باريس والقيادة العسكرية الأطلسية

نصر شمالي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1857)

بعد ثلاثة وأربعين عاماً من الانسحاب أعلنت الحكومة الفرنسية بلسان الرئيس ساركوزي أنّها قرّرت استرداد عضويتها في القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، الأمر الذي يثير التساؤلات حول أسباب انسحابها من هذه القيادة قبل عشرات السنين وحول أسباب عودتها اليوم. وإذا كان من السهل ربّما فهم أسباب الانسحاب من قبل الذين ما زالوا يتذكّرون، فإنّ فهم غير الفرنسيين لأسباب العودة اليوم، في هذه الظروف الدولية الشديدة التعقيد، قد يكون صعباً، أمّا بالنسبة لكثير من الفرنسيين بالذات فيبدو القرار غير مقنع!

الحلف الأطلسي حلف أميركي!

لقد نهض حلف شمال الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي خرجت منها الحليفات الأوروبيات الغربيات، خاصة بريطانيا وفرنسا، ملطخة بالدماء ومدمّرة على نطاق واسع، وغارقة في الديون لصالح الولايات المتحدة التي مكنتها الحرب من الاستئثار بمعظم الإنتاج العالمي وبمعظم الكتلة النقدية الدولية، حتى لقد بدا كأنّما هي الدولة الرأسمالية الوحيدة التي خرجت من تلك الحرب منتصرة! وهكذا جاء تشكيل حلف شمال الأطلسي قبل حوالي ستين عاماً كتتويج للانتصارات الأميركية المتعدّدة، وكمنظمة عالمية وظيفتها توفير القاعدة الأممية لخدمة الإمبراطورية الأميركية الناهضة! وبالفعل كانت الهيمنة الأميركية شبه مطلقة على الحلف الأطلسي الذي لم تقتصر مهامه على الجانب العسكري، بل شملت جميع فروع حياة أعضائه، حتى الأدبية والفنية والإعلامية، وكيف لا يكون الحال كذلك وحصة الولايات المتحدة في الحلف، بشرياً ومادّياً، تفوق بكثير حصة جميع شركائها فيه، فهي تتحمّل معظم أعبائه الداخلية والخارجية؟ أي أنّه نهض بصفته حلفاً أميركياً في الواقع!

تصدّي ديغول للهيمنة الأميركية!

في تلك الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة كانت ألمانيا التي تبخّرت جميع أحلامها الإمبراطورية (وهي أحلام الولايات المتحدة بالضبط لا أكثر ولا أقلّ) مهزومة ومستعمرة، أمّا بريطانيا (المنتصرة) فبدت كأنّما هي مستعدّة أن تكون ولاية من الولايات الأميركية لولا ضرورة وفائدة بقائها جزءاً من القارة الأوروبية، وأمّا فرنسا فقد كانت لوحدها، لأسباب عدّة لا مجال لعرضها هنا، تمتلك قدراً من شروط الاستقلال النسبي عن الولايات المتحدة، وهو ما عبّر عنه الرئيس شارل ديغول بقرار الانسحاب الشجاع من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي عام 1966! غير أنّ قرار ديغول لم يتعدّ الجانب العسكري، استناداً إلى كونه يمثّل دولة نووية، لكنّه لم ينسحب من هيئات الحلف الأخرى التي لا يسمح له استقلاله النسبي بالانسحاب منها على الفور، وراح يسعى لإقامة علاقات مباشرة متكافئة بين فرنسا وكلّ من الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، ويتحدّث عن خصوصية المنطقة الواقعة ما بين الأورال والأطلسي. لقد كان يتطلع إلى مكانة لائقة لفرنسا في قيادة النظام العالمي. وبالطبع لم يكن ذلك بالموقف الذي تسكت عنه الولايات المتحدة، خاصة بعد أن وجّه نقداً شديداً للإسرائيليين بعد حرب عام 1967، فكان أن عاجله الأميركيون في العام 1968 بضربة سياسية داخلية مخاتلة لم ينهض بعدها كشخص أبداً حتى وفاته!

ولكن لا بدّ من القول أنّ الرئيس شارل ديغول، وهو أحد أبرز قادة النظام الرأسمالي العالمي، لم يكن يعترض على خلق الكيان الإسرائيلي من حيث الأساس، بل هو أحد الذين ساهموا في خلقه، لكنّه كان يعترض على تحوّله بعد الحرب البريطانية الفرنسية الفاشلة ضدّ مصر عام 1956 إلى قاعدة شبه مغلقة للأميركيين، على حساب المصالح الفرنسية خصوصاً والأوروبية عموماً! كذلك هو كان يؤمن بحاجة النظام الرأسمالي العالمي للولايات المتحدة القوية، ويفهم أنّ الخلاف معها يجب أن لا يتجاوز حدّا معيّناً، فإذا تعرّضت للخطر يتوجّب عليه الوقوف إلى جانبها ظالمة أو مظلومة، لأنّ هزيمتها تعني هزيمة تاريخية للمعسكر الرأسمالي الغربي بمجمله!

زمام التاريخ ينتقل إلى آسيا!

اليوم يقول الرئيس ساركوزي أنّ الوقت قد حان لإنهاء وضع فرنسا خارج القيادة العسكرية للأطلسي، وأنّ فرنسا بعودتها بعد ذلك المسار الطويل سوف تكون أكثر قوة وتأثيراً، وسوف تكون في المكان الذي تتّخذ فيه القرارات، وسيكون لها موقعها بين القيادات الحليفة مع المحافظة على قوتها النووية المستقلة الرادعة..الخ! غير أنّ هذا الكلام العام الفضفاض لا يشير بوضوح إلى أسباب محدّدة ملموسة، ولعلّ ما يخطر في البال أنّ الرئيس الفرنسي يتوقّع أن يملأ فراغاً في القيادة الدولية خلّفه انكفاء الولايات المتحدة بسبب حرب العراق، بل هو أعلن بالفعل قبل حوالي عام، على لسان وزير خارجيته كوشنير، أنّ الوضع الدولي بعد الحرب العراقية لن يكون أبداً كما كان قبلها، وأنّ تقهقر الولايات المتحدة هو حقيقة قائمة، وأزمتها يصعب التكهّن بنهايتها، فإذا كانت حساباته تقوم على هذا الأساس فهو واهم بالتأكيد، لأنّ فرنسا لا تستطيع تحقيق ما عجزت الولايات المتحدة عن تحقيقه، خاصة بعد نهوض كتلة العشرين الدولية، المكوّنة من الدول الرأسمالية التاريخية التقليدية السبع، مضافاً إليها ثلاث عشرة دولة ناهضة يعترف الأميركيون بقدراتها المالية والعسكرية الهائلة التي تحققت بهذا المستوى العالي من الجدارة لأولّ مرّة في تاريخ العصر الأوروبي/الأميركي، فإذا كان ثمّة فراغ دولي خلّفته واشنطن فليست باريس المؤهلة لشغله، وإذا كان ثمّة موقع للتأثير في مجريات السياسة والأحداث الدولية فهو لم يعد مقتصراً على القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي. إنّ زمام التاريخ ينتقل إلى الشرق، إلى آسيا خصوصاً، وينبغي على الفرنسيين وغيرهم متابعته هناك، ولعلّ مثل هذه المتابعة هي الشغل الشاغل للبراغماتية الأميركية اليوم!

ns_shamali@yahoo.com