د. ثابت عكاوي
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1877)
في حين يعتقد بعض المراقبين أن اقتراحات روسيا والصين وغيرهما من البلدان باعتماد عملة عالمية جديدة، أو سلة عملات، مثابة تحدٍ لهيمنة الولايات المتحدة نقودياً على العالم، يرى البعض ان هذه الاقتراحات هي استجابة لمصلحة الأغنياء بمن فيهم الولايات المتحدة نفسها.
وأياً كان الرأي الأدق، فإن تغيرات جديدة لا بد أن تتخذ طريقها إلى النظام الاقتصادي العالمي. وطالما أن الأزمة ليست ناجمة ولا متعلقة بالتجارة، على سبيل المثال، إلا في حدود قلق الدول المنتجة من قيام الدول المستوردة بتبني سياسات حمائية معينة لأسواقها، فإن التغيرات سوف تطال الأنشطة الخلافية والمقلقة في الاقتصاد العالمي ولا سيما العملات. ولكن بالطبع، فإن معالجة مسألة العملات ليس المقصود وقوف الأمر عندها، بل استخدامها لحل إشكالات المتاجرة والديون ومختلف العمليات الاقتصادية الأخرى.
تشير مختلف التقديرات، حتى الآن على الأقل، إلى أن النظام الاقتصادي العالمي، وتحديداً جانبه المالي لم يدخل مأزقاً يقتضي تغييرات حادة وجذرية في مبناه وقواعده، وربما كان هذا السبب في أن مؤتمر العشرين في الثاني من إبريل/نيسان 2009، انتهى إلى تعزيز دور صندق النقد الدولي ليقترب من لعب دور البنك المركزي للعالم، بمعنى أنه تم التوصل إلى مرحلة وسطى، فلا هي الشكل الحالي تماماً ولا هي تجاوز هذا الشكل.
كان التغيير المحدود، أو الاتجاه نحو التغيير في زيادة دور الصندوق عبر زيادة حقوق السحب الخاصة التي هي عملة ورقية يصدرها الصندوق نفسه. اي ان العشرين قرروا تنشيط دور الصندوق ليخلق نقوداً تتخذ شكل عملة ورقية قابلة للتداول. وتعني حقوق السحب الخاصة أن عملة عالمية هي على الطريق بحيث تضع فيها البنوك المركزية للدول موجوداتها من القطع الأجنبي الذي سوف يُعتمد كسلة عملات عالمية، وليس الدولار وحده كما هو حتى اليوم. وسيكون لهذه الحقوق ارتباط كبير هذه المرة بالصين لأنها ما تزال تحتفظ بأغلبية الفائض الدولاري. وهذا الفائض هو في الحقيقة أحد أهم دوافع الصين لمعارضة قيام الولايات المتحدة بطباعة نقود جديدة وضخها في جسم الاقتصاد الأميركي ضمن سياسات الإنقاذ الاقتصادي وهو ما قد يؤدي إلى تدهور قيمة ديونها من خلال أو نتيجة التضخم الذي يلتهم قيمة الدولار نفسه.
إلى جانب الحديث عن عملة عالمية، جرى إنشاء مجلس الاستقرار المالي وهو مثابة الخطوة الأولى باتجاه ترتيب او تنظيم مالي عالمي. أو بنك مركزي عالمي. وهو ما طالب به بوضوح جوردون براون رئيس الوزراء البريطاني في مؤتمر العشرين المذكور مكرراً ضرورة “بريتون وودز” جديدة، بنك مركزي عالمي، على أن يكون محكوما بالشفافية، والتكامل والمسؤولية، إدارة داخلية جيدة وتعاون…الخ
والحقيقة ان مختلف هذه الصفات التي طالب بها براون مقصود بها المؤسات المالية الأميركية بشكل خاص، وربما اتضح هذا من قوله:
“نريد إقراضا غير مخفي، فالمخفي كان اساس المشكلة، لذا نريد إشرافاً على المؤسسات المالية عابراً للحدود، يتشارك في معايير عالمية للتدقيق والتنظيم
اعتماد بوليس اقتصادي عالمي يحتاج لشكل على غرار الأمم المتحدة، فيه ممثلين للدول الرئيسية”.
وفي نفس سياق حديث براوان كان اقتراح حاكم بنك بريطانيا السابق: “بإيجاد بنك تسويات عالمي، على أن لا يعاني مثل صندوق النقد الدولي من افتقاره إلى أنياب، اي آليات عقوبة، فصندوق النقد الدولي يتحدث عن المشاكل بدبلوماسية، وهو ما جعل من الصعب ضبط التجاوزات في البلد الواحد فكيف على الصعيد العالمي”.
لكن هذا الحديث ليس دقيقاً إذا ما قرأنا موقف وتجربة صندوق النقد الدولي في بلدان العالم الثالث. صحيح أن الصندوق لم يكن له جهاز شرطة، ولكنه كان قادر على إرغام البلدان المقترضة منه على تطبيق وصفاته التي لم تخلو من جرعات علاجية مؤلمة للأكثرية الساحقة من مواطني تلك البلدان.
طرأت في حقبة العولمة تطورات حادة في دوران العملة دولياً، لدرجة أن اسواق المال لم تعد خاضعة لسيطرة الكثير من الدول القومية أو سيادتها، وهو الأمر الذي أخذ يغري كثيرا من الدول لبلورة عملة إقليمية فيما بينها لتلعب دورأ اساسياً في أنشطتها الاقتصادية وتقلل بالتالي من اعتماد الدولار والارتباط بتقلباته. هذا ما كان وراء اعتماد اليورو في الاتحاد الأوروبي الذي اعتمد منذ عام 1991.
على ضوء تجربة الاتحاد الأوروبي، يجادل اقتصاديون بعدم جدوى ولا نجاعة عودة الدولة القومية إلى التحكم بسعر الفائدة وسعر الصرف بعيدا عن بقية العالم. كما يدعون إلى ان تغادر الحكومات مراقبة النقود المستخدمة في بلادهم محذرين طبعاً من سياسة الحمائية.
وفي الحقيقة أن هذه الدعوة هي اساساً صادرة عن الدول الغنية التي لها مصلحة في التصدير، فليست مشكلة البلدان المستوردة في النقود المستخدمة بمقدار ما هي في نزيف النقود من أسواقها، إلى الخارج، ثمناً لمنتجات تصر البلدان التي تنتجها على استمرار تدفقها إلى اسواق الغير.
يرى الاقتصاديون اللبراليون أن التطور الاقتصادي غير ممكن بدون العولمة، وأن على الدول هجران عملاتها القومية لكي تلحق بركب التطور، عليها استبدال عملاتها بالدولار أو اليورو أو في حالة آسيا ان تتعاون لإيجاد عملة جديدة متعددة القوميات لهذه المنطقة المتعددة اقتصادياً. فالحل بالنسبة له هو في عملات إقليمية.
لكن السؤال الأساس ليس في اعتماد عملة عالمية أو إقايمية، وإنما السؤال هو من شقين:
الشق الأول: ما الذي تنتجه كل دولة على حدة، بمعنى أن الإنتاج والطلب الدولي عليه هو الذي يحدد إن كانت العملة القومية ذات مركز وقوة أم لا.
والشق الثاني: حتى بوجود عملة إقليمية، يبقى السؤال من الذي سوف يتحكم بها لا سيما في المناطق التي يتفاوت فيها مستوى التطور الاقتصادي، كالبلدان الآسيوية.
صحيح أن عملة موحدة تسهل التداول والمتاجرة، ولكن يظل الفيصل هو في قطاعات الإنتاج ومستوى تطورها في كل بلد على حدة.
تكتلات أم عملات إقليمية
أين تكمن قوة الاتحاد الأوروبي؟ في وجود العملة أم في القوة الاقتصادية؟ وفي درجة التطور المتقاربة بين دوله الأعضاء، وفرص لحاق البلدان الأقل تطوراً فيه بالأكثر تطورا؟ ثم لصالح من يعمل هذا الاتحاد؟ هل يعمل لصالح الأمم الأوروبية كلها؟ فما هو معروف أن مختلف الاستفتاءات التي أجراها الاتحاد كانت بالكاد تحصل على درجة النجاح، بمعنى أن هناك معارضة شعبية للاتحاد لأنه اتحاد الطبقات الغنية في الأساس. وإنما تجدر الإشارة إلى أنه رغم المصالح المشتركة سياسياً واقتصاديا بين أوروبا،امريكا الشمالية، إلا أن تكوين الاتحاد الأوروبي واعتماد اليورو يشكل فاتحة بحث التجمعات الإقليمية الأخرى عن تكتلات لها.
تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي هو تجمع متخارج، كاتفاقية نافتا لشمالي أميركا، اي ان هذه التكتلات موجهة لتوسيع حصتها من اسواق العالم، في حين أن التكتلات الإقليمية الأخرى في العالم هي بأهداف تنموية وحمائية، ومن هنا يكمن فارق قراءة تكوين هذه التجمعات مقارنة مع تكوين السوق لأميركا اللاتينية، أل ميركسور. وكذلك مشروع الوحدة البوليفارية “يوناسور” في 23 أيار 2008 الذي برلمانه في بوليفيا وبنكه في فنزويللا والمكون من 12 دولة أرجنتين، بوليفيا برازيل تشيلي كولومبا إكوادور جويانا برغواي بيرو سورينام اورجواي وفنزويلا. وهي تهدف إلى الوصول إلى عملة موحدة.
كما تتطلع دول الآسيان (+ 3، اي الصين واليابان وكوريا) لتقليد النموذج الأوروبي وتتجه نحو تطوير الاتفاقات الثنائية بين أعضائها إلى اتفاقات جماعية لكن هذه الدول لم ترفع تقاربها إلى محاولة إنشاء صندوق نقدي لها بعد. إنما المهم ان المتاجرة بين هذه البلدان آخذة في التصاعد حتى بدون اتفاق لتحرير التجارة بينها وهناك اتفاقات على ترتيبات مالية وتعاون مالي من خلال اتفاقات ثتائية لمقايضة العملة الصعبة وإنشاء رقابة اقتصادية مناطقية، واتفاق على سوق سندات اقليمي، وهذه في حد ذاتها إنجازات هامة.
وهناك عدة مبادرات أخرى منها المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا 15 دولة، والتي يوجد بين بعضها اتحاد نقدي وهي بينين، بوركينا فاسو، ساحل العاج، غينيا، غينا بيساو، غامبيا مالي، نيجر، سنسغال، سيراليون، توجو الراس الأخضر، ليبريا غانا ونيجيريا. وهناك الاتحاد الإفريقي الذي أُعلن عام 2002 والمكون من 53 دولة، وأهميته أنه يُفترض أن يكون ما فوق الحكومات. أما اتفاقية أبوجا فكانت قد حددت ست مراحل للوصول إلى منطقة نقدية افريقية موحدة مع 2008؟. والهدف النهائي منها إقامة بنك مركزي افريقي، وعملة إفريقية موحدة، واتحاد نقدي واقتصادي افريقي.
وتحاول دول أميركا الشمالية تطوير الاتفاقية التدجارية بينها لتصل إلى اتحاد مالي امريكي شمالي (أميرو)، وقد بدأ الحديث عنه مع أوائل 2008. الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، حيث تُدرس إقامة بنك مركزي، على ان يكون له دستور مسؤول فقط عن صيانة استقرار الأسعار، وليس عن التشغيل الكامل. وهذا واضح أنه موجه لصالح الولايات المتحدة وكندا مخافة تدفق العمال من المكسيك إليها. وهذا يبين تقسيم العمل الواضح بين هذه الدول على اساس: الدمج بين الموارد الطبيعية لكندا، والتقدم اتقني الأميركي واليد العاملة الرخيصة في المكسيك لتتم القدرة على المنافسة. ولكن، إذا كان هذا التمييز ضد المكسيك من حلفائها، فكيف سيتصرف هؤلاء، حتى مع وجود عملة عالمية وبنك مركزي عالمي، تجاه بلدان المحيط الأخرىّ
على أن هذه الدول لا تخفي تضايقها من محاولات أميركا اللاتينية التي تحاول الفكاك من التبعية للولايات المتحدة. فحينما سُئل الرئيس المكسيكي فنسنتي فوكس عام 2007 عن إمكانية عملة مشتركة للأميركيتين قال: ” ظلت كل الأمور تسير بسهولة، إلى ان ظهر شافيز، الذي فضَّل عزل نفسه وقرر تدمير الفكرة”.
وبالنتيجة، فإن ملخص ما يتحدث به الاقتصاديون والساسة أن العالم يسير باتجاه كتل اسواق ومناطق عملات إقليمية يكون الدولار لشمال أميركا، واليورو لأوروبا بأسرها شرقا وغرباً، كما يمكن أن يكون الين غالباً للاسيان، ويمكن تكوين اتحاد نقدي لأمريكا اللاتينية، وإمكانية منطقة عملة حول راند جنوب افريقيا واحتمال اندماج استراليا ونيوزيلنده في عملة لأوقيانيسيا. وكل هذه مثابة خطى وسيطة لتلبية طموح قادة العشرين لإقامة بنك مركزي عالمي وعملة عالمية.
ولكن، في حالة حصول هذين الهدفين، هل سيتغير الكثير على بلدان العالم الثالث؟ هل تعدو هذه الخطى أمراً سوى تحكم الأغنياء بالعالم، ولكن هذه المرة بشكل “شرعي”؟ هذا ما نستنتجه من بين سطور أحاديث قادة العشرين وخاصة الرئيسيين الذين، وإن قالوا بإعطاء الدول الفقيرة راياً في الصندوق، فالسؤال هو ما هي حدود او حجم هذا الرأي. فالحديث يدور حتى الآن على ان يُدار الصندوق أو ما قد يحل محله من الأغنياء الكبار وان يتم تداول بقية المقاعد بين بلدان مثل الصين الهند البرازيل مكسيكو جنوب افريقيا بولندا وكوريا الجنوبية. ولكن من قال أن هذه البلدان الجديدة تمثل بقية بلدان العالم؟ وهذا يعني توسيع عدد الكبار والإبقاء على حصصها المهيمنة. وأية حصص أو قرارات؟ هي ليست في الهواء، هي حصص وقرارات بايدي الأغنياء دولاً وأفراداً، اي النخب نفسها، ولكن هذه المرة على صعيد أكثر “تعاونا”، للسيطرة على العالم بأسره دون حواجز. وكأن الدعوة إلى عدم الحمائية، هي كذلك دعوة إلى عدم السيادة أو اعتماد سياسات اقتصادية تنموية تأخذ بالاعتبار الأول حماية المواطن والسوق الوطني، وكذلك العملة بمعنى أن العملة العالمية والبنك المركزي العالمي هو متطلب الإغنياء، ولن يكون للفقراء لا فرصة القرار ولا حتى معرفة الكواليس.
هل هذه الحلول هي لترتيب اوضاع من خلقوا الأزمة؟ ربما هذا ما تضمنه حديث رئيس الوزراء البريطاني الذي اشار إلى ضرورة وقف القروض المخفية في الولايات المتحدة، ولكنه لم يقصد أن يعرف بها كل العالم بالطبع.