عن القضية الكردية :سأتحدث على سجيتي

نصر شمالي- دمشق

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1806 )

– نشرت هذه المقالة مجلة “كورد نامه” في تموز/يوليو1996، حيث كرّمتني إدارتها بأن طلبت أن أخصّها بها، وقد رأيت أن أعيد نشرها اليوم بمناسبة رحيل الأخ العزيز المرحوم نذير مصطفى الذي لم أقابله منذ سنوات، والذي أثار رحيله أشجاني وذكرياتي، بصدده كصديق وبصدد القضية الكردية التي كان نذير من بين نشطائها البارزين. ولا يفوتني هنا التوجّه بأحرّ العزاء لأسرته وأهله ورفاقه الذين أكنّ لهم جميعاً المودّة والاحترام.

حيال القضايا الإنسانية المعقدة، التاريخية الخطيرة، التي يصعب تبسيطها وتلخيصها، والوصول إلى حكم مختصر محدّد بشأنها، تعوّدت أن ألجأ إلى قلبي عندما يخذلني عقلي وترهقني مماحكاته!ها أنا أعترف منذ البداية أن ذهني يخذلني في معالجة القضية الكردية وأن مماحكاته ترهقني أشدّ الإرهاق، ولذلك، سوف أستنجد، كعادتي، بقلبي. إن القلب يستطيع، أحياناً، التقاط الصواب بسرعة تفوق سرعة العقل.

في استعراضي لحياتي الشخصية والعامة، لا أذكر مرحلة من مراحلها خلت من الأكراد، منذ الطفولة وحتى الكهولة. كانوا دائماً موجودين. وإنه ذلك الوجود البديهي، الطبيعي، الذي لا يستدعي استفساراً ولا تأويلاً. إنهم جزء لا يتجزأ من النسيج العام التاريخي. تجدهم في النقوش والآثار والكتب، وفي أسماء الشوارع والمدارس. إنهم في الذاكرة الجمعية، وفي اليوميات المعاشة. هم في الحي جيران. بل هم أقرباء منهم الأخوال والأعمام. إنهم في المدرسة، في الأسواق، في جميع الفئات الاجتماعية، وفي جميع المؤسسات الرسمية على اختلاف مستوياتها، وأيضاً في الأفراح والأتراح، وفي المظاهرات، وفي الأحزاب، وفي الثورات، وفي ميادين الجهاد.

ما الذي جرى؟ ما الذي تبدّل؟ هل قامت القيامة؟

كنا في مدينتي حماة، ونحن لا نزال صغاراً، نتعاطف مع المعارضة المناضلة ضد ديكتاتورية الرئيس أديب الشيشكلي، الحموي، وضد أحد رموزها الرئيس فوزي سلو، الحموي أيضاً! كنا نعرف أن فوزي سلو كردي، لكننا لم نعارضه لأنه كردي، مثلما أننا لم نؤيده لأنه حموي.

كيف وصل حالنا إلى ما نحن عليه اليوم؟ هل جنّ العالم؟

أسارع إلى تطمين بعض الأخوة الأكراد أنني لن أتحدث عن صلاح الدين الأيوبي. أنا أعرف أن هذا البعض لم يعد يحب صلاح الدين ولا ذكره! حتى أنني لن أتحدث عن إبراهيم هنانو، فلعله بدوره لم يعد محبوباً، وأيضاً حتى لا تنزعج مدام ميتران!

كان الأكراد موجودين دائماً في حياتي، بعضهم يتقدمني وبعضهم يتخلف عني، مثلهم مثلي ومثل الجميع. وما الفرق؟ ومن كان يخطر بباله أيّ فرق؟ وعندما أوكلت إلي ّبعض المهام الرسمية المتقدمة، في الستينات، كان دائماً معي، حتى في حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كنت أعمل في صفوفه، أكراد متميزون وغير متميزين، مثلهم مثل الجميع. طبعاً هم لم يكونوا يتحدثون أو يتصرفون كأكراد وإن كانوا من أصول كردية. ذلك لم يكن يخطر ببالهم ولا ببالنا. كنا متساوين متكافئين بداهة، بلا اتفاقات ولا قرارات، وبلا تفكير بالأمر أصلاً. ولكن، كان يحدث أحياناً أن يشار إلى أصولهم الكردية في معرض المداعبة المحببة من الجميع، وتعليقاً على تصرف يتسم بالعناد والتشبث!

كم من مرة قال لي أحدهم متودّداً، في مدن أخرى غير مدينتي حماة: “أنت حموي وأنا كردي”! مشيراً بذلك إلى القرابة في الطباع الإيجابية والسلبية. أي أنّ صفة “كردي” لم تكن تختلف في مدلولها عن صفة “حموي”، أو “حلبي” أو ما إلى ذلك.

وعندما جمعني السجن لسنوات طويلة بعدد منهم (منهم الأخ العزيز الراحل نذير مصطفى/ ملاحظة مضافة الآن) بعضهم قادة كبار في حزبهم، من النسق الأول، تم اعتقالهم بسبب القضية الكردية، وجدت نفسي لا أختلف معهم على شيء، ولا أختلف عنهم بشيء: الذكريات مشتركة، والعادات مشتركة، والأسماء مشتركة. كنا نسيجاً واحداً حقاً. لكنّ الوضع كان يغدو غريباً، وجديداً كل الجدة، حين يبدأ الحديث عن القضية الكردية! كنت أشعر بصدقهم وألمس جديتهم، لكني كنت أشعر أيضاً أن ثمة ما هو مفتعل، وقسري، ودخيل! كنت أحس أنني أستبعد فجأة تعنّتاً وظلماً عن المشاكل التي يطرحونها، والتي يراد إقناعي عبر أسلوب صياغتها أن لا علاقة لي بها! لكني كنت على يقين أنهم لا يتعمدون ذلك.

أي شيطان دخل بيننا نحن العرب والأكراد؟ فيما بعد، أدركت أن ذلك الشيطان لم يدخل بين العرب والأكراد فحسب، وإنما هو دخل بين العرب والعرب، وبين الأكراد والأكراد، وأقنعهم جميعاً أن الطريق لخلاصهم يتطلب افتراقهم، ويا للعجب!

أول مرة وجدتني فيها أمام القضية الكردية وجهاً لوجه كانت في الستينات، يوم اندلعت العمليات العسكرية على نطاق واسع في شمال العراق. كانت تلك كارثة أخرى، وخندق آ خر من خنادق الافتراق القسري. وهنا أيضاً لن أتحدث عن القادة العراقيين، الأكراد، البارزين، الذين احتلوا مواقع رئيسية في كفاح شعبنا العراقي ضد الاستعمار البريطاني. إنه لأمر محزن حقا.ً ولكن من يدري عدد الذين يزعجهم تبجّحي في الحديث عن بطولات قادتنا الأكراد في هذا الميدان؟ لقد تجاوزت الأحداث كثيراً، على ما يبدو، مثل هذه الوقائع والأخبار!

ما الذي حدث؟ ما الذي لا يزال يحدث؟

إن شعوري وأنا أكتب هذه الكلمات من القلب هو- وا أسفاه- شعور أسرة يصرّ أحد أبنائها على هجرها. هي لا تدري ما الذي يمكنها أن تفعله، وهو يتصرف كأنما هو يدري بما يفعله دون أن ينجح في إخفاء عدم يقينه! إن هذا الشعور “الأسروي” يصيبني بارتباك عظيم، معذّب، فيدفعني للاعتماد على أحاسيس قلبي قبل محاكمات عقلي.

تخيلوا أسرة معذبة، منكوبة، منهوبة، مذلة ومهانة بكاملها، تعاني من أمراضها الداخلية، ويتناهش لحمها الأشرار المتوحشون، فيقف أحد أفرادها ويعلن أنه سوف يهجرها لأنها سبب شقائه، بينما هي في أمس الحاجة إليه كي لا تهان وتذل وتضعف أكثر!

هل هذا الكلام (العاطفي) ينطبق على الأكراد وحدهم؟ هل هو ينطبق على الأكراد في البلاد العربية فقط؟ كلا. أنا أعني به أيضاً غير الأكراد من أبناء الأسرة، وأعني به الأكراد في إيران وفي تركيا وفي غيرهما. إن الأسرة التي في خاطري لا يقل تعدادها عن مليار إنسان. إنها دار الإسلام التي نهض العصر الأوروبي الأميركي الظالم على أنقاضها منذ خمسمائة عام، وإنها الأسرة التي جعلت العالم، على مدى أكثر من ثمانية قرون، يعيش إجمالاً حقباً رائعة من اللامركزية، واللاإمبراطورية، أي اللاإمبريالية. إنها الحقب التي لم يعرف العالم أجمع مثلها، لا من قبلها ولا من بعدها. إياكم أن تعايروا وتقارنوا وتحكموا بمعايير ومقارنات وأحكام هذا العصر العبودي الوثني! إياكم والحديث، في جملة واحدة، عن إسلام “تغلغل” أنما خلسة، وللحظة خاطفة! إياكم، فأنتم بفعل كهذا تستحقون لعنات آبائكم وأمهاتكم، وتظلمون أنفسكم، سواء أكنتم مسلمين أم غير مسلمين، أم ملحدين!

يا للعار! كيف نتحدث بجمل كثيرة عن سفينة نوح، وعن عهود موغلة في القدم، لم يعد لتقاليدها وعاداتها وثقافاتها أيّ أثر عمليّ في الحياة المعاشة الراهنة، ونتجاهل عهوداً لا تزال عاداتها وتقاليدها وثقافاتها تشكل نسيج حياة أهلنا؟ كيف يجرؤ على ارتكاب مثل هذا الإثم الفظيع عربي أو كردي أو إيراني؟ هل هو الجهل، أم هو سوء النية؟ ولصالح من نفعل ذلك؟

على مدى خمسة قرون، مزقتنا المركزية الأوروبية الأميركية شرّ تمزيق. وهي تجهد الآن لتبديدنا وتحويلنا إلى ذرّات، إلى هباء، إلى سديم. حلم الوحدة العربية؟ بعض العرب أداروا له ظهورهم بعجره وبجره، بصوابه وخطئه! إنه حلم إنساني مشروع، وهو لا يمكن أن يخصّ ويهمّ العرب وحدهم. هو لا يمكن أن ينجح، أو يتحقّق، إلا بعد تخليصه من الشوائب العرقية العربية. إنه مشروع يخص الأسرة التاريخية ويخدمها كلها. لكن بعض العرب التعساء يريدون الاكتفاء بالجزيء، بجزء الجزء، وأن يستقلّ كل بجحره وبعلاقات مباشرة مع المركز الأوروبي الأميركي الصهيوني! غير أن هذا مستحيل. إنهم لن يتمكنوا من الاستقلال حتى في الجزيء.

والحال أن الوحدة العربية، مثلاً، ليست ضرورية أكثر من ذي قبل فحسب، إنما هي، بعد ما تكشّف من مستجدّات دولية، لم تعد كافية! إن الخلاص الإنساني يحتاج إلى تكتّلات، إن لم نقل وحدات، أكبر وأعظم، والأكراد والعرب من الأمم المتآخية في ظلال التوحيد الإسلامي منذ قرون طويلة جداً. إنه التآخي الذي ما زالت مكوّناته راسخة في الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات. وإنه التآخي الذي قام على أساس الوظائف الإنسانية الإيجابية السامية، وبلغ مستوى الوحدة التي لا تنفي خصائص ومزايا الأعراق والقوميات، بل تؤكدها وتحترمها بمنطق سماوي غاية في العذوبة والشفافية والرقي. إنه التآخي الذي يؤكّد ويلحّ على ضرورة وأهمية التنوّع وإيجابيته، بدءاً بأصغر الخلايا الحية التي لا ترى بالعين المجردة وحتى أعظم الكائنات! إنه منطق التآخي الذي يحرّم توظيف التنوّع، الذي هو إيجابي بطبيعته الأصلية الأولى، توظيفاً سلبياً يتنافى مع طبيعته الأولى! إنه المنطق الذي حسم مسائل غاية في التعقيد حين نص على أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى!

قد يختلف الأكراد مع العرب، وقد يختلف الأكراد مع الأكراد، والعرب مع العرب. إن هذا حدث، ويحدث، وسوف يظل يحدث. لكن الاختلاف في ظل عقيدة إيجابية ووظائف إنسانية غير مختلف عليها شيء، والاختلاف على العقيدة والوظائف ذاتها، من أساسها، شيء آخر. إن الأمم المتآخية بالعقيدة، وبالوظائف والإنجازات التاريخية الإنسانية الإيجابية، يجب أن تكون متفقة اليوم تماماً في موقفها الأساسي من النظام الاحتكاري الصهيوني العالمي الذي تقوده واشنطن. إن تاريخها الجليل المشترك، وإنسانيتها، يفقدان كل معنى إن هي لم تتفق تماماً ضد هذا النظام الصهيوني العالمي. لا بد من الوقوف المشترك بحزم وبوضوح ضد الطغاة الأشرار الصهاينة، وضد رموزهم ووكلائهم من جميع الجنسيات وفي جميع مناطق العالم. إنّ مثل هذا الوقوف هو الأساس لوحدة تلقائية، جذرية ولا مركزية، وإنّ نقيضه هو الأساس لخلاف جذري بين العرب والعرب، وبين الأكراد والأكراد. إنه الموقف الذي يميّز الفارق الحاسم بين الحق والباطل وبين العدل والظلم. وهل يعقل أن هناك عربياً عاقلاً يعتبر إيران، مثلاً، خطراً على العرب مثلها مثل الولايات المتحدة؟ هل يعقل أن هناك كردياً يعتبر العرب خطراً عليه مثلهم مثل الأميركيين والصهاينة؟ لكن مثل هذه الأخطاء الفاحشة، الفادحة، شائعة على نطاق واسع ويا للأسف، وهي من أمضى أسلحة النظام الاحتكاري العالمي في الحفاظ على هيمنته السائدة منذ خمسة قرون تقريباً، والتي يمكن أن تدوم آجالاً ما دامت شائعة مثل هذه المفاهيم الخاطئة التي نجمت وتنجم عن عدم رؤية مشروع العدو الاحتكاري الصهيوني العالمي على حقيقته، بحجمه الطبيعي، وبتفاصيله الرئيسية على الأقل.

إن التجزئة، أو التفتيت، الذي يتحقق أحياناً بصورة أبشع في ظل توحيد وهمي ظاهري، هذا التفتيت للكتل الإنسانية هو منهج تاريخي اعتمدته إدارات العصر الأوروبي الأميركي دائماً. هل يرضى الأكراد بأن تذهب تضحياتهم العظيمة من أجل دولة قطرية، على غرار بعض الأقطار العربية التي هي مجرّد مناطق مدارة، لكل منها حكمها الذاتي؟

اللامركزية، واللااحتكار، واللاامبراطورية، هي الشروط لتوحيد حقيقي قوامه القناعة والتكامل وليس القسر والإملاء والإرغام. في العصر الإسلامي المديد كان الإنسان، مطلق إنسان، ينطلق من طنجة إلى الشيشان بجواز سفر يتلخص في جملة عذبة، رائعة، هي “السلام عليكم”! وكان ذلك كافياً لتفتح له الأبواب على مصاريعها، وليكون معزّزاً مكرّماً، ومسؤولاً أيضاً فيما لو رغب في تحمل مسؤولية عامة ما!

من يريد “استقلالاً” على طريقة العصر الأوروبي الأميركي، يعطيه “شرف” إدارة منطقة، بحكم ذاتي، في خدمة المركزية العالمية الصهيونية؟

أنا أعي أنّ ما أقوله قد يبدو غريباً، ويدعو إلى ابتسام البعض من “الواقعيين” الذين يتعاملون بمفردات وتحليلات وقوانين هذا العصر الظالم. أنا أعرف أنّ هناك من بذلوا جهوداً مضنية وقطعوا شوطاً طويلاً في إعداد الوثائق الثبوتية التي تعطيهم الحق في منطقة مدارة بحكم ذاتي! ويا لها من جهود ثمينة، عظيمة، ضائعة، تسفحها أجيال وأجيال وأجيال، وخاصة بعد أن شاهدنا بأم أعيننا تقلبات الأوضاع الدولية في السنوات القليلة الماضية.

الأكراد في بعض المناطق يعانون مرً المعاناة ويتعذبون أشد العذاب، وإن هذا ليعذّبنا نحن المعذبّين بدورنا بطرق أخرى وبنسب أخرى أقل أو أكثر.

كيف يطيق عربي سويّ رؤية أمهاته وأخواته وبناته من الأكراد (خديجة وفاطمة وعائشة) على شاشات التلفزيون، هائمات على وجوههن في البراري، في ظروف الحروب الرهيبة التي تجتاح بلاد الأكراد؟ وما هي أحاسيس الكردي وهو يتابع صور أمهاته وأخواته وبناته العربيات في لبنان وفلسطين، وفي غيرهما؟

ماذا نفعل؟ أن ينجو العربي بنفسه، وينجو الكردي بنفسه؟ لكنّ هذا مستحيل! إن أيّاً منهما لن ينجح في تحقيق خلاصه الخاص، لأنه، ومنذ وقت طويل، لم يعد ثمّة خلاص خاص في نطاق العلاقات الظالمة لهذا العصر الأوروبي الأميركي. إنّ الذين يتوهّمون إمكانية ذلك، ويعملون على أساسها، يسهّلون مهمّة المركزية الظالمة، ويلحقون أفدح الأضرار بأهلهم.

لماذا نضيّق الدوائر على أنفسنا؟ لماذا نعزل أنفسنا مسبقاً، ونحدّد حجم فعالياتنا بأيدينا مسبقاًً؟ لماذا نسهّل جميعنا مهمّة الاحتكاريين الأشرار؟ إنّ واشنطن تسعى منذ سنوات طويلة إلى إقامة “نظام شرق أوسطي” يشمل الأسرة العريقة، المعذّبة، المذلّة والمهانة، بجميع أطرافها، وبمئات ملايينها التي تقارب المليار نسمة. إن ما يسمى “الشرق الأوسط الجديد” ليس سوى الشكل الأحدث والأفظع للاستعمار. إنه الشكل الذي يريد أن يجعل من هذه المنطقة العالمية الأم، بعربها وأكرادها..الخ، ما يشبه ولاية أميركية عليها جميع الواجبات وليست لها أية حقوق! ولاية من العبيد، من السديم، فلا عرب ولا أكراد ولا إسلام ولا مسيحية، إنما مجرّد هوام وغبار! إنّ واشنطن تسعى إلى بناء “شرق أوسط” تملكه، فكيف لا نرى ذلك، وكيف لا نفكر بداهة ببناء “شرق أوسط” نملكه نحن أصحابه، نحن الأسرة المبددة، التعيسة؟

هذا النظام العالمي، هذا العصر الأوروبي الأميركي، بلغ موضوعياً نهاياته. انظروا حولكم، ودقّقوا في العمق، وفي المظاهر أيضاً. إنّ البشرية تجتاز المسافة القاحلة، القاسية أشد القسوة، التي تفصل عادة بين عصرين تاريخيين. إنّ العالم يسير حثيثاً، وإن بصعوبة بالغة، نحو عصر جديد، وإنّ خلاصنا وخلاص الإنسان عموماً هو في استكمال الانتقال. يجب أن نعمل كل ما من شأنه تسريع الانتقال التاريخي. إن أسرتنا العريقة، بجميع أطرافها، مدعوة لصياغة مشروع حضاري عالمي بديل يستجيب لمصالح الإنسان عموماً. إنّ أسرتنا مؤهلة أكثر من غيرها للإسهام في هكذا مشروع. ولذلك، فإنّ الأكراد بحاجة مصيرية إلى العرب، والعرب بحاجة مصيرية إلى الأكراد. وماذا يتبقّى من كليهما إذا أسقط التاريخ المشترك والمستقبل المشترك؟ إن عوامل الافتراق واهية، وعابرة، ومفتعلة، وقليلة، أما عوامل اللقاء فإنها متينة، وراسخة، وجدّية، وكثيرة.

إنه حديث القلب، لكنّ العقل لا بدّ وأن يتفق معه. غير أن هذا يحتاج إلى موضوع آخر يتناول التاريخ، وأوضاع العالم المعاصر، من منظور مختلف ومخالف للمنظور المفروض من قبل المركزية الأوروبية الأميركية، والسائد دولياً بقوّتها ولصالحها.

* نصر شمالي كاتب سياسي سوري، وقد خصّ “كورد نامه” بهذه المقالة التي لم يسبق نشرها.