وفاة “الإتحاد من أجل المتوسط”

الطاهر المعز

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1876)

ملاحظة من “كنعان”:

يقدم لنا الرفيق الطاهر المعز في هذه المقالة الحلقة الثالثة من سلسلة تحاول التعريف ببعض المشاريع والبرامج الإمبريالية التي تستهدف الوطن العربي. ويمكن القارئ مطالعة المقالتين السابقتين على الرابطين التاليين:

1) ميبي: مشروع هيمني أمريكي في الوطن العربي

https://kanaanonline.org/?p=986

2) أفريكوم: مخطٌط امبريالي أمريكي في أفريقيا

https://kanaanonline.org/?p=954

* * *

السياق التاريخي

هذا المشروع الأوروبي، كان في الأصل فرنسيا، طرحه مرشح اليمين “نيكولا ساركوزي”، أثناء الحملة الإنتخابية، عام 2007، قبل أن يصبح رئيسا، وعرفه بأنه “كيان سياسي، اقتصادي، لضفتي المتوسط”.

هذا المشروع مستوحى بدوره من تقرير فرنسي، شبه رسمي، تم إعداده أواخر 2006، ونشر في أبريل/نيسان 2007، في عهد حكومة “دومنيك دو فيلبان” والرئيس “جاك شيراك”، أي قبل الإنتخابات الرئاسية، وسمي “تقرير ابن سينا”، هدفه، تقييم نقدي للسياسة الفرنسية في الوطن العربي وما حوله (من المغرب إلى أفغانستان، كما يقول التقرير، أي ما يسميه الأمريكيون الشرق الأوسط الكبير)، وتقديم مقترحات إلى “أصحاب القرار”، “من أجل الحفاظ على المصالح الحيوية الفرنسية، ودعم مكانة فرنسا، ليس فقط لدى الحكومات، وإنما كذلك، لدى أحزاب المعارضة، والمجتمع المدني والقوى الحية في تلك البلدان…”، ويركز التقرير على الجوانب الإقتصادية (تمويل مشاريع في المغرب العربي) والإعلامية (الدعائية) “لإسماع وجهة النظر الفرنسية للجمهور العربي” (قبل تأسيس القناة التلفزيونية فرنسا 24)، واستعمال وسائل الإعلام والفضائيات العربية، للدفاع عن السياسة الرسمية الفرنسية، باللغة العربية.

أما سياسيا فإن التقرير يركز على ربط القنوات مع حكومات إيران وسوريا، ومع الإسلام السياسي، كالإخوان المسلمين في مصر وسوريا، والنهضة في تونس، وإعطاء إشارات حسن نوايا تجاه حركات مثل حماس وحزب الله، ودعم التعاون مع الأحزاب المعترف بها والمجتمع المدني والنقابات والمنظمات غير الحكومية والمثقفين ” والقوى الحية”، بالإعتماد على معطيات، ومعلومات، وخبرات السفارات والهياكل الفرنسية الأخرى الرسمية أو غير الرسمية، و”المستقلة” كالمنظمات غير الحكومية، والوفود والبعثات (حتى النقابية منها)، وإبقاء الباب مفتوحاً للحوار مع الجميع، بدرجات متفاوتة.

تم إعداد “تقرير ابن سينا” تحت إشراف دبلوماسي ذو خبرة طويلة، وفريق عمل متكون من خبراء وباحثين ودبلوماسيين، يساهمون منذ سنوات عديدة في إعداد وتخطيط وتنفيذ السياسة الفرنسية في ما أسموه “منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا”، وهم من حساسيات سياسية مختلفة، لكن يجمعهم الحرص على تدعيم مكانة فرنسا، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، في هذه المنطقة “التي لها فيها مصالح حيوية، وروابط تاريخية”.

يقدم التقرير رؤية للوضع القائم، تليها مقترحات وتوصيات “لأصحاب القرار”، لتدعيم مصالح فرنسا، ودورها في المنطقة العربية، وسلموا نسخة منه لمرشحي الرئاسة نيكولا ساركوزي، وسيغولين روايال…يطرح هذا التقرير الهام رؤية استراتيجية تراعي طموحات القوى الأروبية المنافسة لفرنسا في الوطن العربي كإيطاليا وأسبانيا، ويوصي ببناء علاقات شراكة إيجابية مع أمريكا (رغم التنافس)، هدفها انتصار الإمبريالية في أفغانستان والعراق ولبنان وإيران…” لأن لا مصلحة لفرنسا في هزيمة أمريكا أو عزلها دوليا”.

كما يوصي التقرير بالتنسيق مع روسيا والصين والهند، نظرا لنفوذها في عديد الأقطار العربية، وحتى في المغرب العربي (منطقة نفوذ فرنسا، تقليديا)… يفرد التقرير فقرة هامة لأنظمة وحكام مصر والسعودية والأردن، باعتبارهم “حلفاء طبيعيين” في منطقة تتمركز فيها قوات عسكرية فرنسية (الخليج ولبنان والقرن الافريقي)، خاصة وأن قادة الدول الثلاثة ادعوا أن الكيان الصهيوني “ضحية لاستفزاز حزب الله” في حربه العدوانية على لبنان، صيف 2006.

أما الكيان الصهيوني فإن التقرير يعتبره خطا أحمر، ويركز على دعم الشراكة معه، ومواصلة التقارب على أساس ضمان أمنه، وتبني “حل الدولتين لأنه يساهم في ضمان أمن اسرائيل”… في خاتمة التقرير، هناك عرض للدوافع التي يجب على فرنسا اعتمادها، للتحرك سريعا، منها ” الإضطرابات التي بلغت حدا يهدد المصالح الغربية، وخصوصا الأروبية، فانتشار الإرهاب، يهدد إمدادات النفط، وقد تتعرض قواتنا العسكرية المتواجدة في لبنان لعمليات إرهابية، أما دول المنطقة فإنها مهددة بالتقسيم والتفتت والتآكل… فمن مصلحتنا التعاون مع دول جنوب المتوسط، لضمان أمننا واستقرارنا، السياسي والإقتصادي…”.

يحاكي التقرير”مشروع الشرق الأوسط الكبير”، الأمريكي، للمحافظة على مكانة لفرنسا، في منطقة حيوية بالنسبة لها، لكن أمريكا والصين تنافسها، فضلا عن إيطاليا وأسبانيا.

هذه الخطوط العريضة الواردة في “تقرير ابن سينا”، شكلت العمود الفقري للإتحاد من أجل المتوسط، مع بعض التعديلات، التي تتماشى مع الإنحياز الإيديولوجي للرئيس ساركوزي للإمبريالية الأمريكية والحلف الأطلسي والكيان الصهيوني، والهاجس الأمني الذي يلازمه مذ كان وزيرا للداخلية، ودفاعه المستمر عن مصالح رجال الأعمال والأثرياء والشركات الكبرى في بلاده، كما أخذت التعديلات، بعين الإعتبار، ردود فعل ألمانيا والدول الأروبية غير الموسطية، وتحفظات الجزائر وليبيا الخ. ويعتبر هذا المشروع، تقييما نقديا لما سبقه من برامج منذ مسار برشلونة في تسعينات القرن العشرين، بعد سقوط جدار برلين، وتفتيت يوغسلافيا، وتوسع الإتحاد الأروبي نحو الشرق، والمنافسة الأمريكية لأروبا، في عقر دارها، بواسطة الحلف الأطلسي، والثورات المضادة في بولندا وجيورجيا وأوكرانيا، وفي المغرب العربي وافريقيا.

فشل “أوروميد” و مسار برشلونة: EUROMED

عام 1995، طرح الإتحاد الأروبي برنامج “أورو ميد” (أورو=أوروبا، وميد= ميديتارانيه، أي المتوسط)، على البلدان العربية المتوسطية والأردن، وسلطة أوسلو (إضافة إلى تركيا والكيان الصهيوني)، لخلق “منطقة تبادل حر بين ضفتي المتوسط”، بحلول عام 2012، وتكثيف التعاون في مجالات الطاقة والنقل “ومحاربة الإرهاب”، و”نقل التكنولوجيا”… هذا الرنامج هو عبارة عن عظم رمت به اروبا إلى مستعمراتها السابقة، في المغرب العربي، التي عانت من منافسة أروبا الوسطى والشرقية، وبدأت تعترضها عديد العراقيل لتصدير منتوجاتها إلى أروبا، كما أصبح دخول مواطنيها إلى أروبا، للعمل أو الدراسة أو الزيارة، من الصعوبة بمكان… في حين أجبرت على فتح حدودها أمام الإستثمارات والمنتوجات القادمة من شمال المتوسط، بما فيها المنتوجات الفلاحية، أو القادمة من دول أخرى، لها علاقات تفاضلية مع الإتحاد الأروبي (كالكيان الصهيوني)… عرف هذا البرنامج الذي اشتهر تحت اسم “مسار برشلونة”، تقييمات وتعديلات، خصوصا منذ 2004، حيث لم يتحقق شئ من الوعود الأروبية، في مجال الإستثمار والتنمية، وتوفير الشغل للشباب العاطل الذي يضطر إلى الهجرة غير المرخصة (غير القانونية)، وتكاثرت الحواجز أمام منتوجات جنوب المتوسط (الفلاحة، النسيج)، مما تسبب في غلق المؤسسات وطرد العمال، وكانت “علاقات الشراكة”، فرصة “لتأهيل المؤسسات”، أي جعلها مطابقة للمقاييس الأروبية وتابعة لها.

أما الإستثمارات الأروبية فإنها انحصرت في القطاعات غير المنتجة (الخدمات والسياحة والإتصالات) أو ذات القيمة المضافة الضعيفة، والتكنولوجيا البسيطة (النسيج، الصناعات التحويلية والتركيب)، أو الطاقة والإسمنت.

على المستوى السياسي، فرضت هذه الشراكة الأورو متوسطية، على الدول العربية، تطبيعا كليا مع الكيان الصهيوني، بما في ذلك في المجال العلمي والأكاديمي… إذ صرح المفوض الأروبي للعلوم والأبحاث (وزير التعليم العالي والبحث العلمي الألماني سابقا)، أثناء حفل توقيع اتفاقية شراكة علمية، بين الإتحاد الأروبي ومصر، (18/06/2007): ” إن هذه الإتفاقية سوف تفتح المجال أمام تعاون علمي بين مصر وإسرائيل، في مجالات تشجيع الإبتكار وتكنلوجيا المعلومات والإتصالات، ودعم تبادل طلاب التعليم العالي والمدرسي…” لأن شرط التطبيع الأكاديمي ضروري، للحصول على 11 مليون أورو من أروبا…ولمحاولة استمالة “النخب” والمثقفين و”المجتمع المدني”، وإدماج “المنظمات غير الحكومية” في عملية الهيمنة، قامت اروبا بتمويل برامج “التدريب على الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، و”تمكين المرأة”، وتغيير برامج التعليم في اتجاه التطبيع، والتنويه بالإستعمار والهيمنة، بحجة تركيز قيم الحضارة والديمقراطية، الى غير ذلك من البرامج التي يتستر وراءها كل من أراد بنا شرا. تذمرت النقابات وحتى بعض أصحاب المؤسسات المغاربيين من النتائج السلبية لهذا الشكل من التعاون والشراكة مع أروبا… من جهتها تذمرت أروبا من عدم قدرة دول المغرب العربي على تفعيل “الإتحاد المغاربي”، وخلق مؤسسات مشتركة تمكنها من التفاوض معها مجتمعة، وتكوين سوق موحدة لاستيعاب منتجاتها، وتضمن أمنها واستقرارها، عوض أن تضطر إلى المفاوضات الثنائية.

لقد أجمع الخبراء من الضفتين على فشل “مسار برشلونة”، منذ 2005، الذي لم يتجاوز “إعلان النوايا” بخصوص الرخاء والرفاه والإستثمارات الموعودة،حسب الأهداف المعلنة، من أجل “تقارب الدخل بين الضفتين، والتخفيض من نسبة البطالة ومن الفقر، والعناية بالشباب، والعدالة في توزيع الثروات”… لكن الوقائع تبين أن أروبا حرصت على اقتلاع مزيد من الضمانات للمستثمرين الأروبيين، وخلق مناخ مطمئن لهم، مع ضمان عدم العودة إلى الخلف، وتقويض نظام الجباية، بفرض حرية دخول السلع الأروبية، وتسهيل خروج أموال مستثمريها (رأس مال + مرابيح) والتضييق على منتجات الجنوب، كما تمكنت من تدعيم العلاقات اللامتكافئة، وجعل الهاجس الأمني محددا لسياساتها، على حساب التنمية والتطور الإقتصادي، وأنيط بحكومات المغرب العربي دور أمني لحصر الإرهاب لديها ومراقبة الهجرة المغاربية والإفريقية، والقيام بمهام أمنية لصالح أروبا، مقابل تقديمها المساعدة الأمنية لإنقاد الأنظمة القائمة.

وعلى المستوى المالي، انخفضت المساعددات الأروبية لبلدان المغرب العربي، منذ 2005، ولم تعط أروبا سوى ثلث المبالغ الموعودة، وبلغت تكاليف مسار برشلونة (نظريا، من 1995 إلى 2007) حوالي 20 مليار أورو، عاد معظمها إلى أروبا ومؤسساتها ومنظماتها غير الحكومية، التي قامت ب”دراسات واستشارات”، واستفادت من هذه المبالغ، بشكل مباشر أو غير مباشر، وحول الإتحاد الأروبي وجهة بعض التمويلات التي كانت مخصصة للمغرب العربي، إلى أروبا الشرقية، لدعم اقتصادها ومساعدتها على تحقيق الإندماج في النسيج الأروبي.

الإتحاد من أجل المتوسط: مولود مشوه؟

جاء انتخاب ساركوزي في فرنسا ليعزز دور اليمين الموالي للحلف الأطلسي، والعولمة الرأسمالية في أسوإ مظاهرها، فقد وصف (أثناء الحملة الإنتخابية) الموقف الرسمي الفرنسي الرافض لاحتلال العراق عام 2003، بالمتغطرس (وكان آنذاك وزيرا في حكومة دومنيك دو فيلبان)، ورفض قطعيا مجرد الإعتراف بسلبيات الإستعمار، ناهيك عن جرائمه (في الجزائر ومدغشقر وسوريا مثلا)، فضلا عن الإعتذار أو تعويض الضحايا.

وعندما كان وزيراً للمالية، فرض التخفيف من الضرائب لذوي الدخل المرتفع، وزاد من الضغط الجبائي على الأجراء وبواسطة الضرائب غير المباشرة، التي يتساوى في دفعها الغني والفقير، ولذلك حظي بمساندة كل الأثرياء وأرباب العمل والفنانين المتهربين من دفع الضرائب… ولما كان وزيرا للداخلية، نافس بشكل جدي اليمين المتطرف، بالمزايدات العنصرية والقمعية والتصريحات الإستفزازية الوقحة، والتعابير السوقية والبذيئة، التي طالت العمال والفقراء والشباب والمعطلين عن العمل وأبناء المهاجرين (العرب والأفارقة) وغيرهم من من وصفهم بالقذرات، الكسلاء والمتكلين.

أما عن موقعه الطبقي، فهو صاحب مكتب محاماة ودراسات، واستشارات قانونية وجبائية، للمؤسسات الكبرى، ورجال الأعمال والأثرياء، وحافط على علاقاته الوطيدة مع هذه الفئة من البرجوازية، بعد توليه رئاسة الجمهورية، يصطحبهم معه في رحلاته الخارجية، ويدافع عن مصالحهم… وأحد إخوته يحتل منصب الرئيس المساعد لنقابة أرباب العمل الفرنسية، وأبوه يملك مؤسسة إعلام واتصالات.

على مستوى العلاقات مع دول “الجنوب”، اقترح ساركوزي “الهجرة الإنتقائية” التي تفرغ البلدان الفقيرة من خبراتها وخريجيها الذين صرفت مبالغ طائلة لتعليمهم، ورفض هجرة ضحايا الحروب والفقر، أي أن فرنسا وأروبا، تتعامل مع الهجرة كسوق عبيد، تنتقي منها ما تحتاجه من خبرات علمية وتقنية، وتقوم الدول الفقيرة بدور الشرطي لوضع المهاجرين،غير المرغوب فيهم، في المعتقلات، لمجرد الإشتباه في نواياهم، أو رغبتهم في الهجرة.

أما انحيازه للكيان الصهيوني فقد بالغ في إبرازه، بمناسبة أو غير مناسبة، إلى درجة القرف، والتصق أكثر ما يمكن بالمواقف الأمريكية والصهيونية الأكثر عدوانية بخصوص أي شكل للمقاومة، والممانعة، ورفض الإحتلال، في فلسطين ولبنان وأفغانستان والعراق والصومال… وهو يعتبر “اسرائيل دولة ديمقراطية كبيرة، جديرة بالإحترام”، وفي 16/12/2004، ألقى خطابا في “هرتزيليا” (ينعقد فيها سنويا مؤتمر يبحث الاستراتيجيا الصهيونية)، حيا فيه “جنودنا الذين قاتلوا جيش عبد الناصر”، ويقصد العدوان الثلاثي (الكيان الصهيوني وبريطانيا وفرنسا) على مصر عام 1956، ولم تتطرق وسائل الإعلام الفرنسية لهذا الخطاب.

في سبتمبر 2006، وكان وزيرا للداخلية، قبل أن يعلن ترشحه رسميا للرئاسة، زار أمريكا، وألقى خطابا في اجتماع “آيباك” (أكبر وأقوى منظمة صهيونية في أمريكا) قال فيه “أشعر أني قريب من اسرائيل، التي يجب أن تفعل ما في وسعها كي لا يشار إليها وكأنها دولة معتدية…”. وقبل ذلك، في جويلية 2006، قال “ان اسرائيل هي ضحية اعتداء حزب الله”…لما كان وزيرا للداخلية، أيضا، دعا مجموعة من خبراء الكيان الصهيوني (شرطة وجيش ومخابرات)، اختصوا في مكافحة الإنتفاضة، واحترفوا الإندساس في أوساط المتظاهرين، والإعتداء عليهم، وإيقافهم…لتدريب الشرطة والمخابرات الفرنسية، على اتباع هذه الأساليب في ضواحي باريس، التي حصلت فيها انتفاضة، ضد البطالة والفقر والتهميش، في أكتوبر/نوفمبر 2005.

هذا عن الرجل، الذي تبنى مشروع “الإتحاد من أجل المتوسط”، وقدمه باسم فرنسا (ثم باسم الإتحاد الأروبي).

أما عن المشروع في حد ذاته، فقد تزامن، على الصعيد الأروبي، مع اجتماع تمت الموافقة خلاله على “الإتفاقية الأروبية للهجرة” (6 و7 يوليو 2008)، لخلق درع ضد هجرة فقراء جنوب المتوسط، وعلى الصعيد العربي فقد توافق مع إعادة إحياء السعودية والجامعة العربية لما سمي “المبادرة العربية”، أي التطبيع المجاني، الذي لم تستطع قمة “أنابوليس” فرضه، رغم حضور 16 دولة عربية (منها سوريا)، يوم 27/11/2007.

أعلن رسميا عن ميلاد “الإتحاد من أجل المتوسط” يوم 13/07/2008 بباريس، قبل يوم واحد من الإحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، بعضوية 43 بلد (750 مليون نسمة): سلطة الحكم الإداري الذاتي في رام الله المحتلة والأردن وسوريا ولبنان ومصر والجزائر وتونس والمغرب، وموريتانيا إلى جانب الصهاينة، وتركيا، وأعضاء الإتحاد الأروبي والبلدان الأروبية المطلة على المتوسط، من غير الأعضاء، ولم تحضر ليبيا، التي أعلنت مقاطعتها للفكرة على أساس أنها “تقسيم لصف الدول العربية، ويستهدف مواردها، ووسيلة لإجبارها على التفاوض مع اسرائيل” (معمر القذافي في 09/07/2008) وكأن ذلك لم يحصل بعد… أما الهدف الرئيسي المعلن فهو: “إقامة منطقة تجارة حرة في المتوسط”، أو ما معناه، فتح جنوب المتوسط وشرقه، بلا حدود، أمام المنتجات والإحتكارات الأروبية…سبق اجتماع يوم 13/07/2008، جدل أروبي حول إمكانية دخول تركيا للإتحاد الأروبي، فنيكولا ساركوزي يرفض ذلك، ومشروع الإتحاد من أجل المتوسط، محاولة لترضية تركيا ووضعها في “منزلة بين المنزلتين”… أما ألمانيا فإنها تزعمت الدول الأروبية التي ترى في هذه المبادرة محاولة لإحياء دور فرنسا، وشق للصف الأروبي، بين الجنوب المطل على المتوسط وشمال أروبا… في الدول العربية، وبعد رفض نيكولا ساركوزي، مجرد الإعتذار عن ما حصل في الجزائر أثناء الإستعمار المباشر، المح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إلى إمكانية عدم حضور الجزائر (لكنه حضر إلى باريس يوم 13/07/2008)، وتنافست تونس والمغرب ومصر على الفتات: (الرئاسة إلى جانب فرنسا، الأمانة العامة، المقر…)، وجاء الرئيس السوري الى باريس بعد تنحي شيراك، الصديق الحميم لعائلة الحريري (ويسكن، مجانا، إحدى قصورها، قريبا من قصر الإليزيه) وأخيرا تم اختيار برشلونة كمقر، ورئاسة فرنسية/مصرية و5 أمناء عامين مساعدين، ضمنهم الكيان الصهيوني والجامعة العربية، وربما سادس لترضية تركيا، وحددت المشاريع في الحماية المدنية، والإنقاذ ومقاومة التلوث، ومشاريع طاقة شمسية وممرات بحرية وطريق عابرة للمغرب العربي… بميزانية متواضعة لن تتجاوز 600 مليون أورو…

إعلان وفاة الإتحاد من أجل المتوسط

كل هذا الجدل وهذه المشاريع والتنافس على الفوز برضا فرنسا والكيان الصهيوني، وما حصل من مزايدات سبقت اجتماعي يوليو ونوفمبر (تشرين ثاني) 2008، ذهب أدراج الرياح، بعد القصف الصهيوني الوحشي الذي استهدف قطاع غزة من 27 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير2009، ووقوف وزير خارجية فرنسا ورئيسها، إلى جانب الكيان الصهيوني، حتى بعد قصف مقرات الأمم المتحدة… ووقعت أروبا اتفاقية شراكة تفاضلية مع الكيان الصهيوني، قبل أقل من أسبوعين من بداية القصف… أعلن معمر القذافي أن هذا الإعتداء شكل الضربة القاضية للإتحاد، وهو ما عبرت عنه الصحافة العربية والأروبية، وحتى الحكومة المصرية فإنها طلبت، رسميا، تعليق الإجتماعات المتعلقة باتحاد المتوسط، وبلغ الحرج أوجه، لدى الحكومات العربية، التي لم تتمكن من منع مواطنيها من الإحتجاج والتظاهر يوميا.

إن أسباب فشل “الإتحاد من أجل المتوسط”، تعود إلى تفاقم الأزمة الإقتصادية والمالية، التي لم تكن متوقعة بهذا العمق، عند إعداد المشروع، وللصراعات الأروبية بين شرقها الذي التحق حديثا بالإتحاد وغربها الذي أسسه، وبين بلدان جنوب أروبا التي ساندت المشروع (فرنسا، أسبانيا، إيطاليا)، وشمالها، التي ترى فيه إقصاءاً لها، واستئثارا فرنسيا بالسوق المغاربية… كما أن ضعف الميزانية المرصودة، وضبابية البرامج والمشاريع، لم تشجع بلدان جنوب المتوسط على الإقتناع بجدية هذا الإتحاد المزعوم.

أما القطرة التي أفاضت الكأس فتمثلت في الإنحياز الأروبي الواضح إلى جانب الكيان الصهيوني، أثناء عدوانه الأخير على الشعب الفلسطيني في غزة، والمساهمة في حصار غزة، بالبوارج الحربية الفرنسية، بدعوى منع تهريب الأسلحة (وكذا فعل النظام المصري أيضا).

لم تقدم أروبا أكثر من ما وعدت به في “مسار برشلونة”، بل زادت في إحكام غلق سوقها وحدودها، أمام المنتجات، والبشر القادم من الجنوب… والدول العربية بدورها لم تتفق في شيء قدر اتفاقها حول المسائل الأمنية، فمجلس وزراء الداخلية العرب (ومقره تونس)، هو الهيكل الوحيد الذي يجتمع باستمرار ويتخذ قرارات قمعية وزجرية، تنفذ في الحال، بتنسيق كامل بين كل أعضاء الجامعة العربية… إذا فهي تجيد هذا الدور الذي أنيط بعهدتها، وقد عرفت أروبا كيف تستغل قدراتها القمعية، ضد مواطنيها…

ما البديل؟

الإتحاد من أجل المتوسط، هو في حقيقة الأمر، درع لوقاية أروبا من الهجرة غير المرغوب فيها، ومن “الإرهاب”، وسوق لتصريف فائض الإنتاج، والإستثمار في القطاعات التي تدر أرباحا سريعة، ولا تتطلب تكنولوجيا ولا قيمة مضافة عالية… أما التعاون في مجال العلوم والتقنيات الحديثة والأسلحة المتطورة، ودخول المنتوجات بدون قيود، فيبقى من نصيب الكيان الصهيوني، الحليف الإستراتيجي للإمبريالية، وممثلها في المنطقة (دوره الوظيفي)… لقد وعد الإتحاد الأروبي منذ 1995، بلدان المغرب العربي ومصر، بالرفاهية، والتطور الإقتصادي، والقضاء على البطالة الخ. لكن بعد أكثر من 10 سنوات، أي عام 2006، كان متوسط دخل الفرد في مصر 1186 أورو، وفي الجزائر 2718 أورو وفي البرتغال 17500 أورو وفي فرنسا 26500 أورو…عام 2007، بلغ معدل دخل الفرد في الإتحاد الأروبي 19703 دولارا (حوالي 15000 أورو) وفي بلدان جنوب المتوسط 2848 دولارا (حوالي 2000 أورو)، ويتطلب لبلدان الجنوب 157 سنة للإقتراب من مستوى الدخل في أروبا (بينما كان معدل هذه المدة 30 سنة للبلدان الأروبية الفقيرة). كان هذا قبل تفاقم الأزمة الإقتصادية والمالية، الحالية.

لذا فإن الإنبهار بنمط الإنتاج الرأسمالي، ومحاولة اللحاق بأروبا أو أمريكا (لو افترضنا أن هناك فعلا نية لمنافسة أروبا أو أمريكا اقتصاديا وتقنيا)، يعتبر محاولة عبثية، لأن الأبواب موصدة.

الحل الوحيد يكمن في انتهاج أشكال وأنماط تنبع من إمكانيات البلاد واحتياجات المواطنين، وقدراتهم على الإبداع والإبتكار، باستعمال الموروث الثقافي والفلاحي والحرفي والصناعي المحلي، والإستفادة من تجارب شعوب أخرى، اعتمدت على قدراتها الذاتية.

أما الجري واللهث وراء القوى الإمبريالية، فلا يجر وراءه إلا التطبيع مع المحتل، ورهن خيرات البلاد، وامتصاص دماء أبناء الشعب، على عين المكان أو في المهجر…في الوطن العربي لدينا خيرات جمة، وثروات طبيعية هائلة، وقوى عاملة مدربة وذات خبرة، ومقومات تاريخية وثقافية مشتركة، وامتداد جغرافي…مما يجعل منا قوة لا يستهان بها، لو تم توحيد كل هذه الإمكانيات في دولة أو كيان واحد، يمارس العدالة الإقتصادية والإجتماعية، والديمقراطية، والمساواة بين المواطنين.