د. ثائر دوري
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1827)
بعد اندلاع الكفاح المسلح ضد المحتل تنشأ هوة عميقة بين المستعمر والمستعمر، عميقة بحيث يستحيل بناء جسور فوقها من أجل اللقاء في منتصف الطريق، وكلما تعمق الكفاح المسلح تعمقت هذه الهوة بواسطة دماء الشهداء وعذابات السجناء والمضطهدين والنساء المغتصبات والبيوت المدمرة والأسر المهجرة. لذلك كلما تطاول زمن الكفاح المسلح وكثر عدد الضحايا تجذرت الثورة أكثر وانعدمت إمكانية أنصاف الحلول وإمكانية اللقاء على جسر في المنتصف. فالمستعمَر (بالفتح) الذي انتُهكت أرضه، وهُدّمت بيوته، وشُرّدت أسره، وقدم قرابين الشهداء على مذبح الحرية لم يعد يقبل بأقل من حريته كاملة. لقد أحرق مراكبه وليس هناك من مكان يرجع إليه فهو قد يئس من وضعه السابق لذلك دمر كل الجسور خلفه وعبر إلى الضفة الأخرى.
وعندما ييأس المحتل من إمكانية سحق الثورة المسلحة بالقوة العسكرية لا ينسحب من البلد ويسلم بحقيقة أن سيطرته قد ولت إلى الأبد. بل يلجأ إلى اللعبة السياسية التي يتقنها جيداً، فيحاول أن يشد المقاومة، أو جزءاً منها، إلى حوار سياسي للوصول إلى أنصاف حلول محاولاً سحب ما يستطيع من عناصر المقاومة بعيداً عن السلاح تحت شعارات براقة مثل: وقف إراقة الدماء، تحقيق السلام، تخفيف آلام الضحايا، إعادة الإعمار والبناء….الخ. ولا يَعدم المحتل أن يجد من يستجيب له رغم نهر الدماء التي سالت، وينجح جزئياً في مسعاه فنرى مشهداً غريباً، نجد ثواراً سابقين يصافحون قاتلهم ويبدلون خطابهم، فيتحدثون عن إحلال السلام في وقت ما زالت قوات المحتل على تراب وطنهم، وتبدأ حركة عبور فوق الهاوية السحيقة التي سال فيها نهر من الدماء والدموع والآلام وعلى جسر بناه المحتل. ويبدو المشهد للمراقب غير الخبير وكأنه بات في الساحة ثلاثة خنادق: خندق المحتل، وخندق المقاومين القابضين على السلاح، وخندق أولئك الذين خلعوا بزاتهم العسكرية ورموا أسلحتهم وارتدوا ربطات عنق وأمسكوا أقلاماً يوقعون بها معاهدات ما يسمى بالسلام ويسبغ المحتل أوصافاً جميلة مثل العقلانيين والمعتدلين ومحبي السلام! لكن هذا المشهد لا يخدع العين الخبيرة التي تدرك أنه في الحروب لا يوجد سوى خندقين متقابلين، وأن الخندق الثالث المزعوم هو خندق فرعي للمحتل الذي أخافته إمكانية طرده عسكرياً بشكل مذل من البلد فلجأ إلى ألاعيبه السياسية كي يضمن استمرار مصالحه بعد رحيل قواته المسلحة وبعد أن يكبل جماعة الخندق الثالث الذين يخطط لتسليم البلد لهم بمعاهدات تجعل استقلالهم وهماً لا قيمة له.
إن الثورة، أي ثورة، تكره أنصاف الحلول ومن غير المسموح به أن تقف في منتصف الطريق لأنه لا يوجد نصف حرية. نصف الحرية هي عبودية. إن مجرد انطلاق الكفاح المسلح ضد المستعمر يعني أن النضال ضد المستعمر قد اكتسب صفته الجذرية وأن أوان أنصاف الحلول قد فات. أما أصحاب الطريق الثالث الذين يريدون أن يصنعوا نصف ثورة، فلا يزيدون على أن يحفروا قبورهم بأيديهم كما يقول سان جوست. وسينتهون نهاية مأساوية أو بائسة لكنهم يطيلون طريق تحرير بلدهم ويزيدون عذابات أهلهم بعد أن قدموا خدمة للمحتل بإعطاء حرب الاستقلال وجه حرب أهلية.
أليس هذا ما يجري في الصومال اليوم؟