كلاوزفيتز أو “جهينة” حرب غزة

فيصل جلول

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1790)

“كل الحروب في النصف الثاني من القرن العشرين لم تنتهي بالاستسلام دون قيد شرط. انتهت كلها باتفاقات. كل القوى العظمى التي خاضتها لم تصب بهزيمة عسكرية إلا فرنسا في ديان بيان فو. كانت الدول العظمى تتخلى في هذه الحروب عن القتال بسبب تعبها وبعد اقتناعها بانها لن تنتصر كما حصل للأمريكيين في فييتنام وللسوفيت في افغانستان. وهذا دليل على ان النصر العسكري لا يضمن نصرا سياسيا او إستراتيجيا. ” لم تعصم هذه القاعدة المعروفة الرئيس الأمريكي جورج بوش عن مغامرته العراقية وربما تسير افغانستان على الطريق نفسه فتكون قد اكدت القاعدة مرتين واحدة مع السوفييت والثانية مع الأمريكان.

ليست حروب النصف الثاني من القرن العشرين وبداية الالفية الثالثة استثناء في “علم الحرب” الذي وضع اسسها الجنرال البروسي “كارل فون كلاوزفيتز” والصيني “سون زو” واخرين. فهي مصنفة في خانة الحروب غير المتكافئة التي يتجابه فيها طرف فائق القوة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وطرف محدود التسلح لكنه يتمتع بعناصر قوة معنوية تعظم سلاحه وفي طليعتها قوة الارادة والشجاعة العالية والتعبئة الايديولوجية و القدرة على التنظيم والتخفي ناهيك عن الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس.

وتندرج الحرب في غزة في هذا الاطار تماما كحرب تموز – يوليو عام 2006 في لبنان. وهي جديرة بالقراءة في السياق المنهجي المذكور وليس بطرق سجالية أو عبر احكام مجاملة او عدائية مسبقة. وعليه لا بد من العودة الى كلاوزفيتز (في بحث ريمون ارون – الجزء الاول حول العصر الأوروبي. صادر عن دار غاليمار عام 1976) لقياس ما اذا كانت حرب غزة “عبثية” كما يؤكد بعض المعأرضين للتيار المقاوم او فعلا تأسيسا في الصراع المصيري حول فلسطين كما يؤكد المقاومون.

يؤكد كلاوفيتز أن “ميزان القوى العسكري مهم لكن يجب ايضا الاخذ بعين الاعتبار العناصر المعنوية

فالإستراتيجية لا تملي بالضرورة على الطرف الضعيف ان يعتبر ان لاشيء لديه يفعله غير الاستسلام بل العكس تماما فالإستراتيجية تملي عليه ان يعوض ضعفه المادي بتعظيم العناصر المعنوية التي يتمتع بها” ص 86 وفي موضع آخر يقول “فن الحرب لا يقتصر على حساب الكلفة والربح” ص 87

أن الناظر الى ميزان القوى العسكري بين المقاومة وإسرائيل مجبر على اعتماد واحد من خيارين: التسليم بالفارق العسكري الهائل والاتعاظ بالكلفة العالية للمجابهة وبالتالي القبول بالشروط الإسرائيلية او اعتماد الخيار المقاوم وبالتالي الاتعاظ بدروس “علم الحروب” وبالتجارب المذكورة آنفا والواضح ان التيار المقاوم اعتمد هذا الخيار في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي سقط مسموما وفي غزة وما الحرب الأخيرة إلا من هذا الأثر.

ويرى كلاوزفيتز ان الطرف الأضعف في الحرب يعتمد أسلوب الدفاع وليس الهجوم ذلك ان القتال الدفاعي يعطي المدافع أفضلية نسبية على المهاجم ص 87 وهو ما وقع في غزة حرفيا.

وفي مكان آخر يتساءل الجنرال الألماني “…. كيف يمكن حمل العدو على رفع كلفة الانتصار في حربه”؟ ويجيب “.. عبر اجباره على نشر قوات اكبر أو إصابة قواته بضرر كبير أو السيطرة على جزء من أرضه أو اجتياح بعض محافظات العدو من اجل أحداث ضرر فيها وليس من اجل الاحتفاظ بها أو نهبها أو تدميرها. ثم انهاك العدو باستنزاف قواته واضعاف ارادته عبر اطالة المعركة لحمله على التخلي عن الأهداف التي رسمها للحرب” ص 136

إن العودة الى تفاصيل حرب الاسابيع الثلاثة الاخيرة تبين بوضوح ان الصواريخ التي اطلقت على المستوطنات كانت في ايقاعها المنتظم رغم جحيم القصف واستعراض القنابل الفوسفورية في سماء غزة تشل جبهة العدو وتضعف ارادته وتتحدى آلته العسكرية وذلك لحمله على الاقتناع بلا جدوى المعركة والقتال وهو ما وقع بالفعل.

ويوضح كلاوزفيتز في مكان اخر”.. حين لا يمكن طرح العدو أرضا او تدميره يكون الرهان على من يستنزف اولا.” بعبارة اخرى فالرهان “.. ليس قصم ظهر العدو بقدر توفير القوة الذاتية والاحتفاظ بعناصر مفاجئة في المعركة”. ص 141. وغير محسوبة مسبقا. والراجح ان المقاومة في غزة اعتمدت هذه القاعدة في القتال فهي اقتصدت في التضحية بمقاتليها حيث لا تكون لها افضلية القتال أو حيث لا يمكنها القتال بشروطها ولم تعبأ بالتصريحات الاستفزازية حول لجوء قيادتها ومقاتليها الى الانفاق.

ويستفاد من تصريح لاسامة حمدان في اليوم الاخير من المعارك ان المقاومة “استخدمت سلاحا جديدا “مفاجئا” ربما كان بين الاسباب التي حملت إسرائيل على اعلان وقف النار”.

ويستفاد من قاعدة اخرى في علم الحرب ان النصر فيها نادرا ما يكون مطلقا والهزيمة ايضا لا تكون مطلقة ولعل المنتصر فيها ان جاز التعبير هو “الذي يقول كلمته في ربع الساعة الاخيرة” وهنا ايضا يلاحظ ان المقاومة واصلت اطلاق صواريخها على المستوطنات بعد ساعات طويلة من اعلان إسرائيل لوقف النار من طرف واحد. وقد عاودت إسرائيل اطلاق النار من البوارج الحربية لكن خارج سياق الحرب اي بعد ان ختم الكلام فيها. تبقى الاشارة الى القاعدة الاساسية للحرب بحسب كلاوزفيتز فهي “عمل عنيف يهدف الى فرض ارادة طرف على طرف اخر”

بالقياس الى هذه القاعدة يلاحظ ان المقاومة لم تتخل عن اي من شروطها في حربها الدفاعية عن غزة في حين فشلت إسرائيل في حربها الهجومية في فرض ارادتها وأي من شروطها على المقاومين.. اقله حتى كتابة هذه السطور.اما عن الخسائر المدنية واضرار البنية التحتية الفلسطينية فهي جسيمة الى حد ان إسرائيل تبذل جهودا حثيثة لحماية جنودها من العقاب الدولي بتهمة ارتكاب جرائم حرب.. وذلك للمرة الاولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

لم تطرح المقاومة الفلسطينية “إسرائيل أرضا” في حرب غزة لكنها استخدمت بطريقة مدهشة قواعد حرب الضعفاء ولعل عدوها يدرك ذلك بدقة في حين ان عددا من بنيها الاقربين والابعيدن استبطنوا ثقافة الهزيمة حتى صاروا لا يرون ولا يفقهون.