المسألة القومية…توظيف الدولة القطرية ضدها… وعدوان النظام المصري على حزب الله (الحلقة الأولى)

عادل سمارة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1871)

في المسألة القومية

ما المعيار الذي يمكن اعتماده لتحديد إن كان تجمعاً بشرياً ما يشكل أمة أم لا؟ وهل يمكن اعتماد اياً من التفسيرات أو المخططات النظرية لتعريف امة ما ؟ ومن هو المفكر، و/أو المدرسة التي يمكن الركون إليها واعتماد تفسيرها للأمر؟ وما علاقة الإيديولوجيا بهذه المسألة، بمعنى أن وجود إيديولوجيات قومية شوفينية وأخريات لا؟

أسئلة كثيرة تثار في هذا الصدد وقد جرى ولا يزال الاختلاف في إجاباتها.

بعيداً عن التلمذة الأكاديمية من بلدان المحيط وخاصة مثقفين وأكاديميين عرباً، وبعيداً عن الأستذة الغربية على المحيط ، سواء من اليمين الإمبريالي، أو اليسار “الإمبريالي” ايضاً، فهناك اسس قاعدية لمسألتي الأمة والقومية لا تخضعان لهذا التعريف أو ذاك.

فالأمم موجودة منذ القدم، وهذا خلاف لزعم أن الأمم بدأت في أوروبا مع عصر راس المال، وعليه، لا يرتبط وجود الأمم الأقدم من أوروبية بوعي أمم أوروبية لوجودها ومصالحها القومية على حساب المصالح المقاطعاتية لإمارات الإقطاع التي كانت معيقة للدولة القومية، بقيادة الملوك في حقبة انتقال أوروبا من الإقطاع إلى الراسمالية. وحتى في أوروبا نفسها، وهي حالة وسيطة بين العالم القديم آسيا وإفريقيا وبين العالم الحديث (وهذه مسألة نسبية بعد الكشوفات الجغرافية) فهناك أمم قديمة بالمعنى الاسيوي مثل اليونان والرومان. وما نقصده تحديداً هو تفكيك المبنى الفكري الأوروبي الذي يحاول منظروه حصر الفكر العلمي عند بدايته أو ما يسمى بالمركزانية الأوروبية التي تنسب الحداثة لأوروبا، بمعنى انها لا تتحدث عن الحداثة الأوروبية بل عن الحداثة كأوروبية حصراً. والمقصود بهذا التفكيك هو تدمير هذا المبنى كأوروبي، وإعادة بنائه من كل أمة طبقاً لظروفها.

لذلك يكتسب بناء الدولة في العراق منذ ستة آلاف سنة أهمية كبرى في فهم التاريخ، تاريخ الأقوام. ولا يقلل من ذلك وحشية الراسمالية الأميركية وخبث الكيان الصهيوني في تدمير هذا الحضور التاريخي من أجل نهب ثرواتي ومن أجل تثبيت كيان لن يكتب له التاريخ عمراً مديداً حيث يقوم على القوة المجردة ليس أكثر. فالجهل بالتاريخ في الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش التي دمرت العراق، وتواصل التدمير بقيادة أوباما، لا ينفي ان التاريخ قائم، وتدميره محال.

ما يهمنا في هذا الصدد وجود أمم قديمة كانت لها مقومات الأمة، التي لا تزال تشكل اساس تحديد ، ولا اقول تعريف، معنى الأمة، وفي الأساس من هذا وجود ارض للشعب والشعب عليها، يبني عليها مقومات بقائه، استراتيجيات بقائه، ويدير شؤونه، ويحمي موارد رزقه، وينتج مأكله وملبسه، ويقيم مساكنه ويطور هذه وتلك ليكوَّن في النهاية ثقافة خاصة به، تكون مزيجاً من طبيعة العمل والسكن والتفكير والشعر والفلسفة والتدين…الخ.

وبحكم الوجود الجغرافي هذا، وجود الحيِّز، والتجاور الجغرافي كذلك حيث تتلاقى وتتلاقح وتتصارع الأمم مع بعضها البعض، سواء من أجل المصالح، حالة الإمبراطوريات، أو من أجل المتاجرة حالة مختلف الأمم وليس الإمبراطوريات فقط. وهذا ما يعطي التاريخ البشري اكتماله من حيث جدلية التطور داخل الأمة الواحدة وجدلية العلاقة/تجارة/ صراع مع الأمم الأخرى. هذا إضافة إلى وجود قبائل المابين، اي المجموعات البشرية الرعوية التي لم تشكل امماً مستقرة، كالقبيلة العبرية التي سُحقت في مجرى التاريخ لهذا السبب بالذات، ولم يُعثر لها على معالم حقيقية بمعنى أن ما هو موجود هو إيديولوجيا تحاول صناعة أمة! فالبعض يزعم أنها ذابت في مصر أو في فلسطين أو في الجزيرة العربية، وهذه أمور متروكة لعلماء الأركيولويا ليحددوا كم في المئة من الرواية الأسطورية التوراتية يقترب من الرواية التاريخية. ويكفي ان نشير فقط إلى أن علماء آثار يهوداً توصلوا ويتوصلون أكثر إلى أن لا وجود لما تسمى دولة أو دولتي اليهود في فلسطين. وهذا يدعم التحليل العلمي الذي يؤكد وجود معتنقين لديانة يهودية، وليس قوماً يهوداً.

لعل الفارق الأساس بين الأمم القديمة والأمم الحديثة هو في الوجود التاريخي المتواصل في الحيز الجغرافي، في الإنتاج الحضاري والثقافي وفي الصراع التاريخي بالطبع. هذا ما نلمسه بوضوح حين نقرأ علاقة الأمة العربية كأمة قديمة بالأمم القديمة الأخرى المحيطة بها وخاصة الفارسية والإثيوبية، وإلى حد ما التركية. وهذا الذي ينفي مجرد التفكير به اي معنى للرواية التوراتية المليئة بالخرافات.

موضوع الأمة، يفترض مباشرة موضوع الأرض إذن. وهذا ما يطرح السؤال الأكبر من الكيان الصهيوني بكثير، اي ما هي شرعية مختلف المستوطنات البيضاء رغم حجمها ورغم ثقلها الاقتصادي وتقدمها الصناعي؟ هل هي أمم بالمعنى التاريخي وبمعنى الوجود والتطور الطبيعي للأمم في التاريخ، أم هي أمم مفتئتةً على التاريخ، قامت على اسس غير واقعية، بمعنى على أرض غيرها، وغير إنسانية بمعنى ذبح الأمم الأصلية. في هذه القائمة تندرج الولايات المتحدة الأميركية وبشكل خاص نواتها الأنجلو-ساكسون بروتستنانت، وكندا واستراليا ونيويزلندا والبيض في جنوب إفريقيا، وبالطبع مختلف التجمعات البيضاء في أميركا اللاتينية الذين بدأ الأصلانيون مؤخراً يرغمونهم على دفع ضريبة التاريخ، كما في بوليفيا وفنزويللا والتشاباس في المكسيك. وفي الذيل من كل هذا، أُكذوبة “الأمة اليهودية” اي المستوطنين اليهود في فلسطين والذين ما زالوا يستوطنون ويأتون للاستيطان ويسمون أنفسهم أمة على مرأى من كل علماء التاريخ في العالم، وهو أمر لا يثير الرفض ضد هذا المشروع بقدر ما يثير الاحتقار للعلماء والأكاديميين والساسة الذي يصرون على أن هناك من كل هؤلاء أمة يهودية!.

بدون الأرض الشرعية، لا تكون الأمة معطى حقيقياً، بل تكون حالة احتلال حتى وإن تقادم الزمن على الولايات المتحدة مثلا لمدة 230 سنة، وهي التي لم تتمكن من البقاء إلا لأنها ذبحت ذبحاً شبه تام الأمة الهندية الحمراء هناك!

وقد تفيد الملاحظة هنا، أن دول الاستيطان الأبيض تجمعها ثقافة مشتركة خاصة. هي جميعاً عدوانية بالطبيعة، وتلعب الدور الأساس في تخريب السلام بين الأمم، فهي وارثة الدور العدواني لراسمالية المركز الأوروبي الذي ما زال يشيخ رغم تجمعه الدفاعي داخليا والعدواني خارجياً (في الاتحاد الأوروبي)، وهذا راجع إلى ثقافة المنشأ كثقافة عدوانية قاتلة بمعنى أنها تجمعات إبادية أبادت الأمم القديمة في الأرض التي احتلتها واستوطنتها. ويجمع بين هذه الدول مواقف مشتركة ضد الأمة العربية وتحديداً ضد الشعب الفلسطيني وفي دعم الكيان الصهيوني والقتال حتى نيابة عنه[1].

إلى جانب الأرض كأساس، يأتي الإمتداد الزمني، التواصل في الزمن، الحضور في التاريخ ليكمل جدلية المكان والزمان اي الحضور في الجغرافيا وفي التاريخ. بل لا يكون للمكان معنى، إذا لم يكن له تواصله كحامل لمجتمع بشري زمنياً. لكن هذا التواصل حتى لو امتد، لا يكتسب شرعية تاريخية ولا إنسانية إذا كان المكان مغتصباً، ومضمخاً بدماء الأمم المبادة أو المطرودة، وهذا ما يعطي المكان ، الحق في الوجود في المكان، الأهمية والأسبقية بل الدور المقرر.

قد يجادل البعض هنا، أن هذا التقوُّل بامتلاك المكان هو فكر برجوازي يقوم على الملكية الخاصة، وأن لا علاقة أو اساس له بالفكر الاشتراكي. وقد ينقسم من يتقولون هكذا إلى أكثر من فئة: ماركسيون حرفيون لا يفرقون بين الوجود المجتمعي العام وبين الملكية الفردية الحصرية، أو ماركسيون صهاينة، يرفضون بشكل مصطنع فكرة الوطن ويستبدلونه بالمكان، أو باممية المكان لكل إنسان، وهذا قول افتراضي لا مكان له في واقع البشرية الحالي حيث يموت عشرات آلاف الأفارقة وهم يحاولون التسلل من تحت الماء ليعملواعبيداً في اوروبا. بينما يرى هؤلاء الماركسيون في الكيان الصهيوني الذي اغتصب أرض فلسطين كياناً طبيعياً.

والسؤال هو: في عصر الدول القومية، وراس المال، لماذا تُجاز الملكية الخاصة بمعنى قيام عدوان استيطاني بترك مكانه أو أماكن عيشه ومن ثم طرد شعب والحلول محله، ثم اعتبار مطالبة الشعب بوطنه : “موقفاً غير اشتراكي ومطالبة بملكية خاصة”. فإذا كان الوطن حتمياً للحياة في هذا العصرعليه، فالأجدر به أهله. وإلى حين تحول كل الأوطان إلى أمكنة، يكون هناك عالم مختلف، ولا خلاف فيه.

يترتب على الوجود في الحيز/امتلاكه، والتواصل في الحيز/ الزمان المعنى الحقيقي لوجود الأمة تاريخها مبلوراً في ثقافتها، وهذا المعنى يكتسب قيمته، كما اشرنا أعلاه من الإنتاج المعيشي والثقافي المتواصل والمتراكم وهوما يسميه الكثير من المفكرين، اللغة، والعادات، والطموحات، وأحيانا الدين كمشتركات للأمة…الخ .

أما الحلقة الهامة الثالثة بعد الوجود المكاني والامتداد الزماني، فهو العلاقة بروح العصر ورؤية المستقبل، بمعنى، ما هي المصالح المادية لمجتمع معين، لأمة معينة وفي مرحلة تاريخية معينة؟ وطالما نحن في عصر راس المال المعولم، والأهم طالما نحن في عالم سمته الأساسية مجتمعات مبلورة طبقياً، ما هي المصلحة المادية لكل أمة، وما هي المصالح المادية لكل طبقة في الأمة الواحدة؟

فليست المصلحة المادية لأمة معينة في حقبة تاريخية معينة، هي دائماً جماعية ومشتركة لمختلف طبقات، هذه أو تلك، الأمة، وإلا لما كانت هناك اهمية ولا دور للطبقات، ولما كان التاريخ سجِّلاً للصراعات الطبقية. وهذا يعيدنا ثانية إلى الأمة والطبقة في الفكر الاشتراكي. وفي الماركسية تحديداً. وفي هذا الموضع أو المكوِّن الأساسي الثالث للمسألة القومية يمكننا الدخول إلى جوهر المسألة القومية العربية، لكي نجادل بوضوح وثبات بأن المشروع القومي للطبقات الشعبية في الوطن العربي، عربية وغير عربية هو مشروع وحدوي واشتراكي لأن هناك مصلحة مادية للطبقات الشعبية في الوحدة والتطور والتنمية وصولاً إلى الإشتراكية. وهذا ما يتأكد به ومنه الطلاق الواضح بين الطبقات الشعبية وبين البرجوازية الكمبرادورية الحاكمة التي هي تجزيئية وتابع.

وإلى أن نعود لمناقشة هذا الأمر مجدداً ولاحقاً، تجدر الإشارة في هذا الصدد، أن الذين ينسبون إلى الأمة العربية، وتحديداً إلى القومية العربية نزعة شوفينية واضطهادية، إنما يرمون من وراء ذلك خدمة البرجوازيات المحلية التابعة وسادتها/حلفائها من برجوازيات المركز والصهيونية. فالطبقات الشعبية في الوطن العربي خاضعة لاحتلال طبقي محلي، ولاستعمار أجنبي بمحتوياته الاستطانية والعسكرية وبالتبادل اللامتكافىء المحمي بقوة السلاح. وهو ما يجعل من الطبقات الشعبية العربية قوة حركة تحرر وطني وليست أمة/طبقة شوفينية عدوانية. وإذا ما كان الأعداء هؤلاء يقيسون على القمع الذي مورس تحت شعار القومية العربية، وباسم الأمة العربية، فهذا لا يقلل من حقيقة أن الطبقات الشعبية العربية، شأنها شأن نفس هذه الطبقات من الإثنيات والقوميات الشريكة في هذا الوطن، خاضعة لنفس القمع والاستغلال المزدوج، المحلي والعالمي (المركزي طبعاً).


[1] في حرب 1948 التي طردت الشعب الفلسطيني من وطنه كان معظم الطيارين، والمدفعية، أطباء العيون وقادة الدبابات…في جيش الصهاينة هم متطوعون من العديد من بلدان العالم وخاصة من بلدان المستوطنات البيضاء. وبالطبع، ما زال الأمر على حاله، أنظر، عادل سمارة، لاقتصاد السياسي للصهيونية، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2008. فصل موقع الصهيونية في الامبريالية والنظام العالمي ص ص 41-81.