حين يتقمص الضحية شخصية القاتل

د. ثائر دوري
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1850)

ظهرت نظرية “المجال الحيوي” بشكلها الناجز في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى أثناء فترة التحضير لصعود النازية، وذلك في معهد الجيوبولتيك في ميونيخ وعلى يد رئيسه كارل هوسهوفر الذي صار مستشاراً لأدولف هتلر فيما بعد، ثم تحولت هذه النظرية التي تقول: إن لكل شعب الحق بالاستيلاء على الجغرافية التي يراها ضرورية لنموه. تحولت هذه النظرية إلى أيديولوجيا رسمية لهتلر وللدولة الألمانية في عهدها النازي.

لكن هذه النظرية ليست اختراعاً ألمانياً صرفاً فلها صلة قرابة مع نظرية “القدر المتجلي” الأمريكية ونظرية “عبء الرجل الأبيض”. وقبلهما أيديولوجيا تحضير العالم التي انطلق الأوربيون تحت جناحها آسيا وأفريقيا مرتكبين المجازر والإبادات والسلب والنهب. ومن صلبها وُلدت نظرية الاحتواء التي قال بها الأمريكي جورج كينان وطبقها الأمريكان على الإتحاد السوفيتي، ومنها اشتق كلينتون نظرية “الاحتواء المزدوج” ضد العراق وإيران في تسعينيات القرن الماضي.

إن جوهر كل النظريات السابقة هو افتراض وجود شعب مختار يستطيع أن يفعل بالآخرين ما يشاء دون حساب أو رقيب، فهي تقوم على احتقار كل الشعوب الأخرى لأنها غير متحضرة، أو نفي وجودها واعتبار أرضها مجرد عقار يحتاجه الشعب الغربي المختار ليتابع نموه.

ومن نافل القول إن نظرية المجال الحيوي، وسابقاتها ولاحقاتها من النظريات الغربية المماثلة، هي نظريات عنصرية غير إنسانية ولا يمكن أن تخدم أية فكرة نبيلة، لأنها تقوم على الاستعلاء، وادعاء امتلاك حق تقرير مصير الآخر، و تحت ظلها أباد الغرب عشرات الملايين من البشر لذلك من المؤسف أن ينزلق إنسان مسلم ينتمي إلى أمة مسلمة معذبة من العالم الثالث عانت مثل غيرها من أمم وشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية من تطبيقات نظرية المجال الحيوي الغربية، أن ينزلق إلى تبني هذه النظرية، ومما يزيد أسفنا أن الكاتب الذي انزلق إلى تبني هذه النظرية العنصرية عُرف بتأييده للمقاومة!

هذا هو ما فعله الأستاذ محمد صادق الحسيني في مقاله “سفر الحضور الإيراني من لاهاي إلى الدوحة ” المنشور بالقدس العربي تاريخ 30 – 3 – 2009 فهو يقول:

“فإذا كان الدور الإيراني في المسألة العراقية محل جدل وأخذ ورد في الساحتين العراقية والإقليمية فان مثل هذا الدور على الساحة الأفغانية ليس كذلك لا على مستوى الساحة الإقليمية ولا الأفغانية ناهيك عن الاعتقاد التاريخي الراسخ في العقل الجمعي الإيراني بان أفغانستان جزء من المجال الحيوي الإيراني”.

لا اعتقد أنه مما يفيد أمم العالم الثالث المعذبة بشيء أن تكون العلاقات فيما بينها مبنية على نظريات عنصرية استعمارية، فكيف إن كانت الأمتان مسلمتين: الفارسية والأفغانية! وليس مما يشرف أمة من الأمم لا أخلاقياً ولا إنسانياً أن يكون مغروساً في عقلها الجمعي نظريات نازية. هذه سقطة كبيرة للأخ محمد صادق الحسيني لم نكن نتوقعها منه لأننا اعتدنا منه تأييداً للمقاومة ودعوة لوحدة إسلامية في وجه الغزو الغربي- الأمريكي للعالمين العربي – والإسلامي.

ولا تتوقف سقطات الكاتب في هذا المقال على الفقرة السابقة بل تتعدد فهو يبدي انتشاءً واضحاً بدعوة الرئيس الأمريكي أوباما للحوار مع إيران حول الملف الأفغاني “فان الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيسة ديبلوماسيته السيدة هيلاري كلينتون لا يكونان قد ‘اخترعا البارود’ عندما يدعوان إيران للعب دور فاعل في الساحة الأفغانية، وتاليا فإنهم أي الإيرانيين يعتقدون بان لا منة من أحد عليهم عندما يدعون إلى لعب مثل هذا الدور ثم إن الإيرانيين يعتبرون أنفسهم السباقين في هذا المجال بالذات، كما يعتبرون بأن الأمريكيين هم من ضيعوا الفرصة الذهبية على أنفسهم عندما لم يلتقطوا الإشارة التي سبق أن بعثت بها إليهم الإدارة الإيرانية أيام الرئيس الأسبق لإدارتهم اي الرئيس كلينتون عندما كتب كمال خرازي وزير خارجية الرئيس الإصلاحي المعتدل محمد خاتمي مقالة في ‘الواشنطن بوست’ يوم كان الطالبان في بداية صعودهم الأفغاني، دعا خلالها الأمريكيين للتعاون في الملف الأفغاني لعل في ذلك مجال اختبار لحسن النوايا بين العاصمتين الأمريكية والإيرانية”.

ولا أدري ما الحكمة في التذكير بالسقطة التي ارتكبها كمال خرازي حين دعا الأمريكيين للتعاون بالملف الأفغاني، والذي يعني فيما يعني التحالف ضد طالبان التي كانت في قمة صعودها في ذلك الوقت. وهو نفس الأمر الذي كرره وزير الخارجية الإيراني الحالي متقي قبل أشهر حين طار صوابه من مسعى التفاوض الأمريكي مع طالبان، فطار إلى باكستان ليحذر الأمريكان من هذا المسعى.

نحن نتفهم أن لإيران الدولة مخاوف من صعود طالبان إلى السلطة على حدودها لأسباب معروفة. لكن هل يعقل أن يصل الأمر حد تفضيل الأمريكان عليهم. هل يمكن تخيل من هو أسوأ من الأمريكان وعلى كل الصعد؟ وهل حوار إيران الإسلامية مع الشيطان الأكبر الأمريكي أسهل من الحوار مع الجار الأفغاني المسلم! وهذه سقطة تستوجب الخجل لا الفخر وقد وقع الكثيرون بها على الجانبين في العراق، وها هي تتكرر في أفغانستان. إن الأمريكيين يتقنون لعبة ابتزاز الخلافات السياسية والطائفية داخل العالم الإسلامي، فهم يلوحون بورقة الحوار مع طالبان ليبتزوا إيران، ثم يلوحون بورقة الحوار مع إيران ليبتزوا طالبان. تماماً كما لعبوا نفس اللعبة في العراق وكانت النتيجة أن طال أمد احتلالهم لهذا البلد بعد أن كان على وشك الانهيار. كما أورث الحقد والضغائن والجراح بين أمتين جارتين متآخيتين في الإسلام.

لقد بلغ خوف الأخ من أخيه لدى ملوك الطوائف في الأندلس حد انتصارهما ضد بعضهما بالآخر الغريب الذي كان يجهز مشروع إبادة للجميع، وكانت النتيجة ضياع الأندلس وإبادة سكانها العرب وترحيل ما تبقى منهم في أول تطهير عرقي عرفه التاريخ.

إن العلاقات بين الأمم المتآخية في الإسلام: العرب والأكراد والأفغان والفرس والأتراك..الخ لا تبنى على نظريات عنصرية، بل على علاقات الأخوة والمساواة. كما أن العلاقة بين الأمم المتآخية يجب أن تكون مُقدمة على غيرها، فلا يجوز الاستعانة بالأمريكي مهما تفاقمت الخلافات مع الأخ والجار لأن الأمريكي يجهز مشروع إبادة للجميع. وليس مما يدعو للفخر ولا هو مناسبة لإعلان النصر قبول الأمريكي الحوار مع العرب أو الأتراك أو الإيرانيين أو الأكراد، بل ما يدعو إليه هو حوار هذه الأمم مع بعضها ووصولها إلى قواسم مشتركة مشتقة من روابط التاريخ والدين والجغرافيا والمصالح المشتركة التي تجمعها، فهذه شعوب أصيلة أصلية كانت وستبقى وأما الأمريكي فهو الطارئ العابر وهو راحل مع نظرياته العنصرية. يجب على من يصارع الوحش أن يتذكر دائماً أنه ليس وحشاً مهما أظهر من قسوة أثناء الصراع، وإذا نسي يجب أن يوجد من يذكره بهذه الحقيقة لأن أكبر خطر يحيق بمن يصرع الوحش أن يتحول بدوره إلى وحش.

إن المهمة الأساسية للمقاومين هي بناء عالم جديد قائم على العدل والإخاء والمساواة لا أن يتقمصوا شخصية العدو العنصري الإبادي، فيكرروا مفرداته، ويتبنوا نظرياته، فيمارسوا تجاه جيرانهم ما كان يمارسه العدو تجاههم. فأي فائدة تجنيها البشرية على سبيل المثال من تحول العبد إلى تاجر عبيد.