عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1841)
(1)
لم أتمكن من الكتابة عن المثقف المشتبك كمشتبك كي يكون ثورياً، ولم أقم حتى بالإشارة إليه في أكثر من مقالة كتبتها ضمن هذا السياق. كان يجب أن أفصِّل هذا في مقالة “حرب غوار الثقافة”، و “القدس عاصمة الثقافة العربية” وغيرها.
يردني هذا إلى ما كتبته في كتابي : ” مثقفون في خدمة الآخر: بيان أل 55 نموذجاً” (ص 21). كان هذا الكتاب هو ساحة حرب غوار في حينه وما زال. فيه حاولت التمييز بين المثقف الثوري وبين المثقف العضوي، تمييز العضوي عن الثوري بأنه ميداني وحزبي وطبقي، بينما الثوري قد يكون مناضلا في النطاق النظري وليس الميداني.
لكنني أجد اليوم بأن هذا لم يعد يكفي. لا بد أن يكون المثقف، بل أن يبدأ ولا ينتهي مشتبكاً. وهذا ما يضيىء الفارق بين المثقف الثوري و/أو النقدي وبين المثقف المشتبك. المثقف الثوري المشتبك، لا يشيخ ولا يتقاعد، ولا يتمرحل، هو في عالم الطبقات، والاستعمار والعولمة مشتبك دوماً لأن مهام الاشتباك أوسع منه وأكبر. والمثقف المشتبك ليس نقدياً وحسب، لا يكتفي بهذا. فالمثقف النقدي هو كالثوري، قد ينحصر، بل غالباً ما يحصر نفسه في نطاق حلبة صراع الأفكار، وهذا ليس قليلاً، ولكنه لا يلقي بنفسه في ميدان حماية وتطبيق الأفكار، ويترك هذه الأفكار لتُحمى بالحماية الشعبية من قبل الناس. أما حينها، فقد يكون قد انتقل إلى موقع آخر هو ضد الثورة. من هنا فالاشتباك، هو شرط المثقف العضوي، هو إذن المثقف العضوي المشتبك، أما النقد فهو بعض دوره وليس كلِّهْ. ولأنه مشتبك، فهو نقدي وضِدِّي ونافِ وغير متطابق. أي لا يتصالح كمثقف فوكو وديريدا المستسلمين لقدر السلطة الحاكمة في النهاية، أي التي تخلقهما ليكونا “احتجاجاً” على مقاسها، ولا يرتد إلى الأدنى كمثقف إدوارد سعيد “الإنساني” وفي النهاية المتطابق مع مثقف الإمبريالية والصهيونية. وفي الأغلب الأعم، فإن هذا التشخيص للمثقف من جانبي، يتجاوز مثقف غرامشي العضوي، لأنه بالاشتباك يظل حارس بوابة الحياة بما فيها افكاره هو. فالمثقف العضوي، حتى للطبقة العاملة له الخيار، بمعنى أن لا شرط عليه أن يشتبك. ومن هنا، كان لمثقفي الماركسية الثقافويين أن ينتهوا خارج نطاق الحياة، اي خارج نطاق المادية التاريخية والاقتصاد السياسي، لينتهوا نقديين في حلبة مصارعة الفكرة بالفكرة والكلمة بأختها. ويجوز القول ايضاً، إن المثقف المشتبك، هو إيجابي لأنه يواجه تحدي الطبيعة كإنسان، ويواجه تحدي أعداء الأمم من بني البشر. فهو في الغالب مدافع، والدفاع أعلى درجة من المقاومة، لأن المقاومة قد تكون لمرحلة، أما الاشتباك فمؤبد.
(2)
من ثقافة الاحتجاج إلى ثقافة الاشتباك:
حكومة كندا تواصل ذبح أطفال غزة!
شأن العديد من الأخبار المميزة، والمثيرة، وحاملة معنى اضخم من كلماتها بما لا قياس ولا مقارنة فيه، مرَّ على الفضائيات خبر مفاده:
” رفضت كندا منح جورج جالوي تاشيرة دخول إلى أراضيها لأنه يدعم حماس”!
وبغض النظر عن من الذي كتب صيغة الخبر، هل هو السفير الكندي في الكيان، أم الخارجية الكندية أم الفضائية العربية…الخ فالخبر كاذب في جوهره ومنافق ومُداوِر. فالسيد جالوي إنما جاء إلى غزة ليدعم الشعب الفلسطيني، ليرفض المذبحة وليفضحها. هذا لا يعني أنه ضد حركة حماس، ولكنه لم يأت إلى هناك من أجل هذه الحركة فقط. إن صيغة الخبر تفيد وكأن السيد جالوي هو عضو في حماس! إذن، حقد النظام الكندي هو على الشعب الفلسطيني وعلى المقاومة الفلسطينية. لا بل إنه عداء هذا النظام لشعبنا.
وكندا، في اذيال أميركا دوماً. وهذا أحد اسباب منع جالوي من دخولها. فأميركا هي التي اشاعت أن جالوي كان يرتشي من الرئيس صدام حسين. ولكن جالوي دخل أميركا واثبت نظافة يده، على غير عادة كثرة من العرب الذين تحولت أكفهم إلى دولارات. وهناك أحرج روما العصر. لكن كندا دوماً تتصرف بتبعية مطلقة للسياسة الأميركية كما لو كانت هناك مؤخرة لأميركا تُدعى كندا. لا غنى لي شيىء عن وجه وقفا، وإن صح قولي بأن كندا كما لو كانت مؤخرة لأميركا، تكون أميركا الكائن الوحيد الذي تضاهيه مؤخرته حجماً وانتفاخاً، فأي وحش لهذا النظام إذن!.
تذكرت هذا حين زارني أحد دبلوماسيي الحكومة الكندية عام 1991، اسمه جورج ريو. كنت موظفاً في (يو. أن.دي.بي- وهي مؤسسة دولية يحسبها مثقفون جهلة، أو باحثين عن مثالب هنا أنها منظمة غير حكومية ويتهمونني بأنني عملت مع الأنجزة). كان ذلك في أعقاب العدوان على العراق بحجة “تحرير الكويت”، الذي أراه إعادة احتلال الكويت ومن ثم تدمير العراق لاحتلاله. وكنت كتبت آنذاك مقالة في جريدة الشعب نقدت دور كندا في ذلك العدوان كتابع لأميركا. جاء الرجل بحجة الرغبة في التعرَّف. طبعاً بدأ الحديث عن المقالة:
– قال إطلعت على مقالتك عن كندا وأميركا
– قلت: هل تقرأ العربية؟
– قال :لا.
– قلت يعني لديكم عملاء من مثقفينا ليترجموا لكم؟
– قال، ليس هكذا.
– قلت : هذا اقل ما يُكتب عن دولة تشارك في ذبح أمتنا.
لا شك أن الرجل فوجىء من الجوهر والأسلوب، لكنني فعلت ذلك لأوصل له رسالة، أن من يَكتُب كتابة نقدٍ مشتبك، ليس من فئة المثقفين التي “تغازل” مجرمي الإمبريالية كي يشتروا مؤخرتها بقليل أو كثير من الدولارات. لم يمكث الرجل ومضى.
كندا إذا شريك في مذبحة العراق، فهل كان العراق حماساً؟ أم أن كندا في أعقاب أميركا دوماً؟
سألت استاذاً أميركياً ذات مرة حيث كان لي حديث في جامعة متشيغان بدعوة من الطلبة العرب والمسلمين: لماذا لم تحتلوا كندا في الحرب الأهلية الاميركية أو ما تسمونها حرب الاستقلال عن بريطانيا؟ قال لأن الكنديين قاومونا.
حتى الآن لست مقتنعاً بهده الإجابة. فربما تراجع الأميركيون عن ضم كندا، وهي تشبه أميركا في كل شيىء، هي مستوطنة بيضاء، وهي مذبحة للسكان الأصليين، وهي عنصرية، وفوق هذا هي صحراء بيضاء. وربما كان سبب الأميركيين ان دولة بهذه المواصفات لن تكون إلا مؤخرة لأميركا. وها هي كذلك. وإلا لماذا تطبق سياسة أميركا في كل مكان، في فلسطين والعراق وافغانستان، ويوغسلافيا…الخ؟
من سخريات الغرب منا نحن العرب، أن كندا هي حاملة ملف اللاجئين الفلسطينيين؟ يا إلهي، وأي طرف أمين هذا. وبدون الخوض في تفاصيل، فإن كندا، هي التي موَّلت هدم بلدة عمواس عام 1967هدماً شاملاً، كما لو كان بقنبلة نووية صغيرة، واقامت مكانها منتزهاً اسمه “منتزه كندا Canada Park”. فأية هدية هذه للاجئين الفلسطينيين، منتزه أو حديقة عامة للعشاق والحشاشين على حد سواء على انقاض شعب وتاريخ سابق وحيٍّ. ومع ذلك لم يتقدم المثقفين المتخارجين من ابناء جلدتنا باحتجاج لكندا لتنزع هذه الفضيحة وتتبنى عودة أهالي عمواس، غذا كانت تريد غسل ملم2 من جسدها.
ليس هذا وقت التفاصيل، لكن من حقنا الدفاع عن أنفسنا ضد اي عدو، بما فيه كندا. باختصار دُعيت إلى مؤتمر عن اللاجئين في كندا عام 1997، وتعرضت لمحاولة اعتقال من نظام عربي، ورفضت الخارجية الكندية حمايتي وهي التي كانت دعتني للمؤتمر، ولولا بطولة الصديق والرفيق د. عاطف قبرصي، لكنت رزحت في أحد المعتقلات نصف عام على الأقل لا يعرف بي إلا الله والراسخون في المخابرات. فأية دولة حضارية تدعوك لتتخلى عنك ويُلقى بك في غياهب السجن، ليس لأمر إلا لأنك عربي وفلسطيني ومن اللاجئين أيضاً.
هل هي حروب فردية مع دولة؟ لا، هي حرب من هذه الدولة على كل عربي، إلا إذا كان عميلاً!
حضرت مؤتمراً لحق العودة في كندا عام 2003، قبيل العدوان الوحشي الأميركي على العراق، والذي شاركت فيه كندا!
وبعد مغادرتي إلى أميركا قبل العودة إلى هنا، أرسلت إلى كندا (مدينة تورنتو) طرداً من 40 نسخة من كتابي بالإنجليزية:
Epidemic of Globalization: Ventures in World Order، Arab Nation and Zionism
واعتقل الكتاب من قبل جمارك كندا، والنَصُّ كما يلي:
The Arrested Book:
In 25-3-2003. the Canadian Customs and Revenue Agency sent a formal letter to Mughir Hindi states that:
“The following goods have been detained for a determination of tariff classification as they may constitute obscenity or hate propaganda. You will be notified in writing of the decision.
Item: 1، Quantity: 40، Medium: Book، Title: Epidemic of Globalization.
“في 25-3-2003، أرسلت وكالة الدخل والجمارك الكندية رسالة رسمية إلى السيد مغير الهندي هذا نصها:
” تم احتجاز البضاعة المذكورة أدناه بقرار /تصميم تصنيفها جمركياً على أنها قد تشكل دعاية فاحشة أو مسببة للكراهية. وسوف نعلمك كتابة بالقرار.(المادة: 1، الكمية 40 كتاب من القطع المتوسط،، عنوان الكتاب: وباء العولمة”
كما هو واضح، لم تشتمل الرسالة على إسم الكتاب كاملاً، مع أن ذكر كلمة الصهيونية هي التي أدت إلى اعتقال الكتاب، وهذا يبين إلى اية درجة يتحسس ذلك النظام من اي نقد للصهيونية.
الهدف من هذه الكتابة هو إثارة احتجاج ضد كندا، الحكومة أو الدولة وليس الناس، أو ليس كل الناس. لماذا لا يعرف الكنديون أننا نراقب سياسة حكوماتهم، وأننا نشعر بأن بلداً عنصرياً لا يستحق الاحترام، وأن العين بالعين والعدوان. أما، وكندا تذبح في العراق وتعادي من يقدم لأطفال غزة الحليب والدواء، ولا تجد من يحتج عليها، فما الذي يمنع الكنديين حتى لو كانوا مؤخرة اميركا، ما الذي يمنعهم من اعتبارنا قطيعاً؟
والسؤال هو : هل سيُمسك مثقفونا واصدقاء حكومة كندا عن زيارة مبعوثيتهم هنا؟ أو حضور حفل استقبال رسمي كندي هنا بين حين وآخر؟ هل سنقاطع بضائع كندية إذا ما جلبها تاجر (كمبرادور) شره؟ وهل نسحب هذا على كل بلد تتصرف حكومته أو نظامه كما تفعل كندا؟
هذا المقال هو محاولة لتأصيل ثقافة الاحتجاج وصولاً إلى سلوك الاشتباك.
ولأن الشيء بمثله يُذكر، فإن حكومة بريطانيا العظمى تحت السيدة مارغريت تاتشر رفضت منح الفنان المصري الراحل الشيخ إمام تأشيرة دخول لولا سيل من الاحتجاجات. هذه هي الديمقراطية واللبرالية التي “نحسدهم عليها”.
وأخيراً، إذا كانت هذه إساءات حكومة كندا ضد مواطن عربي واحد، ترى كيف لنا أن نحصي ما فعلته ضد أل 300 مليون!