أصدق الكلام ما قل ودل

أكرم إبراهيم

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1801)

نشرت ” النور”، في عددها ذي الرقم 374 ، تاريخ 28|1|2009 ، أي بعد عشرة أيام من وقف العدوان العسكري على الشعب الفلسطيني في غزة، بياناً مشتركاً ل “جبهة اليسار” زائدة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة الإسرائيلية، تحت عنوان “فلتتكاتف كل الجهود من أجل وحدة شعبنا”.

هذا البيان المليء بالاستطرادات والحشو، حتى ليصعب على القارئ متابعة أفكاره، أتى على ذكر الانقسام والوحدة الوطنية سبع مرات صراحة وثلاث مرات بالمعنى، ومثلها تقريباً تضحيات الشعب وحقوقه، في محاولة لخطف نظر القارئ العادي عما له دلالة خطيرة، لكنه ذكر بكلمة واحدة ولمرة واحدة.

* فكرة المقطع الأول هي أنه بالنظر إلى استغلال إسرائيل لحالة الانقسام في مواصلة عدوانها في الضفة وغزة وجبت الدعوة إلى تكثيف الجهود لتجاوز هذه الحالة وإلى ” عقد اجتماع فوري لجميع القوى الفلسطينية، في القاهرة” لهذا الغرض.

لو أراد المتابع أن يحصي ما ينسب إلى الانقسام من مخاطر لاحتاج إلى مجلدات. واللافت عند هؤلاء هذا الصمت عن تفسير وشرح كيف يؤدي الانقسام إلى كل هذه النتائج، ما يوحي بالرغبة في التهويل من أمر الانقسام لغاية في أنفسهم. ما يفضح هؤلاء، هذا الصمت عن أسباب الانقسام وسبل تجاوزه، والاكتفاء بالحديث عن الانقسام المجرد، في محاولة لتحميل المنقسمين نفس القدر من المسؤولية؛ فكما يقال في علم الجريمة، عدم ترك دليل هو دليل. كل المعنيين بالقضية يتحدثون عن ضرورة الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسام، قوى المقاومة وحلفاؤها، سلطة أوسلو وحلفاؤها الإقليميون والدوليون، وحتى إسرائيل، كلهم يتحدثون عن ضرورة تجاوز هذه الحالة. لكن من الطبيعي أن كل طرف يريد من “الوحدة الوطنية” جلب الطرف الآخر إلى بيت الطاعة.

إن الأداة الرئيسية لخصوم المقاومة هي طمس الفرق بين سلطة غزة وسلطة رام الله، ليس فقط بالحديث عن الانقسام المجرد، بل بالحديث عن استهداف إسرائيل للضفة وغزة دون تفريق؛ فلقد سبق لي أن استشهدت بما نقله موقع “كلنا شركاء” بتاريخ 30|12|2008 ، أي بعد ثلاثة أيام من بدء العدوان العسكري، عن أمين عام الجبهة الديمقراطية، إحدى الأطراف الموقعة على البيان، حيث يقول إن “السلطة كلها تحت الاحتلال”، وإن }ما يجري الآن على غزة يذكرنا بحرب “السور الواقي” التي شنها شارون في آذار/ مارس 2002، ودمر فيها كل مراكز السلطة والأجهزة الأمنية، وحاصر مقر عرفات حتى رحل مسموماً في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، واحتل جيش الاحتلال كل مناطق السلطة حتى يومنا هذا{. الذي يفهم من هذا هو أن سلطة محمود عباس واقعة تحت الاحتلال ولا فرق، والهدف من جديد هو تدمير “كل مراكز السلطة والأجهزة الأمنية” ولا فرق أيضاً بين أجهزة أمنية تسلحها إسرائيل وأعوانها وبين أخرى تستهدفها بالقصف والحصار. ظاهر كلام البيان عن عدوان إسرائيل في الضفة وغزة هو أن الشعب فيهما هو المستهدف، فإذا أخذنا بالظاهر يكون هذا الكلام نافلاً بمقدار ما هو واضح ومسلم به، والحال أن الكلام لا يلقى جزافاً، فما هو المراد من الذكر؟! لنسأل المسكوت عنه، ألا وهو كيف تتعامل كل من السلطتين مع هذا العدوان؟! هذا المسكوت عنه، إذا ما قرن بذكر ما هو طبيعي ومسلم به، يبعث على الاعتقاد بأن المراد من الكلام المذكور هو الإيهام بأن حكومتي غزة ورام الله معنيتان برد العدوان، أو أنهما المستهدفتان عبر استهداف الشعب في الضفة والقطاع، بناء على ما هو مألوف مع الحكومات العربية في السنوات الأخيرة.

الموقف من هذا المسكوت عنه لا يخفى على المتابع لسلوك وتصريحات الأطراف الموقعة. ولقد تناولت هذا الأمر في كثير من المقالات، لكننا لا نعدم إشارة إليه في كل مقطع من مقاطع هذا البيان نفسه. في هذا المقطع نجد أنه بدلاً من أن تصمت هذه القوى عن تحديد مكان الحوار، أو تعلن عن القاهرة مكاناً غير مناسب له، تبادر هي بنفسها إلى ذلك، فماذا يعني هذا؟! ألا يعني إغلاق معبر رفح قبل العدوان العسكري وأثناءه ( كان يمكن فتحه أثناء العدوان باتجاه واحد ) وبعده شراكة في العدوان؟! ( 1 ) وهل ما حدث سابقاً كان حواراً، أم أن هذه القوى مرتاحة لأمر الجلب الذي تنفذه السلطة المصرية بحق المقاومة؟! من هي القوى التي ستقول كل الحقيقة للجماهير غير تلك التي تؤمن أن الحقيقة ثورية دائماً؟! حماس لا تستطيع أن تعلن هذه الحقيقة حتى لا توفر ذرائع ومادة إعلامية لسلطة التبعية في القاهرة، وهي فوق ذلك قوة دينية رجعية متخلفة، وليست قوة يسارية علمانية تنويرية ثورية تقدمية مناضلة ضد الامبريالية والأنظمة التابعة لها.

عندما طرح برنامج “الدولة والعودة وتقرير المصير” قيل إن الثورة ستقيم سلطتها على كل شبر محرر ( كلام نافل كما نرى ). والآن لدينا قطاع غزة تسيطر عليه المقاومة ولا ينقصه ليكون محرراً إلا فتح معبر رفح، لكننا بدلاً من الضغط على السلطة المصرية نراهم يوفرون لها الغطاء بتقديمها وسيطاً في الحوار وليست طرفاً، تماماً مثلما يوفرون الغطاء لسلطة عباس المتعاونة.

* فكرة المقطع الثاني هي أن الهدف مما سبق ذكره هو تضميد الجراح و ” التصدي لمخاطر تصفية القضية، عبر تصفية الوحدة السياسية والقانونية، والجغرافية، لأراضي الدولة الفلسطينية المنشودة، على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 ، وعبر تفتيت التمثيل الفلسطيني الموحد للشعب الفلسطيني، الذي حققته م.ت.ف … “. إذاً تصفية القضية تكون عبر التفتيت وعبر تصفية الوحدة، ولا شك أن حماس هي التي بادرت إلى ذلك عبر الصوملة والانقلاب كما يحب نايف حواتمة أن يكرر.

إن الواقع يقول، وعلى لسان جميع الساعين إلى تصفية القضية، بأن الحسم في غزة هو الذي عرقل عملية التصفية الجارية، الأمر الذي يفسر هذا التكالب الاستعماري عليها وعلى حلفائها. أما تفتيت التمثيل، فمن المؤكد أن سرقة منظمة التحرير من قوى هامشية ومعزولة، تستمد قوتها من دعم القوى الاستعمارية وأذنابهم من القوى الإقليمية التابعة، أشد خطراً على القضية. هذا ما يفسر رفض قوى التعاون لإعادة بناء المنظمة على أسس ديمقراطية، وتكاسل قوى التسوية، الهامشية هي الأخرى، في هذا الأمر.

لقد كانت هذه القوى مبادرة إلى تجزئة القضية الفلسطينية إلى مشردين وأراضي 67 وأراضي 48 عبر شعار “الدولة والعودة وتقرير المصير”. وهاهي تضع مكونات الشعب الفلسطيني في مواجهة بعضها بدلاً من أن تكون واحداً في مواجهة الكيان الاستيطاني؛ فهي تغري فلسطينيي 67 ، رأس الحربة اليوم في الصراع، تغريهم بدولة وتترك المقتلعين وشأنهم إذ تخلط القرارات الدولية بعدد كبير من المرجعيات التي أبدعتها القوى الاستعمارية وأذنابها من الأنظمة التابعة، وتغريهم تحت شعار إزالة المستوطنات من الضفة بإغراق أراضي 48 بنصف مليون مستوطن يقيمون حالياً فيها. لذلك هي نفسها التي تضعف منظمة التحرير كممثل جامع لكل مكونات الشعب الفلسطيني من أجل سلطة وهمية تحت الاحتلال.

إن القوى الاستعمارية لن تعترف بمنظمة تحرير تستحق اسمها، ولا يجب أن ندفع القضية ثمناً لمنظمة لا تستحق هذا الاسم؛ نعم لمنظمة تحرير مبنية على أسس صحيحة تمثل الشعب الفلسطيني تمثيلاً صحيحاً، ولا لمنظمة معششة فساد تمثل قوى هامشية تفرط بالحقوق باسم الشعب.

* فكرة المقطع الثالث هي أن “الوحدة الوطنية” سلة مليئة بالمن والسلوى. بعض هذا المن والسلوى هي “أنها تمثل ركيزة إستراتيجية لمواصلة التصدي للنتائج المترتبة على العدوان الإسرائيلي وأهدافه السياسية والأمنية، وفي مقدمتها تكريس الانقسام وتجريد الشعب الفلسطيني من حقه المشروع في مقاومة الاحتلال كما كفلته له الشرعية الدولية”.

مثلما حاولوا الاستفادة من الحصار من أجل فرض برنامجهم فقالوا أن الحصار قاسٍ، لا يفك إلا ببرنامج وحدة وطنية، يستجيب للشرعية العربية، كذلك يدعون الآن، بعد العدوان وما خلفه من دمار، إلى الوحدة ( جلب المقاومة إلى بيت الطاعة ) من أجل إعادة الإعمار أو التصدي للنتائج المترتبة على العدوان.

أما أن يكون تكريس الانقسام هدفاً للعدوان، فعلى ما أذكر كان أول من تحدث عن الوحدة الوطنية الفلسطينية هم المحللون السياسيون في الكيان الاستيطاني، ثم تبعهم في ذلك بقية السرب. واليوم، بعد العدوان، رصدت تصريحات تدعو إلى المصالحة والوحدة الوطنية لعدد كبير من أعداء المقاومة الإقليميين والدوليين. وإنني لآمل أن القارئ سيلاحظ بعد الآن، عند سماعه لهذه الدعوة، في أي سياق تأتي؟ وعلى لسان من؟

أما تجريد الشعب من حقه في المقاومة كهدف من أهداف العدوان فهذا صحيح. لكن لنلاحظ أن المقاومة المشروعة في البيان هي المقاومة كما كفلتها الشرعية الدولية، فما معنى هذه المرافعة ضد بعض أشكال المقاومة؟! ولماذا لا نتركها للمستوطنين أنفسهم؟! الشرعية الدولية ضد العمليات الاستشهادية وضد صواريخ المقاومة باعتبارها تمس المدنيين، واستعمال “كما” يحصر المقاومة المشروعة بتلك التي تطال الجنود. لكن القانون الدولي تحدث بشكل عام ولم يلحظ هذه الحالة الخاصة، حالة المستوطنين، فهل المستوطن معتدٍ حتى في حال لم يحمل السلاح؟! هو كذلك لأنه قبل بعملية التشريد، ولأنه يمتلك عن طيب خاطر ما تركه المشرد خلفه، وهو إن لم يحمل السلاح بشكل دائم فلأن جيش دولته يقتل بالنيابة عنه. هذه مرافعة ممكنة، فلماذا تقدم هذه القوى المرافعة المضادة؟! قد يقول قائل إن المشكلة تكمن في الصياغة، لكن ما الحاجة لهذا التعبير كله من الأساس؟! فالحق بالمقاومة، كحق نابع من الطبيعة والفطرة الإنسانية، ليس بحاجة لغطاء من أي نوع، بل هو مصدر التشريع. لذلك أقول أن العبارة جاءت للتحديد والحصر، إلا إذا كانت تصدر عن ذات متهمة تدافع عن نفسها. وعلى كل حال، ليس من روح المقاومة، ولا من ثقافتها، أن يربى الناس على تقديس ” الشرعية الدولية” التي تخرج اليوم عن أي ضابط إلا مصالح الدول الاستعمارية.

* فكرة المقطع الرابع هي أن الوفاء لمن ضحوا، يتمثل الآن في السعي الفوري من أجل إنهاء الانقسام “على قاعدة برنامج التحرر والاستقلال الوطني، والتعددية السياسية والديمقراطية، واستناداً إلى إعلان القاهرة عام 2005 ووثيقة الوفاق الوطني التي وقع عليها” الجميع.

فيما عدا ذكر إعلان القاهرة، فهذا الكلام لا يفيد بشيء، ولا يميز هذه القوى عن السلطة؛ فالسلطة تقول كل هذا. لكن وثيقة الوفاق الوطني تستحق وقفة خاصة؛ فلقد أربكت هذه الوثيقة قوى المقاومة؛ فهي تتناقض مع برنامجها رغم صدورها عن مقاومين لهم كل الاحترام في أوساط شعبهم، فما هي حقيقة الأمر؟ الأسرى هم إما قادة يعرفون استخدام الكلمة، من نمط عبد الرحيم ملوح ( يستبعد شعار الدولة الواحدة لأن إسرائيل لا تقبل به!!.. ) وإما مقاتلون طهرانيون لا يجيدون قراءة النصوص. أما القادة الجذريون فلقد تكفلت بهم الصواريخ ولم يؤسروا. لهذا كان من السهل على أولئك القادة تسويق تلك الوثيقة في أوساط الأسرى. وبالتالي هذه الوثيقة ليست وثيقة منتصف الطريق أو الحل الوسط؛ إنها وثيقة السلطة المتعاونة وحلفائها، عبر صدورها من المعتقلات عن نفس انتهازي لدى من كان خلفها ولدى من تمسك بها، نظراً لأنه حاول استغلال مشاعر الناس تجاه الأسرى ليحرج المقاومة ويفرض عليها وثيقة لا تستجيب لمصالح شعبها.

يفترض بمن يبدي كل هذا الحرص على الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسام أن يأتي على المطالبة بتنفيذ اتفاق القاهرة بمقدار ما أتى على ذكر الوحدة الوطنية بمعنى أن معيار الصدق في الأولى هو الصدق في الثانية فلا شيء يحقق الوحدة الوطنية كاتفاق يعيد بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية لكن الدعوة إلى تنفيذ اتفاق القاهرة لا تلقى هذا الحماس من نهجي التعاون والتسوية ولا نسمع بها إلا في المناسبات بخلاف الدعوة إلى تجاوز الانقسام التي تعلك على مدار الساعة إنهم يريدون منظمة على مقاسهم بدليل أنهم في البيان ربطوا تنفيذ الاتفاق بوثيقة الوفاق الوطني في حين يفترض فيه أن هذه المنظمة هي التي ستضع وثائقها وإلا لم يتغير شيء وبقينا إزاء منظمة توضع لها البرامج.

ينوه البيان بأن الجميع وقع على وثيقة الوفاق الوطني ويقترحها أساساً للوحدة الوطنية، وكانت القوى الموقعة عليه قد قالت عن اتفاق مكة ( حول وثيقة الوفاق الوطني، أو وثيقة الأسرى، بعد التعديلات التي أدخلت عليها ) إنه اتفاق محاصصة أو إنه اتفاق ثنائي، وإنه لن يصمد بسبب هذه المثلبة فيه. وفعلاً لم يصمد هذا الاتفاق، لكن ليس للسبب المذكور، بل لأن المسافة بين الطرفين لا يمكن جسرها إلا على الورق. ولن يصمد أي اتفاق، ما لم يصدر عن منظمة تحرير ديمقراطية، تمثل القوى تمثيلاً صحيحاً، دون استقواء بالاحتلال أو بالقوى الدولية والإقليمية الداعمة له. لذلك فإن الإصرار على إحياء وإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير هو خير تعبير عن التمسك بالوحدة الوطنية والرغبة في تجاوز الانقسام، وإلا فإن الحديث يجري عن وحدة الأراضي المحتلة عام 67 ، وحدة تجزئ الشعب الفلسطيني ككل. الاقتصار هنا على الدعوة إلى رد الاعتبار لمنظمة التحرير، عبر استردادها من ياسر عبد ربه ومحمود عباس، يعادل استرداد القضية وإعادة توحيدها، عبر الاقتصار على شعار حق العودة للمشردين، أو على القرارات الدولية دون خلط بمرجعيات أخرى. وكلاهما تخاف منه هذه القوى خوف الجن من “باسم الله الرحمن الرحيم”.

لقد رفضت هذه القوى الاشتراك في حكومة وحدة وطنية مع حماس بدعوى أنها لا تعترف بمنظمة تحرير فلسطين وبالقرارات الدولية، ما حدا بحماس لتشكيل حكومة من لون واحد، الأمر الذي انعكس على خطواتها الأولى، كوقف التعاون الأمني مع العدو وتشكيل وزارة للمشردين، لكنه من ناحية أخرى سمح للقوى المعادية بتصوير الخلاف على أنه مع حماس التي صفتها كذا وكذا، وهو في حقيقته خلاف مع نهج المقاومة، نهج التمسك بحقوق المشردين كأساس وجوهر للقضية. وها هي حماس تسحب الشعار من المتاجرين به، وتعلن في كل مناسبة دعوتها إلى تنفيذ اتفاق القاهرة، واعترافها بمنظمة تحرير مبنية على أسس ديمقراطية، فيتخلون لها عن الشعار ويتمسكون بمنظمة مومياء، لا شيء فيها غير بصماتها.

* فكرة المقطع الخامس هي أن الموقعين يعاهدون على بذل الجهود لتجاوز هذه الحالة ” لما يمثله ذلك من مخرج وطني فلسطيني مستقل، في وجه المخاطر والتداعيات التي تتعرض لها المنطقة والإقليم”.

يوحي هذا الكلام أن الانقسام سيترك طرفيه في مهب الخضوع لإملاءات القوى الإقليمية. وهي تهمة توجهها هذه القوى عادة إلى قوى المقاومة أكثر مما توجهها إلى السلطة. لكن هذه القوى بالذات، خاصة الديمقراطية، تتحدث عن شرعية عربية، خاصة بعد قرار قمة بيروت سيّئ الذكر، فهل الالتزام بما تقرره السلطات العربية التابعة يعبر عن قرار أو مخرج مستقل؟! إن هذه القوى تسبغ على القرارات العربية صفة الشرعية من أجل الاستقواء بها في فرض برامجها، ولا يستبعد أن تبادر هي إلى طلب مثل هذه القرارات من السلطات التابعة كي تتسلح بها. القرار المستقل هو ما تقرره منظمة تحرير ديمقراطية، تقول لتلك السلطات : هذا هو برنامجنا، فمن يريد أن يدعمنا على أساسه فشكراً له، ومن لا يريد فشكراً له على صمته وحياده في الصراع بيننا وبين عدونا.

إن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، هي كأي حزب في الكيان الاستيطاني، لا تقر للمشردين بحقوقهم. وهذه الحقوق هي جوهر القضية، وكل حل لا يستجيب لهذه الحقوق لا يستحق التضحية. ليس هذا فقط، بل هو حل رجعي ضار بالعرب وباليهود على حد سواء. وعلى كل حال، هي تنظيم إسرائيلي مفتوح للعرب وللمستوطنين. لذا لم أفهم مغزى دعوته إلى التوقيع على بيان تحت عنوان “فلتتكاتف كل الجهود من أجل وحدة شعبنا”. هذه الدعوة كانت مفهومة لو أنها وجهت إلى حزب كالتجمع الوطني الديمقراطي، هو حزب عربي محض، يدعو إلى التمسك بحقوق المشردين ولا يقر بالولاء لدولة الاستيطان. هذا الأمر يفتح باب التأويل لعبارة “المخاطر والتداعيات التي تتعرض لها المنطقة والإقليم” على مصراعيه بمقدار ما يساعد على فهم عبارة “كما كفلته له الشرعية الدولية”.

خلاصة : شعار حق العودة للمشردين يعيد توحيد الشعب الفلسطيني بعد أن مزقه شعار “الدولة والعودة وتقرير المصير”. شعار العودة، واحداً وحيداً، غير قابل للشراكة، يتضمن كل مكونات الشعار الآخر، لا يضع مكونات الشعب الفلسطيني في تناقض مصالح، وينهي كل الصراعات الحالية التي كان المدخل إليها هو السعي إلى دولة. الأمر الآخر الذي يوحد الشعب الفلسطيني هو إعادة بناء منظمة التحرير على أسس صحيحة، وتفعيلها بعد أن تصوغ وثائقها بما يعكس أوزان القوى المنضوية فيها؛ لحماس 77 نائباً في المجلس التشريعي وللديمقراطية أقل من نائب، وللشعبية ثلاثة نواب، وهذا يجب أن ينعكس في الوثائق.

حق العودة وإعادة بناء منظمة التحرير خير طريقين إلى الوحدة الوطنية، وكل من يجافيهما سيجد نفسه في أحضان القوى الاستعمارية، عاجلاً أو آجلاً، وعلى الأرجح عاجلاً.

( 1 ) ـ لم تتأخر السلطة المصرية التابعة كثيراً عن هذا البيان في تأكيد شراكتها بعد وقف العدوان العسكري؛ فهي لم تكتف بإغلاق معبر رفح في وجه الصحفيين والوفود النيابية والطبية، بل منعت أيضا وفدا من منظمة العفو الدولية ووفدا من اللجنة الدولية للمحامين التي تلاحق مجرمي الحرب الإسرائيليين. وهم محامون نرويجيون وفرنسيون كانوا في طريقهم لجمع الأدلة على جرائم الحرب التي شنها الكيان على غزة، لتقديمها للمحكمة الجنائية الدولية قبل الثامن من شباط القادم. كما رفضت دخول وفد من أساتذة الجامعات المصريين المتخصصين في إعادة الإعمار وتخطيط المدن( عــ48ـرب ، 04/02/2009 ). لا يمكن فهم منع الصحفيين ووفد منظمة العفو الدولية ووفد اللجنة الدولية للمحامين إلا أنه حماية للكيان. هذا طبيعي ممن أغلق المعبر أثناء العدوان العسكري. ومن المنطقي أن نعتبر السيد الرئيس محمود عباس شريكاً في هذا، لما ينطوي وصفه لسفن كسر الحصار بالسخيفة من حقد على الناشطين في هذا المجال. هذا حقد لا يصدر إلا عن عدو، لذا من المؤسف أن تسعى هذه القوى إلى توفير الغطاء لهما بدلاً من فضحهما. بناء على هذا بنيت رأيي بالأرجحية التي تحدثت عنها في السطر الأخير. هذا رهان.