ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة

مُنال زيدان

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1801)

لم يكن صعباً استثمار حجم غزارة الدم والدمار في غزة, لو كنا نملك صوتاً وطنياً هدفه المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، بعيداً عن الأنانية والتعصب التنظيمي، صوت يصغي للشارع الذي يئن بين مطرقة الاحتلال وسندان انقسام الفصائل على مختلف مشاربها، فمنذ ما قبل عام 67 والبندقية الفلسطينية إما تتراجع وإما تراوح مكانها، والثابت الوحيد المتجدد نحو العربدة والبطش والقتل من الاحتلال الإسرائيلي، الذي احتل وسيطر على كل الأرض الفلسطينية وأجزاء من الأراضي العربية وشرد وقتل ودمر وغيّر ملامح فلسطين ومعالمها، ولم يترك جهداً لطمس وتصفية الهوية الفلسطينية. ورغم التضحيات الجسام المتمثلة بتساقط الشهداء والجرحى والمعتقلين اليومي على مذبح الحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني، إلا أننا عجزنا عن بلوغ الهدف المتمثل بكنس الاحتلال عن أرضنا، ومع عجزنا هذا أفرطنا في الرهان على الغير بما يسمى البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، والموقف الدولي الرافض للاحتلال ولم ننتبه لأن البعض استغرقه النوم في حضن البُعدين العربي والدولي، وعند الصحوة كان الاحتلال يفتح سفارات ومكاتب تجارية واتفاقيات سلام وتطبيع مع الدول التي راهنّا عليها للدفاع عن فلسطين وعروبتها.

ودفعنا الثمن تلو الثمن لأننا لم نصغي لعجوز أكل عليه الدهر وشرب وأنهكه العمر حين قال لولده: يا بني انهض قم احمل محراثك واحرث أرضك ولا تنتظر الطير والغير أن يحرثها، لا يحرث الأرض إلا عجولها لم نصغي ولم نصوّب البصر كل البصر نحو فلسطين. لو أننا أصغينا واتعظنا من هذا العجوز لكان بالإمكان أن نحافظ ولو على حفنة تراب، لكننا ذهبنا إلى حيث يمهل ولا يهمل عندما ارتمينا ووضعنا القرار الفلسطيني في أيدٍ عربية تتأرجح بين التبعية للمشروع الأمريكي الإسرائيلي وبين العبودية والاستسلام للغرب، وللأسف لم نستطع تمييز الخيط الأسود من الأبيض في الذاكرة الفلسطينية والعربية والدولية، حتى أصبح كل شيء رمادي، والكل يصب جام غضبه على هذا الشعب المحاصر والمقبل خلف القتل والجوع، ومن خلفه فصائل تبحث عن ذاتها وأجندتها على حساب المشروع الوطني.

بين أيدينا الكثير لندير حواراً ونلتحم بوحدة الوطن ووحدة الهدف، وننبذ الفئوية والتعصب، إذا توحدنا خلف حجم الدماء التي نزفت من أجل الحرية، حتى وإن اختلفت البرامج والأيدلوجيات خلف الهدف، والعمل على بناء جبهة عربية تمثل المقاومة وتدعم صمودها وتتشابك معنا في الهدف. ولسنا بحاجة للتحليل والبحث إذا أخذنا بالاعتبار الوضع العربي الذي ارتمى في حضن المشروع الأمريكي الإسرائيلي، والوضع العربي الذي ارتمى بحضن المقاومة، وهنا نستحضر سوريا الشقيقة التي تُحاصَر وتُعزل ثمناً لرفضها الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، مع موقفها الداعم لكل مقاومة تدافع عن الأرض العربية وتقاوم الاحتلال، ويذكر التاريخ حرب 73 بين سوريا ومصر من جهة والإسرائيليين من جهة أخرى، وما نتج عنها من تحرير قناة السويس وتدمير خط بارليف، ولولا الانسحاب المصري المبكر من الحرب لربما تعرض الجيش الإسرائيلي لهزيمة مادية وبشرية غيرت الخارطة السياسية والجغرافية في المنطقة، وقد كان واضحاً ذلك من خلال صراخ “غولدا مئير” خلال الحرب، قائلة (أنقذوا إسرائيل)، ولكن رغم الانسحاب المصري من المعركة، استمر الجيش السوري في خوض الحرب لمدة 82 يوماً سميت بحرب الاستنزاف، انتهت بتحرير مدينة القنيطرة وأجزاء من الأراضي السورية التي احتلتها إسرائيل. وكان بإمكان سوريا أن توقّع اتفاقية سلام مع الإسرائيليين على غرار كامب ديفيد المصرية عام 78 ولكنها لم تهادن على حساب أرضها والأراضي العربية المحتلة، ورفضت العدوان والاحتلال الأمريكي للعراق، ودعمت المقاومة العراقية، ودعمت وشكّلت غطاءً للمقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى اندحر، ودفعت ثمن قتل رفيق الحريري بنفس الرصاص الذي اغتاله ليغتالوا التواجد السوري في لبنان، ومن ثم تمزيقه وتقسيمه وجره للعودة للحرب الأهلية عام 75، والانشغال عن الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني والجولان السوري، يتوجب علينا أن نبني تحالفات عربية تنطلق أولها من سوريا مروراً بكل مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي للأراضي العربية، مستفيدين من تجربة حزب الله والدعم السوري له، نحتذي بشخص قائد المقاومة السيد حسن نصر الله، والمقاتل العنيد، مبدئي لا يهادن على وطنه وفكره، مؤمن واثق بنفسه وحقه وحق الشعوب العربية العيش بحرية وكرامة، والتحرر من التبعية والعبودية لأمريكا والغرب، وليس من الضرر أن نستفيد من الشعب الإيراني وقيادته التي تدعم نضالنا ضد الاحتلال وسط العداء الأمريكي والإسرائيلي لها وفرض عقوبات اقتصادية عليها ورغم ذلك لم يتغير خطابها الداعم للقضية الفلسطينية ولم تنشغل بهذه العقوبات والمهاترات بل استطعت بناء دولة إسلامية حديثة قوية لها مكان وسط العلم وليس على الهامش، وتجلى ذلك من خلال بناء مفاعل نووي وازدهار الصناعة العسكرية بعقول وأيدي إيرانية كان آخرها صنع قمر صناعي وإطلاقه بإمكانيات إيرانية بحتة، أما العرب فقد انشغلوا في الحفاظ على الحكم والكرسي، وبدل أن نتعلم ونهتدي من إيران حاول البعض اللعب على وتر الطائفية لتشتيت انتباهنا عن العجز العربي في كافة المجالات أهمها العجز السياسي والاقتصادي، وتبعية هذه الدول خلف مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتغيير بوصلة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، ونقلها للشارع العربي والإسلامي تحت مسمى الثقافة الطائفية، كما يحدث في العراق ولبنان، والعداء لإيران، ولا نعلم لماذا هذا العناق حول التبعية والعبودية للمشروع الأمريكي والإسرائيلي من بعض الدول العربية، التي جرّت شعوبها إلى الفقر والبطالة والتأخر والفساد وقيدت حركتهم وحريتهم وشغلتهم بلقمة العيش، حتى أصبحنا نسمى بالعالم الثالث نتيجة التبعية واللهث وراء أمريكا ومن والاها، ونستهجن لماذا هذا الإنعتاق عن مشروع المقاومة الذي يتعمق في الشارع العربي والإسلامي ويحقق مكاسب سياسية واقتصادية، ويتصدى للمؤامرات التي تحاك ضد الأمة العربية والإسلامية، وأين المشكلة بأن تكون سوريا وإيران وحزب الله والمقاومة العراقية وغيرها بوصلة نهتدي منها طريق الكرامة والعزة والتقدم والبناء، ونحن نعلم جيداً أن هذه الطريق مليئة بالدم والتضحيات والبعض يستصعبها من أجل ذلك لكنها الطريق الوحيد من أجل حريتنا ومن أجل العيش بكرامة وسلام لنا وللأجيال القادمة.

وحتى لا يستغرقنا الوقت ونحن في نشوة الانقسام العربي والفلسطيني، الذي يأخذنا إلى غفوة تكون الاستفاقة منها فوق جثث الأطفال والنساء والشيوخ وتصفية القضية الفلسطينية والقضايا العربية، يتوجب على الجميع الإنشداد نحو الحوار والوحدة وتضميد الجراح، واحتواء هموم الشعب وبؤسه، وتحمل مسؤولياتهم تجاه القضية والدماء التي نزفت وتنزف على مذبح الحرية والاستقلال، ونبذ العنصرية والفئوية، حتى لا نغرق في الرصاص المصهور وثقافة الاستسلام والتبعية والطائفية، ولنحتكم لثقافة المقاومة المبنية على الحرية والكرامة والتضامن وثقافة “ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.

monalzaidan@yahoo.com