الفلسطيني بين الإغتراب، الأنومي
الاقتلاع من الوطن واقتلاع الوطن المفترض من الذاكرة
(الجزء الثاني)
عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1856)
الحالة الفلسطينية بين الاغتراب والأنومي
حسب دوركايم، الأنومي هو تعبير عن تزايد الاستقلال الذاتي للذات الإنساني في كفاحه ضد قوى اجتماعية تعمل على التحكم به وانتزاع مصالحه[1] ” أو لنقل الميل، بل الانعطاف للاستقلال الذاتي عن هذه العوامل، وهو الانعطاف الذي كلما اشتد، قاد إلى الانتحار.
وفي حين يرى أوغست كومت أن هذا الفراغ الأخلاقي او الروحي ناشىء عن الطبيعة الموروثة/المتأصلة في تقسيم العمل، فإن دوركايم لا يرد الأمر إلى تقسيم العمل بل إلى غياب الإجماع الأخلاقي لتنظيم تقسيم العمل او تضبيطه…اللامسا واة الاجتماعية بما هي المصدر الرئيس الذي يهدد التضامن العضوي… ان فرضية دوركايم ان ظروفا عادية وتضامنا عضويا هي بحد ذاتها تنظم نفسها[2]“.
قبل قياس الأنوميتي على الحالة الفلسطينية، تُفيدنا مقارنتها بالاغتراب. فالأنوميتي كحالة شاذة، كصدمة من تغير حاد في تراتب الحياة، مثلاً تغيرات حادة في مجتمع صناعي[3]، وكدافع لذلك للانتحار، هي في أغلبها وصف حالات فردية لا جماعية. فليس الانتحار لهذه العوامل مسألة جماعية.
الاغتراب حالة أوسع لأنه يتحدث عن طبقة وليس عن أفراد في طبقة أو مجتمع، مع ان ماركس ودوركايم يتحدثان عن المجتمع الصناعي، لذا فالاغتراب اكثر انطباقاً على الحالة الفلسطينية. صحيح أن نتائج الأنوميتي هي التغير الحاد ولكن دوافعها ومناخها اجتماعي يُقاس طبقاً لظروف وتغيرات في الدولة الواحدة، أما التغير الحاد في حياة الفلسطينيين فكان لعامل خارجي تماماً لدوافع سياسية/قومية، أي أشمل ومختلفة بالطبع.
هناك في الأنوميتي خيارات غير الانتحار أو قبله، فإما ينتحر المرء وربما يتكيف، أما الحالة الفلسطينية كحالة لا خيار فيها للاغتراب الشامل سوى مواجهة العدو، بل إن التكيُّف خطير على المجموع بما هو تفريط بالحق الشعبي دون تخويل. ما جرى فلسطينياً، او ما هو مطلوب، محاولات خلق مشروع سياسي قومي مضاد لنفي الاغتراب.
يرى دوركايم أن الأنوميتي ناجم أساساً عن التغير الحاد، فهو ناجم عن تدهور الوضع الاقتصادي أو ناجم عن التغير الحاد بالثراء ولذا، فهو يراوح بين حدَّيْن قصوَوَيْنْ كل واحد منهما قد يقود إلى الانتحار.
أما الوضع الفلسطيني فهو باتجاه الحد الأول، التجريد المطلق من كل شيءـ ومن هنا هو في حد واحد وجماعي غير فردي.
قد يؤدي التأميم إلى الانتحار بما هو تجريد من ثروة ومن سلطان ومن قوة بمعنى السلطة الاجتماعية والسياسية والمالية والمعنوية، بينما في الحالة الفلسطينية هذا غير وارد. كما أن حالة التأميم لا تنطبق إلا على حدٍّ من حدَّيْ الأنومي لدى دوركايم، لأن التغير الذي يحصل لصالح الفقراء يكون مشجعاً لا محبطاً. ولكن في الحالة الفلسطينية يمكن ان ينتحر من فقد كل ثروته كثري، نتيجة الطرد.
أما ميرتون، فيقارب كل من دوركائم وماركس، وإن كان باتجاه دوركايم أكثر، فبدوره يطرح نمط انومي آخر، وهو انه في المجتمع الأميركي يمكن لمن يعمل بجد ان يصبح ثريا ، لكن لا تكون نتائج الكل متشابهة، اي لاتتطابق الإهداف مع الوسائل لكل واحد وهذا ما يسميه ميرتون انومي، وهذا يدفع البعض لاعتماد وسائل غير مقبولة، غير مشروعة، لتحصيل النجاح. (ص 534-35 من ويرسلي)
هنا تعاطى ميرتون مع الطبقة العاملة غالباً، وهذا ما يقربه من ماركس، لكنه يحصر الأمر غالباً، وإن مداورة، في الأفراد، ومن هنا دوركاميته، علماً بأنه يتحدث مثلهما عن المجتمع الصناعي، بينما الحالة الفلسطينية هي في مجتمع عالمثالثي. وهذا قد يفتح على قراءات في مركزانية طرح دوركايم وميرتون، وإلى حد قليل ماركس لأن ماركس تحدث عن اي مجتمع فيه اغتراباً بما في ذلك ما قبل الراسمالية، وهذا ينطبق أو ينسحب على غير أوروبا.
يرى ميرتون ان اعضاء الطبقات الدنيا هم الذين غالبا ما يميلون الى البحث عن النجاح باللجوء إلى الوسائل غير الشرعية لأن ما هو مفتوح لهم هو العمل الجسدي وهذا قليل العائد. تجدر الإشارة إلى أنه في الكساد الكبير في ثلاثينات القرن العشرين حصلت أعمال الجريمة المنظمة من الطبقات الفقيرة (جاري و جاري ص 21). بالنسبة لميرتون، فإن ابناء الطبقة الوسطى يميلون لكبح طموحاتهم كي لا يخرقوا الطقوس والعادات التي ينظرون لها كمقدسة. آخرون ينسحبون من المجتمع مبتعدين عن الوسائل الشرعية وغير الشرعية، ويتحولون الى مشردين مدمنين… وآخرون يصبحون ثوريين يحاولون تغيير النظام (ميرتون 1968:153).
لاحظ أن ميرتون يتشابه مع دوركهايم في معالجة حالات فردية، مع أن آخر حالة عنده لا تعني المعنى الثوري الحقيقي على اعتبار ان الثوري يقوم بذلك من أجل الجماعة. لذا، فإن تفكير ميرتون اللبرالي يمر عن هذه المسألة بنوع من الضبابية بقوله:
” أولئك الذين رفضوا القيم والوسائل التي اعتبر المجتمع تحققها شرعياً، يمكنهم النضال لاستبدالها بأهداف جديدة، بديلاً لتلك الموجودة[4]“
بالطبع، فإن ميرتون لا يُدرج الأغنياء في البحث عن وسائل غير شرعية. وهذا ما يُفرَّق أطروحته عن دوركايم، لأن أغنياء ميرتون هم جزء أساسي في النظام القائم وصياغة تطوراته، وهم يمكنهم طبقا لتوفر السلطة لديهم أن يُبدعوا او يصوغوا ما يغطي على أعمالهم ووسائلهم غير الشرعية لتعظيم الثروة. لنأخذ مثلاً ما جرى في الولايات المتحدة خاصة في حقبة العولمة، فقد اخترع الأغنياء ” صناديق التحوُّط” وهي مشاريع سرقة بالمليارات وظلوا تحت غطاء الدولة.
الثقافة كمدخل لتقريب الاغتراب من الحالة الفلسطينية
أود الانتقال هنا، أو التوسيع، باتجاه الثقافة، التي هي عمل الإنسان، وبالتالي فالتغريب عن العمل يشمل الثقافة ايضا، وبمفهومها الأوسع. ” المقصود بالثقافة حسب ت. س. إليوت في مؤلفه “ملاحظات نحو تعريف الثقافة” ، فالثقافة عنده طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. وتظهر هذه الثقافة في فنون ابناء هذا الشعب ، وفي نظامهم الاجتماعي وفي عاداتهم وأعرافهم، وفي دينهم. وطبقا لإليوت لا يكون اجتماع هذه الأمور، الثقافة وإن تكلم الكثيرون -للتسهيل – كما لو كان هذا صحيحاً. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن ان تُشرَّح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما كان الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء، المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب ان يفهمه جميعاً[5]“
كما أن قراءة تناوُل لوكاتش للثقافة والحضارة، تقدم ركيزة أخرى للاقتراب من الوضع الفلسطيني.
” عرَّف لوكاتش الثقافة كمعارض للحضارة باعتبارها طاقم او الأداة الموحدة لمنتجات قيمة والامكانات التي بدورها لا تنفصل عن علاقتها مع صَوْنْ او الحفظ المباشر للحياة. مثلا الجمال الخارجي والداخلي للمنزل… في تضاد او مواجهة مع تعمره (من العيش والبقاء طويلاً. ع.س) وقدرته على حماية ذاته[6]“
ورغم ان لوكاتش يتوقف في هذا المستوى عند تعرض الثقافة للتدمير على يد الانتاج الرأسمالي لصالح السوق وليس الإنتاج الإنساني للثقافة، وفي هذا يسير بالضبط على وقع خطى ماركس،، إلا أننا نحاول استخدام أو توظيف مساهمة لوكاتش في عملية تدمير الثقافة (هنا بمعنى الوجود والحضارة تحديداً التاريخ الفلسطيني المتصل، فالمتقطع، ثم محاولات وصله في الغربة بعيداً عن الجغرافيا المأخوذة عنوة، والعودة لها في الهدف النهائي) على يد النظام الراسمالي العالمي باسره.
وقد يفيدنا ما ذهب إليه ماركوزة، بما هو ابعد مما وصل إليه لوكاتش. يقول ماركوزة، وإن كان في نفس سياق توجه لوكاتش: ” هناك مفهوم عام للثقافة…وهو الذي يعبر عن تضمين العقل العملية التاريخية للمجتمع. فهي تميز كُلَّوِية الحياة الاجتماعية في حالة معطاة، طالما ان كلا مجالي اعادة الانتاج التخيلي (الثقافة، بالمعنى الأضيق، العالم الروحي) و إعادة الانتاج المادي (الحضارة) تشكلان وحدة ممكنة الفهم ومميزة تاريخياً”[7]
لعل هذا يفتح إمكانية اوسع لقراءة الاغتراب الفلسطيني الشامل كمشترك فلسطيني، ليس كحالة سياسية/شاملة شعبياً بحتة بل كحالة إنسانية ثقافية أيضا.
وبغض النظر عن التباعد بين التحليل الماركسي لمسألة الاغتراب، وربما كل المسائل وبين التعريف القواميسي، فإن تعريف جاري و جاري، الذي ذكرناه أعلاه، يقدمنا خطوة نحو الهدف.
“الاغتراب هو شعور الفرد بالغريبية عن حالة، جماعة أو ثقافة…الخ[8]“. وهذا يسمح بقراءة أوسع لوضع الفلسطينيين في تقاطعه كحالة مع الاغتراب. فالانتزاع الكلي للشعب الفلسطيني وتغريبه إلى مختلف بلدان العالم، جعل من الفلسطينيين حالة مركَّبة بمعنى:
□ أنهم غدوا غرباء بدرجات متفاوتة في كل مكان ألقت الطرقات بحفنة منهم
□ واصبحوا غرباء طبقاً لموقف أهل المكان واللحظة التي رُموا فيها هناك. فهم لم يُطردوا إلى مناطق خالية أو مشاعية، بل هي في عصر التبلورات القومية، عصر الدولة القومية العصرية، وحتى في الوطن العربي، فقد أُلقي بهم في تشكيلات قُطرية متخلفة وتابعة، قام مجرد وجودها على تفكيك المشترك القومي العربي الذي فلسطين جزء منه، بل هي على قمة أجندة التهرُّب القطري، رغم اللغط بأنها “قضية العرب الأولى”.
وهذا التبعثر المتعدد هو عامل نفي لتجميع الهوية او معيق لها مما يتطلب جهدا هائلا بأخذ مبادرات كفاحية بالسيف والقلم، بالكفاح وليس “الاستسلام”! ولذا، فما بقي مشتركاً بين الفلسطينيين هو العامل السياسي (الوطني/القومي) لأنه حالة متخيلة، أكثر مما هو تجسيدات على الأرض، هو محمول يمكن الانتقال به بعد الطرد من الوطن. وهذا يُمكَّن الفلسطيني من الحياة، هو حالة متخيلة اقيمت على وجود أرض لها صورتها التي تشكل مدخلا لاستعادتها.
إذا كانت الثقافة إذن خلقا إنسانياً من خلال العمل، فإن ثقافة اي مجتمع هي من خلقه، وعليه، يكون طرد الفلسطيني من وطنه هو عملية تغريب عن الثقافة ايضا، ونقصد بالثقافة هنا مجموع الوجود والعمل التاريخي ماديا وروحيا في المكان وليس فقط في التاريخ كزمان، للشعب الفلسطيني في وطنه، كما هو حال اي شعب آخر في وطنه. ولو حاولنا دفع التحليل إلى مداه، لتبين لنا عمق التغريب الفلسطيني حيث أنه بعد التغريب الاقتلاع المقصود به اقتلاعاً ابديا وجماعياُ، عن الوطن، عانى الفلسطيني من اغتراب متعدد.
يساعدنا توسيع ماركس لمفهوم التغريب حيث يوصله من تغريب الفرد عن عمله إلى فقدان الإنسان لأنسنته، يساعدنا على قراءة الوضع الفلسطيني المغرَّب كليته وعموميته فلا ينحصر فقدان الأنسنة في تشيؤ جهد العامل، أو إن تشيؤ الجهد ليس الجانب الوحيد هنا ندخل فلسطين والاغتراب ليس وسائل الإنتاج والإنتاج نفسه والجهد وإنما عن وسيلة البقاء الأولية الوطن وحق التواجد حتى في المكان الجنسية، وفرص حتى الانتماء، الهوية.
فخلال عملية الاقتلاع من الوطن، صار مقتلعاً حتى من اي مكان، بما هو زائد عن حاجة المكان الذي لجأ إليه، بل هو حالة من التعْدية في نظر النظام السائد في كثير من أماكن اللجوء، وحتى لدى الكثير من الطبقات التي تتضرر مصلحياً من وجوده، أي شكَّلت استعادته لذاكرته ، المُقاوِمة” تحدٍ لمصالحها وارتباطاتها. وفي القطريات المتخلفة التي تعامي البطالة المقنّعة إلى جانب العادية، شكَّل الفلسطيني، بما هو مضطر لأي أجر منافساً.
على المستوى الجمعي، كان هناك تفكيك للبنى: الجغرافيا، قطع التاريخ-الامتداد الزمني، تدمير الاقتصاد ووراثة الموجودات، تفكيك البنى المجتمعية طبقيا وبطريركيا والبنية النَسَبِية القرابية، الثقافة وفي النهاية توظيف هذا كله لتقويض الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني التي وحدها بقيت أو تبقت فرصة الحفاظ عليها من الاستلاب والاحتلال إلا بمشروع إعادة هندسة وتفكيك ثقافي وإعادة تثقيف من أجل استدخال الوعي للهزيمة، وهو ما جرى الشغل عليه لاحقاً. ومن هنا معنى أن تصبح الذاكرة الجمعية ميداناً الصراع بين افتراضين:
□ افتراض المخيال الشعبي لحق العودة والنضال من أجله بغض النظر كيف من البندقية وحتى الحنين والأنين الفردي.
□ وافتراض المعسكر المعادي بدءاً من المركز الرأسمالي فالصهيونية فالكمبرادور العربي والفلسطيني كذلك.
فحين يغدو الصراع على الذاكرة، لا بد يتخذ شكلا أكثر تعقيداً، هو الاغتراب والتغريب مكتنفاً الثقافة ووسيلة العيش -استراتيجية البقاء، والنشاط السياسي العلني وخاصة السرَّي تفادياً للقمع البوليسي… انه مركَّب وأكثر تعقيدا من الطرد بالقوة والمقاومة بالسلاح. فالذاكرة هي الوطن المفترض الذي يرفض التشيؤ فرديا وجماعياً. من أجله وبسببه يقول المستعمِر وأعوانه وحلفاءه مشكلتنا كيف نجتث الذاكرة بما فيها من صورة ومتخيِّلْ.
الأمر الهام هنا هو أن هذه البُنى الجمعية في الحالة الفلسطينية لم تكن كالبنى التي تحدث عنها فوكو، (تجميع أركيولوجي) متجاورٍ وغير متفاعل بل إن هذه البنى تتفاعل حية وتتماسك عبر اشكال متعددة، وإن كانت مفككة احياناً تحت الضربات، عبر الكفاح السياسي الوطني والقومي والاشتراكي في اوساط الشعب الفلسطيني بغض النظر عن تحقق فرص الانتصار وعن طبيعة القيادات. بل إن شدة المعاناة الفلسطينية قد خلقت إلى جانب النوستالجيا، وهي حالة عالية من التخيُّل، قد خلقت حالة من الفوقية في أوساط بعض المثقفين الفلسطينيين، تجاه العرب. وهي حالة من خلط النظام الرسمي بقيادة الكمبرادور وبين المواطن العربي من جهة، وذلك بالحديث التهكمي عن “عنتريات العرب القومية” كما كتب فيصل دراج وغيره، ومن التعويض الفلسطيني عن عدم الانتصار من جهة أخرى ناسباً الهزيمة إلى ضعف العرب! ولعل اخطر الخلل في قذف اسباب الهزيمة/الهزائم ضد العرب كامن في أمرين:
الأول: عدم تمكُّنْ هؤلاء من الإمساك بالاقتصاد السياسي من جهة وبالتحليل المادي التاريخي من جهة ثانية، باختصار، اي عدم الإحاطة بطبيعة وجوهر النظام العالمي الذي يفسر العلاقة بين الكيان الصهيوني وهذا النظام، للتوصل إلى حقيقة أكثر أهمية وهي أن هذا الكيان لم يكن ليوجد لولا وجود النظام العالمي، وبالتالي فحرب العرب مع الكيان هي مع المركز الراسمالي مباشرة، مما يجعل احتمالات الهزيمة عالية ما لم تُكنس الأنظمة العربية بثورة الطبقات الشعبية.
الثاني: أن المثقف الفلسطيني بقي اسير عمالته للقيادة/ السلطة الفلسطينية التي حصًّنت نفسها دوماً بحزام ناسف من المثقفين لا يتم تفعيله إلا لخصي الوعي الشعبي والتفسير المادي للصراع. وقد تم لها ذلك عبر تمويل مؤسات ثقافية لليمين واليسار لاحتواء مثقفي الطرفين، وهو ما حصل، إلا باستثناءات من رحم ربي في زمن رفع الله فيه الرحمة من الأرض وحصرها في السماء.
ومقابل التفاؤلية القومية العربية المتهمة بالعنتريات، هناك الإفراط في الواقعية إلى درجة الاستسلام من قبل الشيوعية التحريفية التي اعتبرت الاعتراف بالكيان الصهيوني مبادرة خلاَّقة ومساهمة فكرية سياسية لا يتقنها سوى اصحاب الوعي المتقدم بالتاريخ، مثلاً “استسلام ما بعد حداثي”! وكأن التاريخ هو اللوح المحفوظ وليس خلق الناس!
ها نحن إذن أمام محاولات تقريب الواقع إلى الصورة بمعنى إمكانية هزيمة قريبة لعدو معولم، وبين خلق مسح الصورة والقبول بواقع مفروض بما في ذلك من عدم الأنسنة، تسليم الوطن للعدو واعتباره جاراً، وهو أمر يعني شاء اصحابه أم أبوا، أن هذا المستوطن راقٍ إلى درجة الشعور بشرف التبرع له بالوطن. هو الاستقواء بالضعف إذن!
وقد يكون الأمر المفارق في هذا المستوى أن الموقف الشيوعي الأممي الكلاسيكي الرخو الذي رافق هزيمة 1948 واستمر في أحفاد هذا التيار، قد “برعم” عربياً في البرجوازية الكمبرادورية في النظام العربي بدءاً بمصر 1978، فالبرجوازية الفلسطينية[9] ومن ثم البرجوازية الأردنية وعديد من البرجوازيات العربية، حيث تسللن جمعاً من تحت إبط الزمن أو طاولته، وبالتالي تم تلاقي بدل الطلاق بين:
□ الحركة الشيوعية المفترض أنها ضد راس المال بأنواعه، ضِدِّية هي بالضرورة والقطع.
□ وبين برجوازية كمبرادورية هي لا وطنية بالمصلحة ، برجوازية تلتقي مع البداوة في الاستعداد للرحيل لأنها تاجرة متنقلة وجاهزة للهرب[10]! وهكذا ظل الاغتراب الفلسطيني نزعا ما بين موقفين او تصورين، رغم اختلاف وتبدل العقائد والموافق الطبقية لكل فريق، فهي لا تزال قائمة حتى اليوم، بل اتخذت عام 2007 حالة القتال المسلح وهو ما زال يحول دون موقف موحد رغم عمق الاغتراب ووجود المشترك العالي فيه.
وعلى المستوى الفردي، اصبح الفلسطيني مغرباً، يعاني انفصامه الداخلي كفرد، (وهذا يفتح على قراءة هيجل في الاغتراب النفسي) بمعنى توفر قدرته واستعداده للعمل المأجور، لكن دون وجود فرص لذلك، وهو انفصام بيولوجي يولد له ابعاداً نفسية وثقافية ، وقد اتخذ اكثر من اتجاه في حقبة ما قبل 1967/ منها:
□ الانطواء والشعور الممرور
□ أو التمرد واللجوء إلى تحصيل الرزق بالتسلل إلى الأرض المحتلة 1948 “التسلل” إلى الداخل لأخذ ما يمكن من متاع تبقى في المنزل المهجور، وسرقة بيوت ومزارع المستوطنين وهي الأشكال الأولى التي اتخذها الفلسطينيون بعد 1948.
□ أوالمقاومة سواء مجموعات العقيد الشهيد مصطفى حافظ من قطاع غزة، أو من الضفة الغربية وسوريا بقيادة عبد الحميد السراج.
مع تفكيك التشكيلة وتدميرها ومن ثم التبعثر الشعبي الاجتماعي/الجماعي اغترب كل في مكان وأخذ التبعثر /الاغتراب حالة توزع طبقي بعد صدمة الطرد الأولى 1948. فقد هاجرت النخبة المالية العليا إلى الغرب ولا سيما إلى البلد المستعمِر، بريطانيا، حيث كان هؤلاء قد ادخروا فوائضهم المالية ولم يستثمروها في فلسطين ما قبل 1948. كيف لا، فلم يكن لديهم مشروعاً نضالياً استقلالياً في الأساس، ربما لأنهم كانوا يعرفون أن الصراع هو مع عدو بضخامة النظام العالمي، أما هم فالوطن بالنسبة لهم هو الرصيد البنكي وليس بقعة الأرض، ولا الاستثمار بالطبع. وقد يكون للتعلُّم فواعله السلبية في هذا الصدد حيث أدرك هؤلاء طبيعة العلاقة بين المركز الإمبريالي والصهيونية، وهي علاقة شعروا أن لا ٌقِبَلَ لهم بها! نعم هذه حدود وطنية راس المال وخاصة غير القومي الإنتاجي.
اما التكنوقراط (بالمعنى النسبي) فقد استوعبتهم بلدان النفط العربية وخاصة في الخليج لكي تبرز منهم مع الزمن وخاصة في أعمال المقاولات شريحة راس المال المالي الفلسطينية والتي تقاطعت في النهاية مع قيادة م ت ف في مشروع التسوية كما اشرنا أعلاه، وانتهت قبل ثلاثة أعوام بتوقيع اتفاق تشكيل مجلس الأعمال الإسرائيلي الفلسطيني أي التطبيع العلني بما يناقض المشروع الوطني وحتى مشروع التسوية في دولة في حدود 1967!. أما الأكثرية الشعبية فهامت حيث أخذتها الرياح لا سيما نحو اقرب الأماكن، اي شرقي فلسطين (الضفة الغربية لاحقا)، وقطاع غزة ثم القطريات العربية المحيطة شرقي الأردن، ولبنان وسوريا والعراق بشكل أقل. لكن التبعثر ازداد بعد التوازن النسبي الذي حصل إثر صدمة الطرد الأولى، فتفرق الفلسطينيون اكثر إلى بلدان أخرى في العالم والتي قام قسم منها بإغراء الفلسطينيين بالهجرة إليها لا سيما اميركا الشمالية[11].
لقد أُستغل جزء من قوة العمل هذه راضٍ بأجر الكفاف. ومن وجد من هؤلاء عملاً كان اغترابه عن جهده مروعاً، حيث عمل لدى مغرَّبين فسطينيين من الطبقة السياسية التي تحالفت مع النظام الأردني[12] ضمن تقاسم سياسي للنكبة، فأقطعها النظام أراض في الأغوار لتقوم بتشغيل قوة العمل الفلسطينية اللاجئة في ظروف شديدة القسوة وبأجور ضئيلة جداً، وهذا يندرج ضمن الاغتراب الذي تحدث عنه ماركس ولكنه مضاعف هنا، حيث تمكن مغرّب طبقي، ومن الشعب نفسه بالطبع، من استغلال آخر! وبالتالي فالاستغلال الأعمق الذي تعرض له، وضعه في حالة تغريب أشد، وهذا اغتراب نفسي ووطني كذلك. والمهم هنا أن هذا الشعب بأكمله تحول تقريباً إلى العمل المأجور، وإن بدرجات أو تدرجات، إنما تم اغتراب الجميع.
لم يصبح مجمل اللاجئين بروليتاريا بالمفهوم الكلاسيكي، بل نمطا خاصا من الناس بلا مكان، بلا هوية بلا جنسية وفي حالة اللجوء للمقاومة تجري مطاردتهم ليستقر المقاومون في المكان الأكثر ضيقاً والأشد غربة، في المعتقلات.
[1] Alan Swingewood, A History of Sociological Thought, Macmillan, 1984:119
[2] Alan Swingewood, A History of Sociological Thought, Macmillan, 1984: 115
[3] درس دوركايم الأنومي بما هو يقود إلى الانتحارص 121 سوينجوود، مصدر سبق ذكره بالإنجليزية.
[4] Merton, R. 1968, Social Theory and Social Structure, Free Press, quoted in Worsly, 19 :536)
[5] مقتطف في مقالة د. حازم خيري ، الثائر الأنسني فرانز فانون يعزَّي الآخرية، انظر موقع “كنعان” على الرابط التالي:
[6] Dictionary of Marxist Thought, edited by Tom Bottomore, Blackwell, 1983: 110
[7] Bottomore, 1983:111, quoted from Marcuse, Herbert, Negations: Essays in Critical Theory. 1968:94.
[8] Sociology, the Harper Collins Dictionary, David Jary and Julia Jary, 1991:13.
[9] ارتكز تمرير اتفاق اوسلو، قبل ان يفيق الشعب من غفلته، ارتكز على ثلاث شرائح برجوازية فلسطينية، هي (1) البرجوازية البيروقراطية وهي قيادة م.ت.ف التي تبرجزت عبر وضع يدها على المقتطعات الضريبية التي فرضتها دول النفط العربية على العاملين الفلسطينيين هناك، وتبرعات الأنظمة العربية لتخريب المقاومة بالمال، والجبايات التي كانت تجبيها قيادات هذه المنظمة من المغتربين الفلسطينيين في الشتات. والشريحة الثانية (2) هي شريحة التعاقد من الباطن Sub- Contract المحلية وهي التي دخلت في شراكة مع برجوازية الكيان باكراً منذ عام 1968، و(3) الراسمالية المالية الفلسطينية التي انتفخت اساساً في الخليج، والشتات. وهذه الشرائح الثلاثة هي التي توجت دورها في “سلام راس المال” في مجلس الأعمال الإسرائيلي الفلسطيني الذي تكون قبل ثلاث سنوات مؤكداً تطبيع راس المال واغترابه هذه المرة بالسالب عن الارتباط الوطني. وقد ارتكزت هذه الشرائح على مثقفي التسوية، او مثقفيها العضويين وهم جناحان: (1) الجناح اللبرالي الغربي (المتخارج غرباً) ممثلاً في الكثير من الأكاديميين المحليين، و(2) شريحة مثقفي اليسار الذين انخرطوا في منظمات الأنجزة، ويشكلون اليوم شريحة ذوي الدخل أو العائدات غير المنظورة. أنظر بهذا الصدد كراس: أزمة مالية- سياسية: راس المال يعيد اصطفاه الطبقي، عادل سمارة منشورات المشرق للدراسات الثقافية والتنموية- القدس 1993.
[10] يسود في الأكاديميا البريطانية الاعتقاد أن البرجوازيات العربية، وخاصة النخبة الحاكمة، بما هي معزولة عن الشعب، فهي مرشحة حين الثورة للهرب في اسطول طائراتها إلى الغرب كما فعلت برجوازيات الصين، كوريا الشمالية وفيتنام! لقد اقامت هذه البرجوازيات في الولايات المتحدة مدناً خاصة بها داخل المدن الأميركية، فمثلاً، تجد في في مدينة لوس أنجلوس في كاليفورنيا مدناً بتسميات (China town, Korea town) أي المدينة الصينية، الكورية الفتينامية…، وهي مدن بطابعها وبضائعها كأنها من بلدها الأصلي. لكنني أستبعد أن حكامنا سينجحوا حتى في إقامة هكذا مدناً، على أمل فرارهم القريب!
[11] طبقت الولايات المتحدة ولا تزال “كوتا” لإدخال مهاجرين فلسطينين إليها يسميها الفسطينيون “العِدِّية”، وهي أن يسجل المرء نفسه لدى القنصلية الأميركية، وينتظر أن يحصل على البطاقة الخضراء بالقرعة ذات يوم ليهاجر ومن ثم يحصل على الجنسية الأميركية.
[12] See Adel Samara, Palestine: From Historical De-classing To a Stand-by Regime
http://www.kanaanonline.org/articles/01244, 1247 and 1254.pdf