د. عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1846)
أصبح من قبيل الإقرار وتحصيل الحاصل أن الثلاثي الأغنى والأكثر تطوراً في النظام العالمي اي مركزه، (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) دخل مرحلة ركود اقتصادي، وعلى هامش ذلك أي بسببه يحاول الاقتصاد الدولي بأسره الخروج من أزمة الثقة بالنظام المالي العالمي الذي هذا الثلاثي مركزه، لا سيما أن البنوك التجارية بناء على ذلك تصر على تقليص الإقراض النقدي وسط مخاوف أن تتعرض لما تعرض له سوق العقارات الأميركي بسبب القروض لمن لا ملاءات مالية لديهم. والتناقض قائم هنا على أن تجفيف قنوات التمويل البنكي يقود إلى تضاؤل الاستهلاك في مجتمعات يعتبر الاستهلاك قاطرة حركتها الاقتصادية. أليس الاستهلاك بل “علم الدعاية والاستهلاك” مكونا رئيسياً للثقافة في هذه البلدان ولا سيما الولايات المتحدة؟
على ان المشكلة لا تنحصر في التحرك الحذر للبنوك، وهي مصدر رئيس لتنشيط الاستهلاك، فهناك مصدر آخر للقلق وهو الموقف الصيني. جاء ذلك الموقف بوضوح حينما أعرب رئيس وزراء الصين عن قلق بلاده على ال تريليون دولار التي اشترت بها الصين سندات من الخزينة الأميركية. وهذه المبالغ ليست في حقيقة الأمر مجرد عملية شراء طبقا لقانون العرض والطلب في الاقتصاد البحت المعزول عن الاقتصاد السياسي، بل هي في جوهر الاقتصاد السياسي. هي جوهريا مثابة قروض غير معلنة من الصين الى الولايات المتحدة، هي عملية سياسية. لذا يطلب رئيس الوزراء الصيني من اميركا توفير ماهيات تأمينية ومحافظة أميركية على وعودها والتزاماتها بأن تحافظ على الاستثمارات الصينية وقيمها خلال الأزمة المالة الجارية والآخذة في التعمق.
وهذا الحديث يفتح على أمرين:
□ الأول: ان الأموال الطائلة التي تضخها الإدارة الأميركية اليوم في قنوات الاقتصاد الأميركي هي أموال صينية في الغالب. أي ان السخاء الأميركي في الإنفاق هو من مصدر خارجي، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان على الاتحاد الأوروبي ان يطبق نفس السياسة أو ربما يوفر نفس المقادير. وكما أشرنا فإن الأصل الصيني لهذه الأموال وقلق الصين هو الذي دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما ليؤكد للصين بأن على المدراء أن يكونوا حذرين، على المستويين الرسمي والشعبي.
□ والثاني: ان هذه الأموال الصينية من حيث طريق تسييلها الى الاقتصاد الأميركي تضع الصين نفسها إلى جانب اميركا في معارضة سياسة الاتحاد الأوروبي الذي لا يفضل ضخ كميات هائلة من الأموال عبر الدولة الى الأسواق. وهذا شكل معكوس للآلية الكلاسيكية في فترات الازدهار حيث كان دور الدولة في اوروبا اكثر تدخلا في الاقتصاد، أي دولة الرفاه، وكان دور الدولة في أميركا أقل، وهو ما قاد إلى تبني أو الانتهاء إلى سياسة اللبرالية الجديدة وسياسة عدم التضبيط.
كان نقاش هذه الأمور بارزاً وربما ساخناً، وإن لم يسلط عليه الضوء. فهو مقدمات أو أجندة للقاء قادة دول مؤتمر العشرين يوم 2 نيسان المقبل لهذا العام 2009.
فقد أختتم مؤتمر مسؤولي المالية في مجموعة الدول العشرين التي تكونت مؤخراً على هامش الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية الجارية، وذلك في مدينة هورشام في بريطانيا. وتضم المجموعة ممثلين عن البلدان الغنية والنامية. وتركز النقاش حول مدى “ضرورة” تثبيت الاقتصاد العالمي بما في ذلك:
□ الإشراف على صناديق التحوط Hedge funds التي عملت بانفلات تام في العقود الثلاثة السابقة وخاصة في الولايات المتحدة.
□ ومحاولة استعادة دور البنوك في التسليف وذلك بالتعامل مع الأسهم والسندات والضمانات المالية المهتز وضعها.
مشكلة الإنفاق
لكن، كما اشرنا أعلاه، فقد ظل المؤتمرون مترددين فيما يخص ضغط الولايات المتحدة باتجاه تنسيق أكثر بين هذه البلدان بشأن زيادة مفرطة في الإنفاق الحكومي لتنشيط الاستهلاك والهادف بالطبع إلى تحفيز الاقتصاد.
لذا صرح ممثل الدولة المضيفة، وزير الخزينة البريطاني ب :” اننا جاهزون لاتخاذ اية خطوة لازمة لاستعادة النمو ونحن ملتزمون بالقيام بذلك مهما لزم ذلك من الوقت “. وفي هذا السياق، حاولت الدولة المضيفة رتق الفجوة بين موقفي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يخص قضية التحفيز، وبالطبع فإن مختلف الحضور مهتمين بالتوصل إلى بلورة جبهة متحدة في هذا المستوى، آخذين جميعا بالاعتبار ان ظهور أي خلاف جدي على السطح سيؤدي إلى عواقب وخيمة على أداء الاقتصاد العالمي لأنه سيعمق من عدم الثقة بالخروج من الأزمة، وربما يذكرنا هذا بأكثر من مرة تمت الإشارة إليها بأن هناك “طبقة عالمية” قيد التكوين وإن كان الإعلان عنها ليس شرطاً لوجودها، بل الشرط هو تماسكها في القمة العليا للاقتصاد العالمي.
لقد رفضت بلدان ومنها فرنسا وألمانيا ضخ مقادير هائلة من الأموال إلى الأسواق، وفضلت مقابل ذلك تضبيط مشترك للأسواق كآلية لمحاصرة الأزمة. فرغم أن اقتصاد الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية متوازية تقريباً، إلا أن الولايات المتحدة أقرت رزمة ب 787 بليون دولار (615 بليون يورو)، في حين قرر الاتحاد الأوروبي 400 بليون يورو فقط لدوله ال 27.
ملخص موقف الولايات المتحدة ما قاله وزير الخزانة هناك تيموثي جيثنر:
” بأن على اوروبا أن تقوم بما قامت به الولايات المتحدة حيث ضخت 787 بليون دولار كحزمة من الإنفاق وتقليص الضرائب. وبأن هناك إجماع دولي على الحاجة إلى العمل بشكل هجومي لاستعادة النمو في الاقتصاد العالمي”. وأكد أنه متفق مع التقدم الذي حصل في مفاوضات هذا اللقاء لكنه يرى أن الأزمة ما تزال منفلتة. فهذه فترة تحدٍ والأزمة ما تزال تفعل فعلها.
تجلى الموقف الوسطي لبريطانيا في ما قاله الوزير البريطاني بأن الأمر متروك لكل بلد كي يقرر القدر الذي تعمل به ضد الأزمة، وما هو الأثر الذي للأزمة على ذلك البلد، واية مجالات في الاقتصاد التي تحتاج للدعم، أي ما هو في مصلحة ذلك البلد نفسه. وهذا الحديث الوسطي دبلوماسيا لا يستقيم كثيرا مع قلق العشرين إذا ما ذهبت كل دولة بعيداً في شأنها الداخلي.
أما وزير المالية الألماني بيير شتاينبروسك، فكان الأكثر نقداً للولايات المتحدة التي تدعو لإنفاق موسع، قائلا: ” إن ما يجب البدء به اولاً هو تثبيت النظام المالي. فلا معنى لضخ كميات هائلة من الأموال في اقتصادنا طالما لم نستعيد الثقة في الأسواق المالية”.
صندوق النقد الدولي بين القدرة المالية والدور
أقر المجتمعون على زيادة القدرة المالية لصندوق النقد الدولي، وجاءت هذه الموافقة بعد أن أقترحت الولايات المتحدة في الأسبوعين الأخيرين ان تُضاعف قدرة الصندوق الإقراضية لثلاثة اضعاف اي لتصل إلى 750 بليون دولار (580 يورو). أما المجموعة الأوروبية فتفضل فقط مضاعفة قدرة الصندوق بضعف واحد أي لتصل قدرته الإقراضية إلى 500 بليون دولار. لكن الدول الصاعدة الأربع ذكرت في بيانها أن المطلوب هو توفير مبالغ اكبر للصندوق على أن تتوزع سياساته لمساهمة الجميع. كما صرح دومينيك خان رئيس الصندوق مؤخراً أنه حصل على 100 بليون دولار من اليبابان. وجاءت هذه الزيادات بناء على تصريحات رئيس الصندوق التي مفادها أن الصندوق بما لديه حتى الآن لن يتمكن من إقراض الدول المحتاجة في حالة استمرت الأزمة الإقتصادية الحالية. وبدوره قد قام الصندوق مؤخراً بتوفير مساعدات لكل من باكستان وأوكرانيا.
مقابل موقف الولايات المتحدة الداعي لتعظيم القدرة المالية لصندوق النقد الدولي، دعى المشاركون، ولا سيما ممثلو البلدان الصاعدة الأربع (روسيا والصين والهند والبرازيل) الى دور اكبر في الصندوق للدول النامية، أي في سياسات الصندوق (انظر لاحقا) لتقييم أعمال كل حكومة بمفردها وبالطبع تلك التي تم تطبيقها في الفترة التالية على الأزمة، وعلى ما الذي يمكن القيام به إضافة إلى ما حصل، باعتبار هذا أفضل من اوضع خطط ضخمة ومحددة لاستنفار الإنفاق.
وافق الجميع، وهم يمثلون 80 بالمئة من الإنتاج العالمي على وجوب زيادة قدرة الإقراض لصندوق النقد الدولي باعتبارها خطوة ضرورية جداً وذلك كي يساعد حكومات البلدان النامية التي تصارع الأزمة العالمية. لكنهم تركوا مقدار المساعدات بدون تحديد وتركوا باب تقديم المساعدات نفسه مفتوحاً ايضا إلى أن يلتقي في 2 نيسان 2009 قادة هذه الدول كي يتم اتخاذ القرار الاقتصادي من المستوى السياسي. وهذا يعني ان اجتماع السبت 14 الجاري كان اجتماع التكنوقراط ليجهزوا أجندة للقادة وليدرسوا فيما إذا كانت هناك مناخات مناسبة ليتخذ القادة خطوة جماعية.
ضبط المؤسسات المالية المنفلتة
وفي مقاومة محدودة، او غير معلنة للسياسة المالية الأميركية، قبل الأزمة على الأقل، اتفق المؤتمرون العشرين على بعض المراقبة على صناديق التحوُّط، وهي صناديق لا تخضع للتضبيط إلى درجة عالية جداً، والتي تضخمت كتلتها المالية بشكل هائل خلال العقد المنصرم. لذا أكد المؤتمرون وأقروا بضرورة وضع ترتيبات وضوابط قوية للحيلولة دون قيام واستمرار الخطر المنظم وذلك ان وزراء المالية قد وافقوا على وجوب التأكد من أن مختلف المؤسسات المالية المنظمة والهامة، والأسواق وأدواتها، لا بد أن تخضع لدرجة مناسبة من التضبيط والمراقبة وأن صناديق التحوط ومدرائها مجبرين على تسجيل أنفسهم وتوفير معلومات مناسبة يجعل السماح بالوصول إليها سهلاً لتقييم المخاطر التي يواجهونها. كما اتفقوا على مراقبة وتسجيل وكالات تقدير الأرصدة ووضع قواعد محاسبية أوضح لمشكلة الأرصدة، ومعايير أكثر لمشتقات الاعتمادات التي هي منطقة ضئيلة التضبيط.
في تعقيب على هذه الإجراءات قال الوزير الألماني في نقد غير مباشر لمصداقية الولايات المتحدة: ” لعل الإختبار الآن هو وضع هذه الترتيبات موضع التفعيل، وهذا يعني الإشراف على مختلف الأسواق المالية، وأن يتم تضبيطها، وهذا ينسحب على خزانات راس المال مثل صناديق التحوط أو صناديق الأسهم الخاصة”. وبصفته ممثل الدولة المضيفة، قال الوزير البريطاني بأن الولايات المتحدة موافقة على وضع رقابة على صناديق التحوط التي كان لها دور كبير في الأزمة الحالية لأنها انغمست في المضاربات وعدم التضبيط بدرجة عالية جداً. مما قاد إلى عدم توازن الأسواق المالية.
القلق من الحماية
كما تعهدت الدول الأربع الصاعدة متعاطفة مع الدول النامية، بأن تحارب الحماية التي تفرضها الدول المتقدمة على اقتصاداتها، كي تتمكن من التغلب على فقدانها لدفوقات راس المال الدولي وهي قضية تم التعرض لها كثيراً. والمقصود هنا الدول التي كانت قد استقبلت او بالتحديد التي قدمت إغراءات للاستثمار الأجنبي المباشر كي يتدفق إلى اقتصاداتها التي عرضت عمالة رخيصة وفنية دون المطالبة بحقوق حتى نقابية لهذه العمالة، بمعنى ان هذه الدول فقدت بسبب الأزمة تلك الرافعة الاقتصادية، إن كانت هناك رافعة حقا، وإن حصل فهي ليست إلا للنخبة، وبالتالي أصبحت بحاجة للدعم في فترة يعيش فيها الداعمون أنفسهم أزمة اقتصادية.
والمفارقة هنا هي أن الدول النامية هي التي كانت بحاجة لتطبيق سياسات الحماية حينما كانت متبنية لسياسات إحلال الواردات. أما الأزمة فدفعت الدول الغنية التي كانت تنادي بتحرير التجارة الدولية لحماية اقتصادها من الدول النامية اتي أخذت تبحث عن حصة لتصريف معروضها السلعي!
الموقف من الصندوق كمعيار!
إن موضوع الصندوق بحد ذاته مسألة اختلاف بين دول العشرين بل على صعيد عالمي. فهناك الكثير من الانتقادات على أدائه طوال فترة عمله بعد الحرب الثانية وخاصة حينما بدأ التعامل مع بلدان العالم الثالث حيث أسدى وصفات لقرابة مئة دولة لم تتمكن بموجب تلك الوصفات من تحقيق نمو او تعديل حقيقي في اقتصاداتها، بل نتج عنها تدهور في الصحة والتعليم نظراً لإصرار الصندوق على أن تقوم البلدان المقترضة بتقليص الإنفاق على الصحة والتعليم ورفع الدعم عن المواد الغذائية. وعليه، لا يعود الموضوع الأساس هو مقدار أكبر أو اصغر لميزانية الصندوق بل الأساس هي سياساته وارتباطاته بالولايات المتحدة خاصة. فالولايات المتحدة هي التي لعبت دوراً مستمراً في تسهيل إقراض الصندوق للدول ذات العلاقات الخاصة معها، وهذا ما يفسر عدم توفر نفس الحماسة لدى دول الاتحاد الأوروبي لتضخيم ميزانية الصندوق. أما الدول الأريع الصاعدة فتركز على ان تُعطى هي ودول العالم الثالث صلاحيات أوسع في ترسيم سياسات الصندوق.