو عيب، ربما لسبب واحد على الأقل، فهو في كل ما قاله على المنار وكتبه هنا وهناك، لم يقل أن فتح معبر رفح هو واجب حكومة مصر. قد لا يستطيع قول ذلك خوفاً من القمع، ونحن نفهم هذا، ولكن فلا أقل من التوقف عن ممالئة النظام ومهاجمة المقاومة، ليس كقيادة فحسب بل كروح أمة!
والحقيقة ان ليس السيد حمزاوي وحده الذي يشكك في النصر، فهناك فلسطينيون وعرب يفعلون ذلك. كل من أجل ليلاه. أما ليلى الوطن فهي حق للمقاومة. وبدون تفاصيل، ترى لو دخل الاحتلال غزة، وهو أمر توقعناه، بمعيار تفوق القوة والدعم الرسمي العربي والدولي، هل كان سيقول هؤلاء أن الوضع أفضل والنتائج اشرف!