كرنفال فلسطيني!

عبداللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1820)

كان حقاً مشهداً فلسطينياً بامتياز، عكس تماماً واقع الحال الفلسطينية السياسية، وخبّر عن راهنها المعروف الذي تعيشه تجاذبات ساحتها الوطنية، سلباً وإيجاباً، هبوطاً وصعوداً، شرذمة وانحداراً، عناداً ومهادنةً، مقاومة ومساومةً… وأخيراً، لقد كانت إطلالة مبهرة لخصوصية تحفل بمظاهر ليست غريبة على هذه الساحة الأكثر تعقيداً مما يتصوره متابع مدقق، وحتى مما تدركه أطرافها… خصوصية تحفل بمزيج من الأحلام والتكاذب، التكيّف الأقرب إلى التقية و الكمون… اللعب في الوقت الضائع والانتظار للآتي…

… وكان حقاً حدثاً يعكس بامتياز، من حيث السيناريو والإخراج وحتى المراد من المؤثرات السمعية والبصرية، واقع الحال العربية، وهي الغنية عن الوصف، في مجمل راهنها المنعكسة تفاصيله الأم على سائر تفاصيل سليلتها الفلسطينية… واستطراداً، كان فيه ما يعكس أيضاً تأثيراً ليس خفياً ناجماً عن موازين الواقع الدولي “الإسرائيلي” بامتياز، ويشي بأنواع من استجابات متفاوتة لاملاءاته!

ولهذا، كان المؤتمر الصحفي الذي انعقد إثر اختتام ما دعي ب “ساعات المصالحة” الفاسطينية، أو هذا اللقاء البروتوكولي المؤذن ببدء ما يعرف بحوار القاهرة، هذا الذي حددت أجندته وآليته وجدوله الزمني والمشاركين فيه، واستبعدت من استبعد منهم، ما عرفت بالمبادرة المصرية التي تنحاز لطرف ولا يملك الآخر إلا مجاراتها.

كان كرنفالاً فلسطينياً حقيقياً، صمم عروضه ورعاها صاحب المبادرة، وكان هناك شيء من إجماع عربي وإقليمي ودولي على مباركة المشهد المنشود برسم مؤتمرين قادمين و توطئة تهييء لاستحقاقات انعقادهما… شرم الشيخ للمانحين الذي هو على الأبواب، أو باحثي إعادة إعمار غزة ما بعد المحرقة الإسرائيلية، والقمة العربية المقتربة في الدوحة… أما المستبعدون منه فهم الفلسطينيون المعارضون المشاكسون الذين لا تنسجم مواقفهم المبدئية، وولعهم بما يعرف بالثوابت أو منطلقات الثورة الفلسطينية المعاصرة، مع مواقف وسياسات طرفين أساسيين في المشهد التصالحي، ونعني، أولاً الداعي والراعي الذي ينوب واقعاً عن ما قلنا أنه الإجماع الإقليمي الدولي، وثانياً طرف التصالح المقابل أي فريق رام الله، وساعد على هذا الاستبعاد عدم تمسك الطرف الثاني أو فريق غزة بالمفترض أنهم حلفاؤه، أو خلعه لاصحابه مكرهاً أو غير متمسكاً بهم عند الضرورة… من هم هؤلاء؟

إنهم ما عكست مواقفهم بيانات تجاهلها الإعلام بقدرة قادر، حيث لا أحد يريد مزعجين للبهجة الكرنفالية المطلوبة… بيان لجنة المتابعة العليا للمؤتمر الوطني الفلسطيني الذي عقدته في دمشق ما قبل عام منظمات وهيئات وشخصيات وفعاليات وطنية فلسطينية جاءت من كل حدب وصوب وطناً ومناف… ونكتفي هنا بذكر الفصائل التي عبرت، بالإضافة لمشاركتها في توقيع بيان لجنة المتابعة، في بيان مشترك عن موقفها مما يدور في القاهرة، وهي حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح الانتفاضة، وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وجبهة التحرير الفلسطينية، والحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري…

قد يقول قائل، قد لا تكون لهؤلاء المشاكسين قدرة وأوزان التعطيل على الأرض، فانتفت بالتالي ضرورة دعوتهم لتجنبه، ولكن من السهل على متسائل أن يرد عليه: ترى وما هي ضرورة استقدام فصائل ديكورية لا تمثل أو لا توجد منها كبقية على أرض الواقع، إلا عناوينها وشخوص قادتها و مسميات مناصبهم وحقائبهم الأوسلوية، أو هؤلاء الآتين من رام الله مثلاً، واستبعاد هؤلاء الوطنيين المعارضين الحاملين أثقال ضرائب مواقفهم، الساحبين من خلفهم تاريخهم النضالي الحافل!

ثم أوليس، هذا الحوار، كما يفترض، وطنياً شاملاً كما يكنى و يستهدف المصالحة الوطنية كما هي معلنة كهدف، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، أو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، كإطار ومنجز تاريخي حاضن للنضال الوطني ومؤتمن مفترض على القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية كما يتمنى الفلسطينيون ويتوحدون عليه جميعاً؟!

قد يكون من بين هؤلاء من سيرفض المشاركة في هكذا حوار انسجاماً مع مواقفه و لأسبابه المبدئية المعلنة، ولكن أوليس بدونهم أو بدون دعوتهم يغدو الحوار الوطني ناقصاً؟!

* * *

ما علينا، ولنعد إلى المؤتمر الصحفي، الذي أعلن عاقدوه المبالغون في إبداء تفاؤلهم عن تشكيل لجانه الخمس، و”لجنة تسيير” للجان هذه، و”لجنة توجيه عليا” فوق الجميع… أو ما نجم عن هذا اللقاء البروتوكولي شديد التفاؤل.

هنا يمكننا القول أنه كان حواراً، أو مصالحة، أو لقاء، أو سمه ما شئت، فرضته ضغوط واستوجبته ضرورة أملاها واقع أغلبه موضوعي و أقله ذاتي… استجابة لضغوط من بينها الشعبي والعربي والدولي أكثر من كونه والمراد منه أن يكون وطنياً… ولنتفحص، بعد أن كنا قد أشرنا إلى أنه كان مطلباً أوسلوياً، عربياً، أقليمياً، دولياً، مهام اللجان المشكلة، وعندها نتبين أنه كان الأجدى أن يقتصر انعقاده على طرفيه الرئيسين و كفى الله المؤمنين شر القتال، ونعني طرفي سلطة أوسلو في رام الله وغزة، بمعنى الشق الذي يقود التسوية و المعارض لها، أو الطرف المساوم والمقاوم وفق الدارج المعلن، وبوضوح أكثر، شريكي سلطة ما بعد الانتخابات: فتح اللجنة المركزية، وحركة حماس… لماذا؟!!

جردة لمسميات اللجان تبين لنا أن أربع منها هي ثنائية بالدرجة الأولى، تهم السلطة أولاً و أخيراً، أو الصراع عليها، بغض النظر عن النوايا والمنطلقات والفوارق بين طرفيها على أرض الواقع، وواحدة منها فحسب هي فعلاً تجسد هماً وطنياً، وأيضاً قومياً، ويتعدى هذين إسلامياً، وهو حلم إعادة بناء منظمة التحرير الذي لا يختلف عليه اثنان ولو نظرياً، أو الاستعادة للوحدة الوطنية الفلسطينية الغائبة أو المغيّبة بدون إنجاز هذه الإعادة… ولنرى…

لجنة لحكومة “توافق وطني” وفق التقاسمات الأوسلوية المعروفة وتحت سقفها، وعليه، لماذا لا يكون هذا التوافق مقتصر فحسب بين طرفي هذه السلطة، أو هذين الفاعلين الأساس الذين انقسما، أو كان لابد وأن ينقسما نظراً لطبيعة ملعبها و منطقهما السياسي، أو نهجيهما النقيضين، وقوانين الصراع على فسطين التي لا تتبدل ولا ترحم ولا تقبل إلا ثوابتها؟

أي ما ضرورة حضور الآخرين الذين لا ناقة لهم ولا جمل و لا حصة في كعكتها المسمومة، أو هذا الحشد الكرنفالي الذي عكسه مشهد المؤتمر الصحفي، الذي تناوب طرفيه الأساس على الإجابة والتعقيب، وحشر ثالث نفسه بذكاء آخذاً بشطارته دور موزع الأسئلة عنوة على البقية بداعي توخي المساواة، كل له نصيب في إجابة واحدة على سؤال واحد، فكان أن لم تكف الأسئلة الجميع وحرم البعض ميزة حقه في الإجابة… الأمر الذي عكس ثانويتهم أو انتفاء ضرورة وجودهم، سواء كانوا جالسين على المنصة أو وقوفاً خلف الجالسين، وكأنما هم حشد شهود زور جلبوا لمستلزمات عرض…!

لجنة الانتخابات، “بما لا يتجاوز موعدها المحدد” في قانون سلطة أوسلو، وهذه كسابقتها وما ينطبق على الأولى ينطبق على الثانية…

لجنة الأمن، لإعادة بناء الأجهزة الأمنية “على أُسس مهنية غير فصائلية”…. وكأننا هنا أمام مثال سكوتلنديارد، ونتناسى كلياً فرق الأمن مختلفة التسميات والوظائف في الضفة، والمشرفين عليها، والمنسّقة معهم، وكتائب القوة التنفيذية في غزة، وحيث لا يوجد فلسطيني تقريباً لا ينتمي أو يوالي أو يناصر تنظيمياً، والأمنان المذكوران هما احتكار للمنقسمين الرئيسين وسواهما هم واقعاً حواشياً وملحقات.

لجنة المصالحة، والتي يفترض أن المطلوب منها هو مصالحة الخصمين الرئيسين… وترسيخ “ثقافة التسامح والديموقراطية… وتحريم الإقتتال الداخلي”، أو مثل هذا النوع من مهمة الوعظ والإرشاد الذي ينوب عن البرامج الوطنية الجامعة التي لا تستقيم المصالحة بدونها.

تبقى اللجنة الخامسة المعنية بالمنظمة أو “تطوير وتفعيل وإعادة بناء مؤسساتها”… لاحظوا هنا، التوصيف: “تطوير وتفعيل وإعادة بناء مؤسسات”، أي لا ذكر هنا، لا لميثاقها الذي عُبث ببنوده، و لا لاستعادة دورها منظمة تحرير لا بصم وتمرير، بل المراد هنا هو تطوير وتفعيل وبناء مؤسسات بمعنى احقاق المشاركة وتوزيع الحصص، وهنا ما يدعو لإساءة الظن، لكن، ومع ذلك، كل هذا رهن بما هو مهام اللجان السابقة، وحيث التوافق، كما نوه وقيل، هو على سلة توافق واحدة تعني كافة اللجان الخمس… ومن عندنا نضيف، الرضى الإقليمي والدولي، وإذا ما أخذنا في الإعتبار الموقف الإسرائيلي، نجد أن من المضحك المبكي أن المهلة الملزمة المعطاة للوصول إلى هذه السلة العتيدة التي حددها الراعي هي لا تتعدى أزوف موعدي قمة شرم الشيخ وقمة الدوحة وقبلهما!

هنا قد نبدو مغالين في التشاؤم، لكن هل للمغالين في التفاؤل ما قد يقنعنا بمراجعة حالنا هذه؟!

وإذا ما انتهينا من لجان حوار الضرورة، أو مصالحة اللعب في الوقت الضائع، محددة المهلة، وتجاوزنا “لجنة التسيير” أو الكلمة الفصل للفاعلين الرئيسين، وتوقفنا أمام ما دعيت “لجنة التوجيه العليا”… أمناء الفصائل المتحاورة، والراعي و الجامعة، يطرح هذا علينا سؤالاً:

ترى هل هي المرجعية الوطنية المنشودة التي ثار حولها جدل مفتعل لم توقفه إلا مشاهد الكرنفال التصالحي هذا؟!

سؤال يظل برسم الداعي للمرجعية المقاومة ثم لم يلبث وأن سحبها من التداول، ربما بعد استنفاد الغرض من طرحها، وقبله لمن كان قد دعى إلى حكومة مقاومة مرة واحدة ثم سرعان ما نسى الأمر، وقبل سواهما… والأنكى، أننا لم نسمع في المؤتمر الصحفي شيئاً عن التهدئة، التي تصادف أن ذكرها البعض منهم كمشروع، وأكد الوزير أبو الغيط مع ضيفه سولانا على وجوب كونها “تهدئة ثابتة”، في حين أنها على أرض الواقع قد أصبحت قائمة عملياً وفق المطلوب إسرائيلياً، أي لا صواريخ ولا التزامات إسرائيلية بشأن فتح المعابر أو رفع الحصار، و لا مصرية بشأن فتح معبر رفح… ولا عن الاحتلال، والمفاوضات إلخ، ناهيك عن الإعمار، الذي ينتظر سلة اللجان الموعودة وسماح إسرائيل وكرم المانحين الذي تسبقه اشتراطاتهم…

بقي أن نقول هناك انجاز لعل فيه بعض ما يتعارض مع تشاؤمنا، وهو الإعلان المرحب به عن البدء في إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووقف الحملات الإعلامية… هذا جيد، ولكن هل كان كرنفال الحوار القاهري بمستوى المتغيرات التي شقها شلال الدم الغزاوي المضحي والمسفوح… وأين منه ذاك القول الذي كنا قد سمعناه، من أن ما بعد صمود غزة الأسطوري ليس كما كان قبله؟!!

اللهم ارزقنا ولو قليلاً من ما أُشيع كرنفالياً من التفاؤل!!!