غياب خاطف !؟ إلى محمد صلاح

بسام الكعبي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1824)

قل لي بصراحة: هل الصورة المحايدة اليتيمة التي تتأمل بدهشة نص النعي أسفل الصحيفة وتحاول استيعاب نتائجه لي أنا شخصياً؟ لا أذكر خطوطها الرمادية جيداً يا ابن العم، ربما اضطررتُ لأخطفها من وميض الكاميرا وأقدمها مع شهادتي الجامعية في غياب بيانات الخبرات، لعلها تشفع لي بوظيفة معلم لفترة قصيرة جداً في مدارس الفقراء.

أنا لا أحب الصور كثيراً ولا أكترثُ بها، ليتني كنتُ أعلمُ أن الصورة المطبوعة الآن، وقد كشفت غيابي الأبدي، ستحمل ملامحي برقاً لقراء أحبهم لكني لا أعرفهم.. ربما أشغلني الضوء فيها قليلا لإعادة تركيب مساراته من جديد، لعلي أكشف عن نور متواضع جداً يختبئ في داخلي، يكفي لإنارة الأحرف فوق مقاعد طلابي في صفهم الصغير.. لستُ نجماً لتمتص صورتي المترفعة كل الضوء وتستدرج القراء إلى عتبات دهشتهم وتستحوذ بصرهم.

ولكن مهلا، هل قلت فترة قصيرة في جملتي الأخيرة؟ كنتُ أحسُ بشكل غريب أن الطريق إلى صف المدرسة في بلدة دير شرف ستكون أقصر مما تأملت..ربما أقصر كثيراً من خطوتي الصباحية المعتادة بين مخيم بلاطة وعتبة الصف المدرسي..وأعترفُ بعد غيابي الآن أني أحببتُ مهنة التعليم بكل جوارحي، عشقتها من والدي الراحل الذي دفع كل عمره من أجل مهنته الرفيعة ومن أجلنا، نحن أسرته الصغيرة.. لكنه غادر مبكراً قبل فرحه بتعليق شهادات نجاحنا على جدار بيتنا في المخيم.

لا أريد الإزعاج بمزيد من أسئلة الغائبين.. فقط قل لي بنبرة مرتفعة تطلق للفضاء نبأ رحيلي: هل الكلمات النمطية الخاطفة المشبعة بالحبر الأسود التي تطل بصمت من صحيفة يومية باردة وتشعل نار غيابي.. لي أنا؟ تعودتُ على قراءة نصوص متطابقة القامة تدفع دوماً ظهر الراحلين إلى رصيف الصمت ورماد الذاكرة، وكنتُ أظن أن حضور مفرداتها الباهتة أعجز من إعلان غياب الفتوة في إيقاعي.

عقب صلاة الجمعة في العشرين من شباط الماضي، وتحت مطر السماء ودموع الأرض، هبط محمد صلاح المعلم اليافع قبل أن يكمل 24 ربيعاً درجات الجامع في مخيم بلاطة محمولا على أكتاف زملائه الشبان، ودون أن يلتفت لإعلان غيابه المثبت على مدخل المسجد، قطع المسافة الطويلة على أكتاف الأوفياء نحو المقبرة، ثم نهض بقامته الرقيقة من صندوقه الخشبي الأخضر وتمدد صامتاً بردائه الأبيض بجوار سبعة راحلين في المقبرة الجديدة.. عانق التراب وترك للأهل أحزان الغياب. ليت غيابك الخاطف أمهلك يوماً لتتأمل ملصقاً وديعاً يليق بالشهداء، تطل منه عينان متقدتان بالإيمان لتطفئ نار السؤال عن برق الغياب.