القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية

الدكتور عبدالله تركماني

كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1830)

بعد أن احتفت بمدينة حلب السورية في سنة 2007 ومدينة الإسكندرية المصرية في سنة 2008، فإنّ المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ” الإيسيسكو ” قد اختارت مدينة القيروان (160 كيلومترا جنوب شرقي تونس) عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 2009. وعزت المنظمة هذا الاختيار إلى ” كون القيروان في طليعة الحواضر العربية – الإسلامية في شمال أفريقيا ذات التاريخ المجيد والعطاء الغزير المتميز في خدمة الثقافة العربية – الإسلامية، خصوصا في حقول الفقه الإسلامي وفي مجالات اللغة والأدب والشعر والتاريخ “.

ويعتبر إنشاء مدينة القيروان، التي تعرف أيضا باسم عاصمة الأغالبة، في العام 50 هجرية/670 ميلادية بداية تاريخ الحضارة العربية – الإسلامية في المغرب العربي. وتزهو القيروان، رابعة المدن الإسلامية، بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، بالعديد من المعالم التاريخية. إذ تشتهر بجامع عقبة بن نافع ومتحف رقادة الإسلامي، إضافة إلى بيت الحكمة الذي أنشأه إبراهيم الثاني الأغلبي في عام 289 للهجرة/902 للميلاد. والقيروان في الأصل كلمة فارسية دخلت إلى العربية، وتعني مكان السلاح ومحط الجيش وموضع اجتماع الناس عند الحرب.

ويجمع المؤرخون والمختصون في الحضارة العربية – الإسلامية على أنّ للقيروان إسهاماتها المتميزة في الحضارة الإنسانية، من خلال ما قدمته من فكر إسلامي مستنير ونشر لقيم الاعتدال والتسامح والحوار بين الحضارات، فضلا عن إسهاماتها في نشر الفن الإسلامي والعلوم الصحيحة. إذ أنّ بناء جامع عقبة، كغيره من مساجد القيروان، ارتبط دوما بتنظيم حلقات التدريس وإنشاء المدارس والمكتبات العامة ومن أشهرها بيت الحكمة، الذي أُنشئ أسوة ببيت الحكمة الذي أسسه الخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد، فكان نواة لمدرسة الطب القيروانية التي أثّرت في الحركة العلمية للمغرب العربي – الإسلامي لزمن طويل. ولأنّ المسلمين الأوائل في القيروان أدركوا أنهم في منطقة ليس فيها من الأمطار القدر الكبير، تحايلوا للمحافظة على المياه بتأسيس خزانات عدة لتجميع مياه الأمطار، وهي تعكس نظاما هندسيا متطورا لري المناطق الزراعية وتأمين المياه اللازمة لسكان المدينة. وما زالت هذه الخزانات قائمة إلى اليوم، ويستند الباحثون عن نظامها الدقيق لمعرفة مدى تطور العلوم في تلك الحقبة من تاريخ المنطقة.

لقد أدمج القيروانيون تراثا هندسيا متنوعا في عمارتهم جمع بين الأندلسي والتركي والعربي القديم، ومن هنا فإنّ المدينة العتيقة للقيروان ألهمت العديد من الفنانين، بفعل أزقتها الملتوية والممرات والقباب ذات اللون الأبيض، التي تحوم كلها حول مسجد عقبة بن نافع ومئذنته الرائعة. أما الأسواق والأزقة المعدة للتجارة، فتتوزع بحسب الاختصاصات وتعج بالحركة، وحولها تحوم الأسوار بقلاعها.

ولعل هذا ما جعلها تأسر قلوب الشعراء الذين زاروها، وفي مقدمتهم نزار قباني الذي نقش القيروانيون ما قاله فيها على جدار النافورة التي تطالعك في مدخل المدينة، مشيدا بكونها ” المدينة العربية الوحيدة التي أحبت الشعراء وحفرت قصائدهم على جدرانها “.

وتنطق الاحتفالات بداية من يوم 8 مارس/آذار الجاري، وبعد موكب الافتتاح الرسمي الذي سينتظم في صحن جامع عقبة بن نافع، سيتم عرض احتفالية فنية بعنوان ” المشهدية – القيروان الخالدة ” في 10 مارس/آذار من إنجاز الموسيقار التونسي مراد الصقلي.

وستشتمل سنوية ” القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية ” على 18 ندوة فكرية و10 لقاءات مختصة و10 معارض و8 مهرجانات و20 عرضا موسيقيا و20 عرضا سينمائيا و10 مسرحيات، علاوة على مؤتمرين إقليميين وأمسيتين شعريتين، إلى جانب مجموعة من الندوات والمعارض الفنية. وفي البرنامج ندوات فكرية تهتم بـ ” حوار الحضارات والتنوع الثقافي ” و ” حضور الإسلام والحضارة العربية في شمال المتوسط “، ومعارض حول ” التراث المعماري القيرواني ” و ” أعلام القيروان “، وعروض مسرحية وسينمائية وأمسيات شعرية.

ومن أبرز الفعاليات الثقافية التي تشهدها تونس في العام 2009 كذلك الاحتفاء بمئوية المسرح التونسي ومئوية الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي، إذ انطلقت الاحتفالية بمئوية الشابي في 24 فبراير/شباط على أن تختتم في 9 أكتوبر/تشرين الأول. لقد وُلد الشابي في سنة 1909 وتوفي في سنة 1934، وأنتج أشعاره التي خلَّدته في أقل من عشر سنوات وبينها بالخصوص قصيدته ذائعة الصيت لدى كل العرب ” إرادة الحياة “.

كما أنّ الدورة الثالثة والعشرين من مهرجان علي بن عياد للمسرح، التي اختتمت فعالياتها في أواخر فبراير/شباط الماضي، تزامنت هذه السنة مع مئوية المسرح التونسي. إذ يعتبر بن عياد (1930 ـ 1972)، رائد المسرح التونسي، ومن أهم أعماله المسرحية ” أوديب الملك ” 1958 و ” كاليغولا ” 1962 و ” مدرسة النساء ” 1963 و ” عطيل ” و ” البخيل ” 1964 و ” مراد الثالث ” 1968.

ولعله من المهم أن نؤكد أنّ اختيار القيروان مدينة للثقافة الإسلامية لم يكن من فراغ، وإنما بسبب شهرتها ومكانتها التاريخية، وقد اقترن اسمها ببداية الحضارة العربية – الإسلامية في المغرب العربي. ولعل ما يعني تونس اليوم هو: كيف تؤسس لخطاب حول الهوية الثقافية التونسية، ذات العمق العربي – الإسلامي، يندرج في إطار مشروع الانفتاح والحداثة، خصوصا أنّ التاريخ الحديث لتونس قد امتاز بخاصية استثنائية جعلته من أكثر المجتمعات العربية قدرة على إنتاج الأفكار الرائدة والتنويرية والسباقة والمتقدمة على عصرها.

المصدر: كلنا شركاء، سوريا، 9/3/ 2009