عادل سمارة
الحلقة الثانية:
أمة تحت العدوان المستدام!
القومية المغتالة في أمة مغتالة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1872)
رابط الحلقة الاولى:
https://kanaanonline.org/?p=1028
قد لا تكون هناك حالة قومية في العالم تعرضت للتشكيك حتى بمجرد وجودها، وتعرضت لعدوانات فكرية وأكاديمية وعقيدية وعسكرية وثقافية…وألوان غيرها بقدر ما حصل ضد القومية العربية. هذا على صعيد أدوار الأطراف الخارجية، أما داخلياً، فالأمة العربية هي الوحيدة التي أُسقطت فيها الطبقات الحاكمة على قصور الحكم بالمظلات والتي قد تكون نهايتها امتطاء طائرات للخروج الأبدي حين تشتعل الثورة الحتمية ضدها حيث لم تترك اي خيار سوى وجوب التصفية النهائية لها.
والأمة العربية ربما الأمة الوحيدة التي رغم وجود الشعب (الأمة) قبلاً إلا أن الدولة لم تـأت أو لم تُبنَ على يد بُناة محليين كما هو الأمر الدارج عالمياً، بل تجهيز فريق حكم، اجهزة حكم بترتيب الاستعمار، وجرى تفكيك/تفصيل قطريات عربية لكل فريق وتنصيبه عليها.
رغم أن الأمة العربية هي من الأمم القديمة، والتي شهدت في تاريخها الطويل تكوين دولة وإمبراطورية، إلا أنها تخلفت في موجات القومية الثلاثة على مستوى العالم، تخلفت عن مختلف الأمم الأخرى في تشكيل دولتها الواحدة مما فتح باب المزاعم بأن هناك أمماً عربية[1]. وهذه الموجات هي:
1) في عصر القوميات في أوروبا في القرن التاسع عشر، كانت الأمة العربية خاضعة في معظمها للاستعمار التركي، والذي كان يحكمها باسم الإسلام والخلافة[2]…الخ. ومن المفارقة أن الضعف والوهن الذي تعيشه الأمة العربية اليوم ولاسيما على يد الطبقات الحاكمة من جهة، وقطاع واسع من مثقفي السلطان من جهة ثانية، هذا الضعف يغري تركيا الحالية بمحاولات إعادة سيطرتها، ولكن هذه المرة عبر هيمنة إيديولوجيا الخلافة[3]،، وكأن تلك الخلافة كانت مفخرة حريات ونمو للعرب، أما الهدف فتصريف المنتجات التركية في سوق واسع يستهلك ولا ينتج!
2) وبدوره أرسى اتفاق سايكس-بيكو أسس تجزئة الوطن العربي بحيث لا يتحد ولا يتطور، وهذا كان اساس الدولة القطرية التي لم تتولد محلياً، بل اقامها المستعمِر. وعليه، فإن الأمة العربية كانت من الأمم التي لم تعش مرحلة الموجة القومية الثانية، التي غطت فيها حركات التحرر الوطني الفترة من ثلاثينات إلى سبعينات القرن العشرين. فقد تم تمرير اشكال هجينة ورخوة من الاستقلالات مما حال دون تبلور أنظمة جذرية تم قيامها على فعل ثوري يهز بدوره الثقافة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. لقد كانت حالات قليلة هي التي شهدت نضالاً حقيقياً ضد الاستعمار (الجزائر واليمن الجنوبي)، ولكنها :
أ) من جهة أولى اتت إلى المسرح في فترة اكتمال التقسيم والتجزئة القطرية العربية، فلم يكن امامها سوى أن تجلس في المربع المفصل لها كقطريات جديدة.
ب) كما أنها، أي النضالات الاستقلالية الجذرية، لم تحصل في اقطار عربية كبيرة يمكن أن تلعب دور الدولة المركزية في توحيد اقطار أخرى.
ت) هذا ناهيك عن أن اية محاولة لمشروع بسماركي عربي كان الاستعمار والأنظمة القطرية التي اقامها له بالمرصاد.
3) إضافة لتلك التطورات السلبية، بل وتأسيساً عليها، أصبح الوطن العربي من أول المناطق في العالم التي يتم فيها تطبيق إحدى الاستراتيجيات غير المعلنة للإمبريالية في حقبة العولمة، وهي رفع سياسة “فرق -تسد” إلى مستوى التفكيك والتذرير، “تذرير المحيط وتركيز المركز”. تجلى ذلك في اختلاق الموجة القومية الثالثة وهي موجة قوميات جديدة، في غالبيتها مقودة من نخب برجوازية مرتبطة بالأجنبي. كانت بواكير ذلك محاولات تشكيل دولة للموارنة، أما التنفيذ العملي فجاء في حقبة العولمة كما يتم في العراق (كردستان الصهيونية) وليست كردستان حزب العمال الكردستاني، ومحاولات تفتيت السودان، وتحريك قيادات طائفية من القبط، ونخب برجوازية من الأمازيغ، والطوارق…الخ[4].
شهد هذا المناخ جدالات ووجهات نظر على صعيد العالم بأسره بخصوص المسألة القومية العربية، بمعنى أن المسألة القومية العربية كانت ولا تزال مفتوحة للتدخلات من مختلف الاتجاهات عالمياً.
فالكتلة الإشتراكية، كانت مأخوذة في موقفها من الأمة العربية بمسائل ثلاث:
الأولى: التفسير الدوجمائي لطرح ماركس غير المكتمل بشأن المسألة القومية. فمن المعروف ان ماركس لم يطور نظرية متكاملة من المسألة القومية كما لم يفعل ذلك أيضا كلاسيكيو الماركسية. وهذا ما جعل تعامل الشيوعيين والاشتراكيين الذين عالجوا المسألة القومية تعاملاً مرتبطاً بقراءة غير معمقة ولا مكتملة وغير مقصود بها التشكيلات المحيطية في حقبة ماركس وحتى ما بعده. وهذا يرتد الى فشل الكثير من الماركسيين المتواصل في التقاط هذه الأمور وحتى في قراءة طرح ماركس للمسألة بشكل دقيق.
رغم ان كتابات ماركس نفسه عن القومية ضئيلة إلا أنه جلَّس كتاباته هذه ضمن سياق تاريخي مناسب وعملي.
كتب ماركس:
” ورغم انه ليس في الجوهر، وإنما في الشكل، فإن نضال البروليتاريا مع البرجوازية هو بدايةً نضال قومي. يجب على بروليتاريا كل بلد، بالطبع، في البداية ان تحل المسائل مع برجوازيتها[5]“
وكتب كذلك:
” يلام الشيوعيون على الرغبة في إلغاء البلدان والقومية. فليس للعمال وطناً. فليس لنا ان نأخذ منهم ما ليس بيدهم. وطالما ان على البروليتاريتا اولاً ان تمسك بالسلطة السياسية، فإن عليها ان تصعد لتكون الطبقة القائدة للأمة، عليها ان تشكل هي بنفسها الأمة، لذا، حتى هذا الوقت هي منتمية قومياً، وإن كان ذلك بخلاف المعنى البرجوازي للكلمة[6]“
وفي تعقيبه على ثورة كميونة باريس كتب ماركس:
” لم تتعرض وحدة الأمة أبداً، لأي تهديد، ولكن الأمة كانت ستنظم بموجب دستور الكميونة. ففي مختلف نداءاتها إلى سكان المناطق الفرنسية، فإن الكميونة طلبت من الكميونات الفرنسية الأخرى الالتقاء في أمة تتحد فدرالياً بحرية، مع كميونة باريس، من أجل تنظيم قومي تخلقه الأمة الفرنسية بنفسها للمرة الأولى في تاريخها[7]“
لكن المفهوم السائد بين الماركسيين عامة عن القومية ظل مأخوذاً بمقولة ماركس “القومية أداة بيد الطبقة البرجوازية” ( خاصة حينما تكون في السلطة)، وهو ما انتهى بهم إلى موقف مرتبك وفاشل من المسألة القومية بزعم أنها تخدم مصالح هذه الطبقة. وبالطبع، جاء زمن، لم تعد فيه البرجوازية قومية ولا حتى وطنية في العديد من بلدان العالم. لم يكن يعرف ماركس في زمانه طبقة برجوازية كمبرادورية، ولا نقول تجارية. فرأس المال التجاري كانت له اليد الطولى في الاستثمار في البدايات التصنيعية والتحول إلى راسمال صناعي، أقصد في اوروبا. والتجارة البعيدة كان لها دور رئيس في انتقال أوروبا من الإقطاع إلى الراسمالية. ورغم ان النظام العالمي كان في عصر ماركس منقسماً بوضوح إلى مركز ومحيط، إلا أن صورة المحيط كانت لا غباش عليها، كان المحيط مجرد مستعمرات محكومة وتابعة ومتخلفة.
لكن موجة القومية الثانية التي تجسدت في استقلالات بلدان المحيط، حملت إلى السلطة هناك اشكالاً مشوهة من النظم التي يسميها كثير من الماركسيين الغُلاة في رفض القومية، يسمونها الدول القوموية، في نقد لمبدأ القومية الاستقلالي عن الغرب الإمبريالي وعن الشرق البيروقراطي والطامح إمبريالياً كذلك، أكثر مما هو نقداً لتبعيتها أو عدم دمقرطتها، وغالباً ما قُصد بها الأنظمة العربية ذات التوجه القومي في العراق ومصر وسوريا.
تجاوزت الأنظمة الرسمية في الوطن العربي موجة القومية الثانية دون أن تتطور حتى إلى قطريات مستقلة فعلاً، بل إن الأنظمة فيها، أو في أحسن الأحوال غالبيتها، كانت ولا تزال تحت سيطرة طبقات حاكمة من الكمبرادور، هي نفسها بالمعنى المجازي مستورَدة (بمعنى أنها معينة ومدعومة من العدو الاستعماري، فلا هي منتخبة ولا تنموية ) وبالتالي، فإن إيديولوجيا الاستيراد بالمطلق هي ديدنها. وليس هذا لتبرير عدم وصول ماركس إلى توقع هذا اللون من الطبقات.
ما اقصده هنا هو أن بلدان المحيط جلبت إلى الصورة السياسية والنظرية ظاهرة “إجهاض ضخم”، حركات وطنية ضد الاستعمار تحولت حين وصلت الحكم إلى طبقات غير ذات مصلحة قومية/وطنية، اي برجوازيات غير قومية. فهي نعم بلا تطور ولا تنمية ولا سوق يغريها بحمايته لأنها ليست إنتاجية لتفعل ذلك، وبالتالي لا داع لاستخدام القومية لحماية والسيطرة على السوق المحلي، فالسوق المحلي هو مرتع لمنتجات الأجنبي، فتحميه من أجل مَنْ إذنْ[8].
والسؤال هو: إذا كان ماركس لم يشهد هذه الواقعة، واقعة وجود طبقات برجوازية غير قومية، لأن بلادها ليست مستقلة ولا صناعية، فهل يجوز لنا تخطي الحدود التي وضعها ماركس على الماء؟ لنقول إن القومية في المركز غيرها في المحيط، والقومية لدى الطبقات الشعبية غيرها لدى البرجوازية؟ نعم يجوز لنا ذلك.
وهذا الاختلاف لا يرتد إلى العرق أو الدين أو اللون أو الجغرافيا، وإنما بشكل اساسي يرتد إلى التطور الاقتصادي الاجتماعي وما تنشأ على كتفيه من مصالح مادية هي التي تحدد للطبقات مواقفها وسياساتها.
إذن لا بد من قراءة لموقف الطبقات الشعبية من المسألة القومية. قراءة غير مركوبة بموقف مسبق من المسالة القومية، لا سيما في حقبة التحرر الوطني، وما بعدها إذا كانت حقاً هي حقبة تحرر وطني فعلاً، تناقض تلك القراءة المغلقة لأفكار ماركس نفسه من المسألة القومية كما اشرنا اعلاه.
من هنا كانت قراءة العديد من الحركات الاشتراكية والشيوعية في الوطن العربي للمسألة القومية من مدخل الموقف المعادي عبر خطيئة إجراء مطابقة بين المسألة القومية، وبين الطبقة البرجوازية. لقد كان هؤلاء محفوزين بأكثر من اختلاط فكري نظري. فمن جهة اعتبروا انفسهم ممثلين للطبقة العاملة، وحتى (البروليتاريا) في بلدان أكثرية سكانها من الفلاحين وحتى البدو، ولا يعدو سكان المدن أل 20% ناهيك عن أن تلك المدن لم تكن مراكز صناعية كما أن نمط الإنتاج الراسمالي لم يكن مهيمناً في تلك التشكيلات. وأبعد من ذلك، فقد كانوا احزاباً شيوعية في بلدان ما تزال تحت الاستعمار أو شكلية الاستقلال، مما يؤكد تشككنا في مصداقية مقولة ” ما بعد الاستعمار”.
وربما كان تخلف البرجوازية السياسي الوطني والقومي من العوامل التي شجعت الشيوعيين على عدم أخذ المسألة القومية بالاعتبار طالما هي منسوبة إلى هذه الطبقة.
لكن، دوراً معيناً لعبه الواقع الموضوعي في هذا المستوى، وهو أن هذه الأحزاب نبتت في بيئة التجزئة القطرية، مما وضع مثقفيها او مفكريها في بيئة مشوهة، بمعنى، وجود واقع قطري متهالك وتابع للاستعمار، مما أغرى بالبحث عن كعبة للحج إليها، فكانت الاتحاد السوفييتي الذي اخذ يصدر إلى هذه الأحزاب تنظيرات جاهزة مفادها :” أن الأمة العربية أمة في طور التكوين”. وهذا الواقع القطري المشوه هو نفسه الذي حجز عن هؤلاء الشيوعيين أهمية العمق القومي وضرورة النضال من أجله وليس ضده ولو على الأقل من باب أن انتصار ثورة اشتراكية في قطر صغير وشديد التخلف، هو أمر بلا أفق، بينما الاشتراكية دائما تتطلب لنجاح مشروعها الاجتماعي الاقتصادي كتلاً كبيرة.
وهكذا وقع هؤلاء ببراءة بين فقرهم الفكري الذي لا مناص منه في بلدان لم تنفتح على الفلسفات والثقافات ولا على التطور الصناعي، وبين تتلمذهم على الاتحاد السوفييتي وتحديداً في فترة نشوة الانشغال في البناء الصناعي للاشتراكية ومأزق الضبط الفكري أو فرملة التطور الفكري الحر للنظرية الشيوعية، هذا ناهيك عن جهل السوفييت أنفسهم بالمنطقة تاريخاً وواقعاً، ووقوعهم تحت مؤثرات الحركة الصهيونية لا سيما من فرزتهم “كجناح يساري”. فمن كان سيعطي بالاً كبيراً لتطوير اناس يأتون للتتلمذ وليس للحوار؟ ومن هنا كان دور “الاتحاد السوفييتي المعلِّم” الذي لا يُناقش! لذا، يقرأ من يتابع تلك الفترة أطروحات عن النضال الأممي للعمال العرب واليهود في فلسطين!، والعمال اليهود ليسوا سوى مستوطنين مسلحين وفاشيين!
ورغم تفكيك الوطن العربي، ورغم التخلف الذي كان يهيمن فيه، إلا أن النخب العربية كانت دائما مع الوحدة العربية، وكلما حصلت الطبقات الشعبية على فرصة التعبير عن نزوعها للوحدة، كانت تؤكد ذلك بوضوح وهي الأمور التي لم يتمكن الشيوعيون العرب آنذاك من التقاطها. فإنه بمقدار ما كانت الجماهير اقل ثقافة، وتتحرك بحسها الطبيعي، كانت القطريات لم تتمأسس بعد، وهذه كانت فرصة حقيقية لتمزيقها لو توفرت الأداة الشيوعية الثورية ذات البعد القومي من جهة، والبعد المنطلق محلياً من جهة ثانية، لنقل بدرجة أو أخرى ذات منهج ماوي. أما اليوم، فالجماهير اكثر وعيا ووضوحا، ولكن النخب مخروقة بالقطرية التي تتسلح بأحدث تقنيات القمع والتفكيك؟
كانت قمة الاستخفاف بغير علم في موقف الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين أو الطرح الستاليني الذي اعتبر الأمة العربية “أمة في طور التكوين”، واعتبر في الوقت ذاته أن الكيان الصهيوني سيكون قاعدة للاشتراكية في المنطقة. مأخوذا بحركة الكيبوتصات التي كانت مصيدة لليهود ذوي النزعة اليسارية الذين لم يكن لهم ليصمدوا ضمن مشاريع خاصة سواء يقيموها أو يقيمها غيرهم من الراسماليين. لكنهم كانوا يهوداً وصهاينة، أما الاشتراكية فكانت صيغة من النوع الرديىء الذي يذوب مع الندى، فما بالك بالغسيل. اما هذه الكيبوتصات، فكانت مختبر خداع الكثيرين من يسار العالم الأبيض والعنصري كذلك، ولولا عنصريته لفهم أنه يتعاطف مع مستوطنة بيضاء. وهذا يعني أن تضمُّخه بالعنصرية والمركزانية الأوروبية كان اقل تاثيراً عليه من الفكر الاشتراكي.
إستند التحليل الستاليني على أن القطريات العربية لا تشكل سوقاً واحدة كي يعتبرها أمة، ولم يدرك المحللون هناك أن هذه المنطقة كانت في طور الإعاقة القسرية من الخارج وليست مفتقرة إلى السوق الرأسمالية بطبيعتها أو “بإصرار” منها. ولعله في منتهى الغرابة أن يفشل مركز الشيوعية العالمية في قراءة واقع منطقة تخضع للإمبريالية وتُدمج كتابعة في السوق العالمي، ويُقيم المركز قاعدة له في قلب هذه المنطقة. من هذا الجانب بالتحديد، يمكننا استنتاج كم كان المركز الاشتراكي متخلفاً وراء المركز الراسمالي ليس في التكنولوجيا وحسب، ولكن كذلك في الوعي، وهذا يفتح على قراءة أدق لأسباب هزيمته.
ليس مقصدنا هنا هو النقد السياسي وحسب، بل الاستغراب من عجز المركز الشيوعي عن فهم النظام العالمي وهذا خلل في الفهم النظري! فكيف يمكن أن يتوقع من مستوطنة بيضاء تحتل وطن شعب آخر بالقوة أن تقيم دولة إشتراكية؟ ومما يزيد الأمر غرابة أن كل ذلك تم في الفترة التي كانت الولايات المتحدة تصعد خلالها لقيادة العالم بعد أن ألقت القنبلة النووية على هيروشيما وأخرى على ناجازاكي!
يقودنا هذا الحديث إلى مختلف اصناف اليسار الغربي، بألوانه السوفييتية، والتروتسكية، والاشتراكية الديمقراطية حيث وقفت جميعاً وإلى وقت قريب جداً داعمة ومتحمسة ومتطوعة لهذا الكيان[9]. وإذا كان الاتحاد السوفييتي السابق قد اعترف بالكيان، وسمح للتشيك بإرسال باخرة تحمل اسلحة للصهاينة ولاحقاً زود الكيان بمليون مستوطن مؤهلين تماماً للاستعمار والقتل، وحافظ على علاقات معهم إلى وقت بعيد، وبقي على موقفه الرافض لإزالة هذا الكيان، فإن بقية القوى اليسارية الغربية ركزت على علاقات مستمرة مع هذا الكيان وكانت عناصرها “تحج” إلى الكيبوتصات وإن قلَّت مؤخراً[10].
لعل التفسير الأقرب لهذا كامن في ثقافة ماركسية مشوهة، ومركزانية غربية (اورو-أميركية) بيضاء، تعتبر أن الغرب هو عالم الله المختار، وأن هؤلاء العرب البدو الرحل لا يستحقون سوى أن يطيروا كالغبار من قارة إلى أخرى!
وعليه، فإن النقد الصارم الذي نوجهه كعرب إلى الطبقات الحاكمة في الغرب الراسمالي يجب أن لا يغمض العين عن وجوب نقد اشد ليسار هو في جوهره إمبريالي، وما زال يحاول ان يكون “معلِّماً لنا”. وكل يساري عربي لا يقف حديَّاً هكذا من هؤلاء يكون في الحقيقة من أولئك الذين يتمسكون بدونية سمراء أمام تعالٍ أبيض زائف[11].
إذن السوق القومي للبلد الراسمالي المصنَّع هو وحده الذي تسمح الستالينية بموجبه لأمة أن تكون أمة، وأن تكون لها حقوقاً. ولا شك أن في هذه القراءة تأثر بما كتبه كل من ماركس وإنجلز عن الهند والجزائر حيث أجازا الاستعمار بوهم أنه سوف يُطوِّر تلكم البلدان. ولكن الخطأ الأخلاقي لدى مؤسسيْ الماركسية، إلى جانب الفقر المعلوماتي آنذاك، تكرر في حالة الاتحاد السوفييتي بعد قرن كامل. كان إذن على الأمة العربية أن تدفع ثمنين لافتقارها إلى سوق موحدة ومصنعة ومرسملة معاً. ثمن الاستغلال من المركز الراسمالي وثمن تضامن مركز الكتلة الاشتراكية مع هذا الاستغلال! ولأنها لم تكن قد خلقت لنفسها سوقها الخاص والموحد على اعتبار أن وجود السوق الراسمالي اساسي في تبلور الأمم فهي برأي هؤلاء الاشتراكيين تستحق الموت. هكذا نُظر إلى عراق صدام حسين في القرن الواحد والعشرين، بأن شعباً لم يتمكن من إسقاط نظام لا ديمقراطي، مهما بنى وطور وأنجز هذا النظام، شعب كهذا يجب أن تذبحه الولايات المتحدة مثل خروف العيد، ويبدو أنه ذبحها بدوره بالمقابل بتسبب الأزمة الممولنة فيها وفي العالم… هل هي لعنة الشرق المقدس الراسخ في التاريخ؟
طبقاً للستالنية، فإن الأمة، كي تستحق هذا الوصف، يجب ان تكون قد دخلت حقبة التطور الصناعي الراسمالي كي تُعتبر أمة. وهو الأمر الذي يتجاهل وجود أمم ما قبل عصر راس المال اساساً، وحتى وجود أمم كانت إمبراطوريات. أما فيما يخص الاتجاهات أو الألوان الماركسية الأخرى، فإن مستعمرة بيضاء من تجميع قطع غيار من مئة قوم، ولأنها بدأت كجزء من المركز الراسمالي المتقدم وكقاعدة ومنطلق عدوان على المنطقة، فهي تُعتبر بنظر هؤلاء الماركسيين “أمة” وتفضُل أمة العرب بأسرها.
وهذا التعريف بالسوق والصناعة لأمة معينة، يحصر المسألة القومية تماماً في الطبقة البرجوازية مما يجعلها مجرد صناعة برجوازية، ويجرد الطبقات الشعبية من هذا الأمر، وهذه هي قراءة ماركس المحصورة أوروبياً في فترة معينة، هي فترة ما أُسمي هناك عصر القوميات، القرن التاسع عشر، وهو نفسه التفسير الحرفي للقومية لمن أتوا بعده، ولا سيما معظم الأجنحة التروتسكية[12] التي تتخذ مواقف معادية بالمطلق من القومية وخاصة من القومية العربية.
لا يسعنا قراءة هذه المواقف المتشددة والمبالغ فيها من القومية قراءة بريئة وساذجة. فمن منطلق دور النظام العالمي وانقسامه الحاد إلى مركز ومحيط، فإن ما ينطبق على القومية في المركز المستعمِر لا يمكن تطبيقه على القومية في المحيط المستعمَر. فالأولى معادية وتوسعية واستعمارية بحكم مصالحها الممتدة والمتطلعة إمبريالياً بما هو ابعد من حدود الدولة القومية. ومن هنا، فإن القومية سلاح في يد الدولة البرجوازية القومية على أرضية الاستعمار وحتى فرز الاستيطان الأبيض. وفي الحقيقة نحن نتحدث عن سلاحين توظيفهما مختلفاً:
□ هناك سلاح استغلال الطبقات الشعبية في البلد نفسه، وهو هنا سلاح طبقي، ليس بالضرورة أن نسميه قومي، على اعتبار أن القومية تُستثار أكثر حين يتم تحديها من الخارج. فالسلاح هنا هو الملكية الخاصة التي تتحكم بها البرجوزاية ولا تكتفي بالسوق القومي طالما يتزايد جانب العرض في الاقتصاد بينما يُقصِّر عنه جانب الطلب في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية في الدولة القومية.
□ وهناك سلاح القومية بالمعنى المصلحي الذي تستخدمه البرجوازية لتجنيد وتطويع والهيمنة على الطبقات الشعبية، وذلك بخطاب شوفيني بالطبع، كتبرير للتوسع ونهب الآخرين.
باستخدام البرجوازية للمسألة القومية لصالحها، تصح قراءة المسألة القومية طبقاً لموقف كل طبقة منها. بمعنى أن هناك قوميتين في كل مجتمع:
ـ قومية الطبقة البرجوازية، القومية الحاكمة
ـ وقومية الطبقات الشعبية، القومية الكامنة.
وهذا الانقسام ينطبق على كل من المركز والمحيط. فالفهم والاستخدام أو التوظيف البرجوازي للقومية في أوروبا الغربية تحديداً التي انتقلت إلى الرأسمالية مبكراً، هو الذي أوصل ماركس إلى استنتاجه الصحيح بأن القومية سلاح في يد البرجوازية، والذي هو حصراً في أوروبا الغربية آنذاك ذات الدول المستقلة والأمم التي اقامت الدولة القومية العصرية آنذاك، وبعد آنذك كما نرى. وليس شرطاً هنا أن ننسب إلى ماركس تعميم استنتاجه هذا على العالم، وإن لم يحاول هو حصره في أوروبا، التي كان خطأ استنتاجه الأساس والقائم على انبهاره ب :”ثورية” البرجوازية قد تجلى في أعتقاده بأن الراسمالية المتقدمة سوف تسحب معها المستعمرات إلى الرسملة.
وما زلنا في المركز، فكلما أُخذت الطبقات الشعبية هناك بهيمنة خطاب البرجوازية كلما تطابق موقفَيْ القومية الحاكمة والكامنة معاً، ويتم هذا ويكون سهلاً في المركز كلما كان الوضع الاقتصادي جيداً والطبقة العاملة عبر الحركة العمالية مرشية، مستفيدة من الدور الاستعماري للقومية الكامنة/الطبقة الحاكمة/المالكة، وهنا تكون الحركة العمالية مقزَّمةً إلى مستوى حركة نقابية. أما من ناحية ثقافية، فلا تكون هذه الطبقة أممية قط، بل تكون مخصية بما هي رانخة ومضمَّخةً بالمركزانية الأوروبية والموروثات الثقافية المتراكمة من تراث تنافس الأديان، وتراث عدوانات الفرنجة، وأطماع أمراء الإقطاع في إمارات في الشرق العربي، وعنصرية مثقفين وكتابا ومؤرخين امثال أرسطو وهيجل، وغيرهم، وصولا إلى مثقفي الطريق الثالث أمثال انطوني حيدنز والمحافظية الجديدة…الخ. وما اقصده هنا تحديداً هو وجوب مواجهة الطبقات الشعبية في الغرب بأن عليها التخلص من تراث وعبء العنصرية الموروثة عبر النضال الجاد للدفاع عن الأمم المضطهَدة، وهو ما نرى بواكيره في الحركات المناصرة للقضية الفلسطينية والمناهضة للحرب والعنصرية كمؤتمر ديربان الأخير (نيسان 2009).
إذن يكون هناك موقف أو فهم قومي موحد للمسألة القومية في اية امة كلما كانت في حالة أطماع، صراع، دفاع تجاه امم أخرى، وفيما خلا ذلك، فلكل طبقة فهمها القومي القائم على مصالحها المادية، بما هي طبقية وليست بالشرط قومية، والمحكوم بالإيدولوجيا التي تعتنقها, وهذا يعني أن طبقات شعبية في بلد معين تعتبر الاشتراكية إيديولوجيتها الحقيقية، ترفض أن تكون، في حالة تسلمت الحكم، قوة استعمارية. وعليه، فإن معيار ثورية الطبقات الشعبية في المركز كامن في قدرتها على الفكاك والطلاق مع موقف البرجوازية القومي تجاه المستعمرات وحتى تجاه علاقات التجارة الدولية المكثفة في التبادل اللامتكافىء.
وتنقسم القومية في المحيط كذلك إلى شِقين بالطريقة نفسها: هما القومية الحاكمة والقومية الكامنة.
فالقومية الحاكمة، ونموذجها في الوطن العربي صارخ، هي الخطاب المنافق قومياً الذي تتبناه الطبقة الحاكمة في القطريات العربية وهي الطبقة التجارية/الكمبرادورية التي أحياناً تتحالف مع راس المال البيروقراطي لأنظمة الإنقلابات العسكرية فيستطيب ويستسهل التحول إلى كمبرادور. ترفع هذه الطبقة شعار القومية، لكنها تمارس القطرية المطلقة، متجلياً ذلك في التركيز على النشيد الوطني، الراية الوطنية، الحدود…وأخيرا هذا القطر أو ذاك القطر أولاً.
في فترة الاستعمار تكون الطبقة البرجوازية، إما خاضعة وإما مقاومة. في حالة المقاومة، يكون نضال البرجوازية في المحيط نضال “حلال” طالما أنه محاولة إنهاء سيطرة الاستعمار على البلاد. وحتى لو كان مطلب برجوازية المحيط التحكم بسوقها القومي لاحقاً، فهذا لا يدمغها بدمغة الشوفينية القومية وإنما يؤكد طبقيتها وتحفيز نفسها لاستغلال الطبقات الشعبية المحلية، وهنا يكون الصراع الطبقي مشروعاً فيها كما هو مشروع في المركز.
لكن اللافت، أن الصراع الطبقي في المركز طالما تم التجاوز عليه بآليات هي اساساً تصبح آليات ممكنة لخصي نضال الطبقات الشعبية لأنها اي هذه الآليات تضمن تدفق الفائض من المحيط إلى المركز، مما يرشي الطبقة العاملة هناك.إذن، فإن النضالات القومية في المحيط ضد الاستعمار ومحاولات تجريد برجوازية المركز من تثبيت نفسها عبر استخدام فوائض المحيط هو نضال تقدمي، بل يشكل رافعة لنضال الطبقات الشعبية في المحيط.
[1] راجع تنظيرات حزب العمال الشيوعي المصري وتمفصلاته في أكثر من قطرية عربية. ما هو لافت أن فرع هذا الحزب في الأوساط الفلسطينية، وبناء على قاعدة التفكير أن ليست هناك أمة عربية واحدة انتهى هذا الفرع إلى الذوبان في أضعف قطرية عربية، أي منظمة التحرير الفلسطينية، حيث ذاب جناح منه في حركة فتح وشكل جناح آخر منظمة فدا التي لم يبق من ماركسيتها غير التشدد ضد الإسلام، والمهم أن كل هذه المنظمة انتهت مع أوسلو.
[2] وبعيداً عن الدخول في نقاش هل يحق للعثماني أن يكون خليفة، أن أن الخليفة يجب أن يكون من قريش، أو على الأقل عربي، فإن النقاش الأساسي أن الدولة العثمانية جعلت من الوطن العربي منطقة متخلفة، وحين هُزمت العثمانية حافظت على دولتها، وتركت مصير هذه المستعمرات للاستعمار الغربي. ولأن تركيا كانت هي المركز، فقد كان واضحاً ان المحيط العربي كان متخلفا عنها حينما تفككت هذه الامبراطورية بفعل الحرب الاستعمارية الأولى.
[3] لا غرابة إذن حين نسمع محللين سياسيين وأكاديميين اتراكاً هذه الأيام يركزون هجومهم على القومية العربية بوضوح زاعمين أنهم يتحدثون باسم الدين وليس باسم الطورانية!
[4] كانت المرة الأولى التي لاحظت هذه التوجهات حين دراستي في بريطانيا في جامعة لندن، 1985، حيث الكثير من الدراسات التي تجادل بعدم وجود أمة عربية، والتي ربما من مؤسسيها برنارد لويس، وهي توجهات تفتح في التحليل الأخير على الداوئر الرسمية والمخابراتية لإمبريالية والصهيونية.
[5] Marx Engels, The Communist Manifesto. Ed, by Samuel J. Beer Appleston-Century-Crofts, Inc, New York. 1955.p.21
[6] Marx Engels, The Communist Manifesto. Ed, by Samuel J. Beer Appleston-Century-Crofts, Inc, New York. 1955.p.29.
[7] البيان الشيوعي، أول ترجمة غير مزورة، إعداد العفقيف الأخضر، منشورات جاليليو، القدس 1976: 108.
[8] حينما كنت أكتب هذه السطور، استمعت للمذياع بأن جورج ميتشل مندوب البيت البيض للإشراف على التسوية زار الجزائر والتقى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي دخل عقد زواجه الثالث من شعب الجزائر، ثلاث دورات انتخابية لا يحدها على ما يبدو سوى قرار الله قص عمره.
[9] أنظر الاقتصاد السياسي للصهيونية، 2008، مصدر سبق ذكره.
[10] See, Adel Samara, The New ÷nternational Order, in The Gulf War and the New World Order ed by Haim Bresteet and Nira Yuval Davis, Zed Books 1991, p.p.259-271.
[11] من المفيد الإشارة هنا إلى أن اليسار في الغرب حين يحاورنا، يحاول القفز على المسألة القومية تحديداً ليتهمنا بأننا قوميين ولسنا اشتراكيين، مع أن حقيقة الأمر معكوسة تماماً. فهذا اليسار الذي لا يثور بشكل جاد ضد أنظمة الحكم في بلاده وهي تذبح بلدان أخرى، هو في الحقيقة “قومي” بالمعنى البرجوازي. فالكثير من الحركات والأحزاب في الغرب أيدت تدمير العراق 1991 واحتلاله 2003. فهل كان هذا اطمئناناً بأن أميركا وبريطانيا وفرنسا والباقيات “اصالحات” كانت ذاهبة لدقرطة العراق؟ بيت القصيد هنا هو أن هذا اليسار في الغرب، لا يجرؤ على التفكير بأن هناك تطور في المسألة القومية أوسع مما اشار ماركس، وأن هناك رؤية للقومية العربية غير ما تزعمه الصهيونية والنخب غير العربية “المتخارجة الانتماء غربياً” من الأقليات غير العربية التي اقلياتها شريكة لنا في الوطن العربي. إنهم يرفضون فهم أن الأمة العربية هي باسرها تحت الاحتلال.
[12] هناك محاولة جديدة لتشكيل حزب مضاد للإمبريالية يضم كثيرا من التروتسكيين ويحاول اتخاذ موقف متقدم تجاه فلسطين، لكننا لا نستطيع ان نجزم بعد بتخلصه من تراث معاداة الأمة العربية.