نصر شمالي
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1825)
في معرض تعقيب بعض الكتّاب الإسرائيليين على حملة الإبادة ضدّ قطاع غزة جاء في مقالة “راحيلا مزراحي” مايلي: “الصهيونية حركة علمانية في كلّ تفصيل من تفاصيلها، وهي تبنّت خطاب الديمقراطية العلمانية والتقدّم الأوروبي وسيلة لإبادة منهجية للحضارتين العربية والإسلامية، ونفّذت عملية قتل وإبادة “حضارية” تحت مظلة هذا الخطاب، تماماً مثلما دمّر نابليون القاهرة وسلب كنوزها وقتل علماءها تحت مظلة الخطاب نفسه، ومثلما دمّرت دول التحالف الاستعماري العراق بقيادة الولايات المتحدة، فسلبت كنوزه وقتلت وهجّرت الملايين من سكانه، وكذلك فعلت بأفغانستان. وتاريخ “إسرائيل” هو تاريخ مكثّف من التدمير الوحشي والمنهجي لحضارة الفلسطينيين وثقافتهم العربية، وخصوصاً لديانتهم الإسلامية”!. ونقلت المقالة عن الباحث الإسرائيلي العلماني الدكتور أمنون رازكوراكتسين قوله الموجز البليغ: “الرب غير موجود لكنّه وعدنا بالأرض”! (أنظر صحيفة “الأخبار” البيروتية – 18/2/2009).
إنّ هذه الإشارات الصائبة إلى حقيقة ما تتعرّض له أمتنا تعيدنا ليس إلى حملة نابليون وحسب، بل إلى العام 1492، تاريخ سقوط غرناطة آخر قلاع العصر العربي الإسلامي العالمي، وإلى بداية الحصار المحكم ضدّ العرب والمسلمين، والحملات الدؤوبة المتواصلة لتدميرهم، وينبغي التذكير بأنّ تدمير غرناطة تضمّن تدمير أبنائها اليهود أيضاً على قدم المساواة مع إخوانهم العرب المسلمين والمسيحيين، كما ينبغي التمييز بين اليهود الأشكيناز، الذين تبنّوا العقيدة الصهيونية الأوروبية والمشروع الإسرائيلي الأوروبي، وبين اليهود السفارديم الذين كانوا في جملة أبناء الحضارة العربية الإسلامية، علماً أنّ الأشكيناز تهوّدوا في أواخر الألف الميلادية الأولى، وأنّهم من أصول قبلية خزريّة وثنية، لا علاقة لها على الإطلاق بالإبراهيمية أو الموسوية أو اليهودية، ولا بفلسطين والمنطقة العربية بمجملها!
غير أننا سنكتفي هنا بالعودة إلى البارحة، إلى العام 1999، حيث أصدر الأميركي الصهيوني ديفيد وورمز كتابه المعنون: “حليف الطغيان/فشل أميركا في إطاحة صدّام”! لقد تحدّث وورمز في كتابه المذكور عن ضرورة تغيير الشرق الأوسط بأساليب دراماتيكية، وقال أنّ الإطاحة بصدّام ستكون بمنزلة رسالة لجميع الأنظمة العربية كي تتوقف عن دعم الإرهابيين، من أمثال جماعة حزب الله وحركة الجهاد الإسلامي وغيرهما، شارحاً أنّ العدو الأكبر (للأميركيين وحلفائهم) هو عقيدة القومية العربية بصورها المختلفة، بما فيها عقيدة التضامن الإسلامي. إنّ القومية العربية غير شرعية. إنّها خارج الشرعية الدولية وخارجة عليها! هذا ما أراد وورمز التأكيد عليه في كتابه!
لقد كتب ريتشارد بيرل التقديم لكتاب وورمز في العام 1999، وفي العام التالي، بعد فوز بوش الابن بمنصب الرئيس، سوف يتولّى بيرل منصب رئيس مجلس سياسة الدفاع في الحكومة الأميركية الجديدة، أمّا ديفيد وورمز فسوف يتولّى منصب وكيل وزارة الخارجية، ومن المعروف أنّ هذين الرجلين هما من كبار عصابة المحافظين الجدد، أو الليبراليين الجدد، التي مهّدت على مدى العقد الأخير من القرن العشرين لعهد بوش الابن، العهد الذي أريد له أن يكون انقلابياً يغيّر خارطة العالم جذريّاً لصالح سياسة العولمة، أو الأمركة، التي أرادت جعل واشنطن عاصمة إمبراطورية مركزية للعالم أجمع، وجعل “إسرائيل” وكيلها الإمبراطوري في المنطقة الشاسعة الواسعة ما بين بحر قزوين والمحيط الأطلسي!
ما بين العامين 1996 – 1999، أخذ ريتشارد بيرل على عاتقه مهمّة المستشار الانتخابي لبنيامين نتانياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق والمرشّح اليوم لشغل هذا المنصب). إنّ مثل هذه الرعاية الأميركية الحميمة للقادة الإسرائيليين ليست جديدة، فقبل أن ينتقل نتانياهو إلى فلسطين المحتلة، للإقامة شبه الدائمة فيها حيث هي دائماً مركز الإقامة الثانوي لأمثاله، كان عضواً في فريق يهودي صهيوني أسهمت في تدريبه وإعداده للعمل في بلادنا تلك الذئبة الصهيونية الأميركية مادلين أولبرايت، فكان ذلك الفريق على مقربة منها وتحت إشرافها بينما هي تشغل منصب ممثلة الولايات المتحدة في هيئة الأمم، ثمّ منصب وزيرة الخارجية في عهد الرئيس بيل كلينتون!
لقد تأبّط ريتشارد بيرل حينئذ تقريراً عنوانه: “إستراتيجية لضمان أمن المنطقة”!(طبعاً المقصود ضمان استسلامها وانصياعها) وقد تضمّن ذلك التقرير ثلاثة عناوين بارزة لخّصت المهمّات التي ينبغي على نتانياهو أخذها باعتباره، وعلى عاتقه، عندما يصبح رئيساً للوزراء، وهي: 1 – رفض اتفاقات أوسلو والتنصّل منها 2- إسقاط نظام الرئيس صدام حسين. 3 – التوقف عن التركيز إعلامياً وسياسياً على عملية تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين! لقد تلخّصت إرشادات بيرل لنتانياهو بأنّ القول الفصل سوف يكون للسلاح، وأنّ الشعار الذي يجب رفعه من قبل الأميركيين والإسرائيليين هو: “السلام مقابل السلام”! وليس المفاوضات وشعار “الأرض مقابل السلام” وما شابه ذلك!
إنّ إرشادات بيرل لنتانياهو قبل عشر سنوات كانت تعني الاستعداد والتحضير لجولة إبادة منهجية كبرى ضدّ الحضارة العربية الإسلامية الكابية، غير أنّ الجولة انكفأت في مرحلتها الأولى أمام صمود الشعب العراقي، ثمّ توالت انكفاءاتها في لبنان والسودان والصومال وأفغانستان وفلسطين، الأمر الذي كان من أهمّ أسباب الأزمة الأميركية/العالمية، الاقتصادية/المالية، فهل توقّف مشروع الإبادة الأميركي الأوروبي الصهيوني؟ كلاّ لم يتوقّف! ولسوف نتعرّف قريباً، مثلاً، على المرشد الأميركي الجديد لبنيامين نتانياهو المرشّح القوي لمنصب رئيس الوزراء بفضل تصريحاته الإبادية!