عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1794 )
نعم، ما قبل غزة، يجب نفيه لصالح ما بعد غزة. إذا كانت الثورات قاطرات التاريخ، فالمذابح قاطرات أكثر قوة وشدة وتأثيراً. في حقبة العولمة، أصبحت المذابح قاطرات التاريخ، نعم في حقبة العولمة حيث الثورة العالمية محتجزة، تحل المذابح مكان الثورات، وتستثير الثورات في التحليل الأخير. هذا ما يجري في العراق وأفغانستان ويوغسلافيا وغزة، وما سيتبع، ولا يوجد ما يؤكد أنه لن يكون كثيراً.
ما معنى الحراك الغربي الراسمالي بعد غزة، دبلوماسيا وعسكرياً؟ ما معنى زيارات سولانا وجورج ميتشل ولوي متشل وتوني بلير، وما معنى تحرك الأطلسي لمحاصرة الوطن العربي منعاً لوصول السلاح إلى غزة، وما معنى اتفاق رايس-ليفني على محاصرة شواطىء وأجواء الوطن العربي؟ هل اكتشف المركز المعولم طائرات سوخوي هناك في غزة، أم قنابل نووية تكتيكية؟ ما الذي أثار عش الدبابير هكذا؟
تكشف هذه التحركات عن أمر آخر، لا يدور الحديث عنه: هو اللحظة الفارقة بين ما قبل غزة وما بعدها. اعتقد العدو الراسمالي الغربي أنه طوُّق حزب الله في لبنان، وأنه ضمن المنطقة من انتشار المقاومة. وعاد لترتيبات الشرق الأوسط الكبير بعد ذلك. ولكي تنطلق يداه عبثاً في المنطقة قرر تصفية المقاومة في غزة.
كانت النتائج مخالفة للتوقعات. فقد اكد صمود غزة أن الشعب العربي يدخل المعركة سواء بصمود غزة أو التدفق إلى الشوارع تضامناً مع غزة ورغبة في المشاركة.
هنا نصل إلى بيت القصيد. لقد أدركت دوائر العدو أن الشعوب الصامدة الصابرة تحل تدريجيا محل الأنظمة المهزومة والجيوش البالية. فالأنظمة تحترف الهزيمة والشعوب تصر على المقاومة وصولاً إلى النصر. إذن لا بد للعدو من الإسراع في إحراق المنطقة قبل ان تحل الشعوب محل الأنظمة. فهو يفقد صوابه حين يجد نفسه في اشتباك مع الشعوب وليس مع جيوش ثقافتها قتل الشعب والانسحاب امام غزو الأجنبي. المعركة مع الشعب، ليست هي المعركة التي يريدها للمركز الراسمالي المعولم والصهيوني.
هو سباق مُرٌّ وفي وقت محدود، فإما أن تُصفَّى المقاومة بأي ثمن، وإما أن يُصفَّى، ولو تدريجياً، الوجود والمصالح الإمبريالية والصهيونية في المنطقة ايضاً. لذا كان تدمير غزة بمبالغة لا نظير لها، ولذا، كان التأييد الغربي الرأسمالي، من كل الغرب الرسمي، وتأييد الكمبرادور العربي تاييداً مفتوحاً واحتفالياً. فالمطلوب التخلي عن كافة الحقوق وعلى رأسها حق العودة، أو الموت.
لقد أدرك العدو أن عقدين من المفاوضات قد افرغت الانظمة العربية من دورها في “مبادرتها – هرولتها” لتصفية القضية، وأدرك أن الشعب ضاق ب “السلام خيار استراتيجي”، لكن هذا العدو يُدرك أنه لن يعطي الفلسطينيين شيئاً في الوقت نفسه، فلا بد له من مواصلة الهجوم كي يقبل الفلسطينيون بالحكم الذاتي ويستكثرونه. من هنا كان الرد على صوايخ المقاومة فظيعاً، علماً بأن إطلاق الصواريخ حصل بعد الحصار الذي فرضه الاحتلال على غزة.
ما بعد غزة
يعني ما بعد غزة، أن منظمة التحرير الفلسطينية أمام احد خيارين متناقضين لا يتصالحان:
إما أن تكون منظمة المقاومة أو المفاوضات. لتكون منظمة المقاومة، لا بد من إخراجها خارج الأرض المحتلة، لا بد من العمل بعيداً عن الأسْر لدى الاحتلال. ولا بد ان لا يكون رئيس المنظمة هو رئيس سلطة الحكم الذاتي تحت الاحتلال.
هذا يشترط خروج قيادة منظمة التحرير إلى الخارج، وعندها ينحصر التفاوض، إن كان لا بد منه، بيد قيادة الخارج. وهذا يثبت أن الحديث والإطراء في نقل القيادة إلى الداخل منذ 1990، لم يكن إلا هتافاً للوقوع بين انياب الوحش.
وخروج المنظمة إلى الخارج هو وحده المدخل إلى الوحدة الوطنية. هناك لا تكون القيادة اسيرة إملاءات الاحتلال ولا الأنظمة الغربية. وعندها لا يكون هناك مناخاً للتنافس الفلسطيني داخل الأرض المحتلة على السلطة. عندها تكون السلطة لا سياسية، بل مدنية اجتماعية إدارية أمانية (من أمان وليس أمناً). صحيح أن هذه السلطة غير السياسية وغير التفاوضية يمكن أن تنغمس في فساد ومصالح وغيرها، لكن هذا يظل اقل مدعاة صراع مميت من كونها سلطة سياسية مفاوضاتية.
وكما اشرت في مقال سابق، فإن نقل المنظمة إلى الخارج، وحصول انتخابات لمجلس الحكم الذاتي في حدود الحكم الذاتي وليس في حدود التفاوض السياسي قد يستدعي وقفاً غربياً للمساعدات المالية. لكن هذا يستدعي وضع الأنظمة العربية أمام مازق توفير الحل للمسألة المالية، ويضعها في تنافر مع المعسكر الغربي مما يضطرها لرفع سقفها.
التقاط لحظة الإصغاء
في هذه اللحظة بالتحديد، سوف يدور النقاش عن الحقوق، وستكون هذه لحظة التوضيح مجدداً للعالم أن اساس الصراع ليس احتلال 1967 وإنما 1948، وأن لا حلول إلا بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم.
لا بد من التذكير أن الأنظمة العربية والقيادة الفلسطينية قد وقعت في مأزق تنازلي هائل، ما زلنا ندفع ثمنه، وهو ربط سقف المطالب العربية والفلسطينية بالعودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967. وهو الأمر الذي ضلَّل العالم الشعبي ليعتقد أن اوسلو قد اعاد للفلسطينيين ما هو حقهم.
وعليه، فإن اللحظة الحالية من إصغاء الشارع العالمي لمطالبنا، وحرج الالم الرسمي، هي لحظة هامة في توضيح اساس الصراع، وهي نفسها التي تغير آليات التحليل لكي تتضح حقيقة أن المقاومة هي ضد عدو يحتل ارض شعبنا، وليست الصواريخ ضد دولة مجاورة تجلس على أرضها هي نفسها.
سيكون هذا مكلفاً، ولكن لا بد منه. وعليه، فإن إخراج قيادة م.ت.ف إلى الخارج أمر ضروري لكي نتمكن من شرح حقيقة 1948 للعالم.
الانتخابات
يكون للانتخابات في الأراضي المحتلة معنى مختلفاً في حال بقيت قيادة المنظمة في الداخل عن معنى الانتخابات إذا ما انتقلت قيادة المنظمة إلى الخارج. وفي هذا الصدد أعتقد ان الموقف الصحيح هو ما دعوت له منذ الانتخابات الأولى والثانية في الضفة والقطاع المحتلين وهو عدم المشاركة في انتخابات سياسية تحت الاحتلال. وبالمقابل، فاي انتخابات غير سياسية هي حق وضرورة لترتيب أمور فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة.
فما نصت عليه اتفاقات أوسلو وما يسمح به الاحتلال ليس سوى مجلس للحكم الذاتي ليست له صلاحيات تشريعية، كما أن السلطة ليست لها صلاحيات سيادية. ومع ذلك لهذه السلطة صلاحيات التفاوض مع الاحتلال. وفي هذا تناقض واضح. فكيف يمكن لسلطة تحت الاحتلال، غير مستقلة أن تفاوض على الأرض مع انها لا يحق لها طبقاً لاتفاق أوسلو ان تكون سيدة على الأرض؟
بعبارة أخرى، لقد وضع الاحتلال سلطة الحكم الذاتي بين الاحتلال والاستقلال. فالجانب الاحتلالي فيها هو عدم تمكينها من السيادة على الأرض، والجانب الاستقلالي فيها هو التحكم بالحياة اليومية للمواطنين. وهو الأمر الذي يجب أن يُحسم بمغادرة منظمة التحرير إلى الخارج، كي لا تعود هناك فرصة للاحتلال بأن يغتصب من قيادة المنظمة قرارات أو ينتزع ويصادر مزيد من الأرض بينما ينحصر موقف قيادة المنظمة في الشجب. والشجب والقيادة في الداخل ليست له القوة القانونية كما هي في الخارج، لأن وجودها في الداخل يضعها في حالة تصالح مع العدو وليس تناقضاً. والموقف المناقض هو تجنيدي أكثر للراي العام لصالح القضية.
الاشتباك المفتوح
على ضوء ما تقدم/ ونظراً لخشية العدو من تفاعل المد الشعبي العربي مع المقاومة، وتطور مواقف رسمية غير عربية لصالح المقاومة كما هو حال إيران وتركيا وفنزويلا وبوليفيا، فإن العدو الصهيوني تحديداً سوف يلجأ إلى الإشتباك المفتوح بهدف إرباك وإضعاف المقاومة.
وقد ينجح العدو في هذا، ولكن هذا يشكل مكسباً للقضية بمعنى تنبيه الراي العام العامي بأن القضية الفلسطينية لم تُحل، وبالتالي تعريف الراي العام العالمي بأن حق العودة إلى المناطق المحتلة 1948 ما زال قائماً.
من جانبها، فإن من مصلحة المقاومة مواصلة التصعيد التكتيكي باشتباكات غير واسعة مع العدو كي تبقى صورة الصراع حية في مخيال العالم. أي لتكون المقاومة تذكير للعالم بأن الحل هو في عودة اللاجئين.
في هذا المستوى، وطالما ان العدو يواصل عدوانه، وطالما ان الاشتباكات متواصلة، بغض النظر عن شدتها، فإن هذا يشكل تحريضاً للمواطن العربي كي يضغط على حكومته بعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وسحب اعتراف من اعترف، وبعدم التطبيع، ويربي نفسه وأهله على مقاطعة المنتجات المعادية إسرائيلية وغربية /أميركية وأوروبية.
وإذا ما نجحت الحركة الشعبية في هذا تكون قد أنجزت ترميم الحد الأدنى من الموقف العربي لصالح القضية الفلسطينية. وهذا بالطبع تركيز وتحضير للمعركة النهائية، بغض النظر عن وقتها.
لا شك أن العدو يفهم تكتيك المقاومة، ولذا، فهو ربما يواصل الاشتباكات المتقطعة أو يحاول تمزيق حماس وكل المقاومة مرة وإلى الأبد.
بانتظار ماذا؟
قد يسأل سائل، ولكن بانتظار ماذا كل هذا السباق وهذه التضحيات وهذه المجازر؟
حين يتعلق الأمر بمصير وطن وشعب، لا يعود نضال المقاومة ولا يعود العمل الثوري مسألة خيار، بل واجب. وسيكون سعيداً من لا يريد المشاركة في النضال إذا لم يعاتبه على ذلك أحداً.
كل هذا بانتظار الوصول إلى حل جذري ونهائي لصراع، والتخلص من المسلسل المرعب لإدارة الأزمة.
لن يكون حل الدولتين كافٍ ولا مرضٍ للشعب العربي قط. هذا إذا سمح به الاحتلال اصلاً. لن يكون الحل إلا بعيد المدى، وطويل مشواره، حل الدولة الواحدة المقامة على هزيمة الكيان الصهيوني على يد المقاومة الفلسطينية والثورة العربية وصولا إلى دولة عربية واحدة واشتراكية بما فيها فلسطين. لوصول هذا مطلوب مقاومة مستمرة .