الحماية الشعبية لإعادة بناء البلد

الصحافة الورقية تحجب ثقافة الاحتجاج

عادل سمارة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1891)

لماذا يمكن أن تفكر هيئة تحرير نشرة إلكترونية في الكتابة عن قضايا محلية وداخلية، في اي بلد، وحتى صغير كالأرض المحتلة؟ فالمألوف أن النشر الإلكتروني ما زال أكثر باتجاه قضايا سياسة دولية وفكرية نظرية وفنية…الخ، بمعنى أن المحليات متروكة للصحافة الورقية. وهذا لا يعني ان الإلكترونية تتورع أو تأنف عن غزو هذا المجال، وهي لا بد تغزوه يوماً، وهي تغزوه الآن وإن بدرجات.

لكن هذا الحديث ما زال في نطاق الحياد السياسي والطبقي، بمعنى أنه محصور في المساحات التي يتقاسمها النشر بنوعيه أو أنواعه. وهذا الانحصار يخفي وجه مشكلة حقيقية، بل المشكلة الحقيقية، وهي دور النشر الورقي في حرية الرأي وحتى الحياد في نشر الخبر كخبر! وهذا الحديث يعني ان هناك ملكية خاصة ومصالح طبقية وتحكم طبقي في النشر وهذا أمر قديم قِدم الصحافة نفسها بما هي ولدت في ظل هيمنة نمط الانتاج الراسمالي.

والأرض المحتلة نموذجاً في هذا المجال. فمالك الصحيفة أو ممول/ولو الصحيفة أو مالكها و ممولها يلعبون دور مصفاة للرأس والفكر وحتى الخبر لا ينزُّ منها إلا ما يرضون عنه بالمطلق وليس بالنسبي. ولأن الصحافة المحلية هي مؤسسات راسمالية خاصة أو خاصة وممولة، فهي متصالحة مع القطاع الخاص، مع راس المال مهما فعل، وهي متصالحة مع سلطة الحكم الذاتي على:

· أرضية المنطلق الفكري والإيديولوجي البرجوازي (الكمبرادوري بامتياز هنا)

· أرضية الخوف من السلطة إذا ما نشرت نقداً للسلطة

· هذا ناهيك عن دور الاحتلال الذي لا يتعلق دوره بما نريده هنا كي لا يعلق عليه كل عيبنا.

لذا، لا يمكن توجيه اي نقد لمن لا ترضى عنه السلطة إلا إذا كان بعيداً عن السلطة نفسها، وعلاقاتها وتحالفاتها. فمن الطرافة بمكان، لمن أراد أن يعرف أن صحافة رام الله مثلاً كانت تشن ضد حركة حماس هجوماً يعبر عن موقف سلطة رام الله تماماً. وهذا الحديث لا يزعم أن سلطة غزة فريق من الأنبياء، ولكن المهم واللافت هو أن الصحافة كانت مثابة صحافة حكومية تماماً. كما أننا لا نعرف في الضفة عن حرية الصحافة في غزة شيئاً، وتحديداً عن الأمور المحلية والسياسة الفلسطينية الداخلية في الأرض المحتلة[1]!

ربما ما يثير الدهشة أنه حتى على المستوى الفكري النظري، ففي أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي لم تعد تقبل الصحف المحلية نشر مفرادات أو مصطلحات من طراز الإمبريالية، النظام العالمي، الراسمالية…الخ. ولكن في أعقاب اشتعال الأزمة المالية العالمية، بدأت تسمح ببعض هذه المفردات!

المقصود بإثارة هذه الأمور هو البحث عن بديل حرياتي ومن ثم ديمقراطي للتعبير عن الكلمة والموقف، وهو على اية حال مشروع لحلول الإلكتروني محل الورقي طالما حركة التاريخ تذهب بهذا الاتجاه، ولو نسبياً، وبالطبع طالما الورقي هو احتكار للقلَّة. بينما المطلوب هو منبر للأكثرية التي تفتقر لمنبر لها، وفي هذا لا تختلف عن الأكثرية الساحقة في الوطن العربي.

ولا أتطرق هنا للمرئي والمسموع لأنها نموذجاً على احتكار النخبة، ناهيك عن أن معظمها نموذج لاغتصاب وعي الجمهور، اغتصاباً يمثل النخبة العالمية. فالقنوات الرسمية العربية هي مستوطنات للثقافة الراسمالية الغربية، مستوطنات على الهواء تُفسد هواء الروح ومتعة القلب وقدرة العقل على التحليل، وتضع المواطن في دوامة من الهيمنة بحيث ستصور أنه يرى كل شيء، ولكنه لا يميز من كل شيء شيئاً.

لعل أقرب الأمثلة قناة الجزيرة التي لا توحي بأنها لسلطة ما وهي لسلطة قطر. لكن إذا تمالك المستمع نفسه وضبط أعصابه للحظة وحاول التركيز تحت ضرباتها، تماماً كما يحاول المناضل الثوري أن يضبط اعصابه في لحظة التعذيب كي لا تفلت منه كلمة أو اعتراف. لو حاول المواطن ذلك، لرأى القصف النووي لوعيه من هذه القناة باسم حرية الصحافة والانفتاح والتعدد. فخلال تدمير غزة أرضا وشجرا وحجرا وامرأة وطفلا ومقاتلاً وضعت الجزيرة شمعون بيرس لأربعين دقيقة متواصلة وهو يبث سمومه بأن حماس هي المعتدية على (وطنه)! ولم يجرؤ صحفي الجزيرة على القول له، هذه مقاومة اصلا ضد اغتصاب وطننا عام 1948! وهذا غيض من فيض.

مرة أخرى، إذا ما كان رأس المال قد احتل الورق بامتلاكه المال لإصدار صحافة لصالح رأس المال نفسه، فإن شبكات النيت قد سمحت لنا باستخدام الهواء. والهواء وطن مفترض لكافة البشر، وإن كان يحكمه احتلال واسع الصدر ولكن واسع المعدة مثل “ليافياثان” ثوماس هوبز (وليس ثوماس فريدمان[2])، اي يسمح لنا كمعارضة بأن نلعب في معدته كديدان صغيرة. إنما لا باس فلنستخدم المتاح، إلى أن نتمكن من قطع عنقه، من احتلال هذا المبنى الراسمالي المعولم ، وسيحصل!

فالمقصود بهذه الزاوية هو استخدام وطن الهواء كما لو كان وطن التراب والصخور كي يُكتب عليه ما يعانيه الناس من ألم يومي، لا أن يبقى “النيت” شبكة في الثقافة والفكر والفلسفة والشعر، الشعر خاصة. متعالية هكذا دون أن تسمح لجدل السماء بأن يحطَّ على الأرض ، ولكن لماذا؟ لأن أهل الشعر في العصر الحديث قد سرقوا القول العربي الرهيب وتمترسوا ورائه ليرتكبوا اخطر الموبقات: أي إعفاء الذات من المساهمة في اي عمل جماعي، بل محاولة تفريد الجماعة كي تنشل ولا تعطي، لا تشتبك. والقول هو: “يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره”.[3]

واشتباك الطبقات الشعبية مع ما تتعرض له من احتلالات، ليس عدواناً بالطبع، وإنما مجرد دفاع، نعم دفاع عن حقوق، بل حتى عن لحم الجسد.

ملاحظة1:

عملت في صحيفة محلية في بداية الثمانينات من القرن الماضي لمدة اسبوعين فقط. تخيلت آنذاك أنها تقدمية، فكتبت على سجيتي. كان أول اعتراض من المحرر المسؤول على مقالة كتبتها عن دور الدول ذات الأنظمة الماركسية في إفريقيا الجنوبية في إسقاط نظام الأبرثايد آنذاك، لأكتشف يوم النشر أن المحرر استبدل مفردة الماركسية ب “النضالية” حيث أتت آنذاك في خارج السياق وبلا معنى. وفي مقال آخر، تحدثت عن اليمن الجنوبي، وكما اذكر نقدت أحد أنظمة حزب البعث آنذاك في موقف له تجاه اليمن الجنوبي، فجلس إليَّ المحرر المسؤول :

قال: ليس من صالحنا التعرض للنظام الفلاني لأننا عند السفر نمر منه

وقال: أما النظام الفلاني فلا نريد كذلك مهاجمته، ونظام كذا وكذا…

قلت: إذا كانت كل هذه الأنظمة لا يمكن التعرض لها، فأعتقد أن المسموح نقده هو نظام الصومال.. وحملت قلمي، وربما ابقيته على الطاولة، ومضيت.

ملاحظة 2:

خلال الحملة الأخيرة لانتخابات مجلس الحكم الذاتي كتبت مقالة لإحدى الصحف المحلية نقدت فيها مسألة الانتخابات نفسها من مدخل أن الانتخابات لمختلف مؤسسات الحكم الذاتي ليست ديمقراطية لأنها تحت الاحتلال ولأن البلد بلا سيادة، فلا يُعقل الزعم بإجراء انتخابات ديمقراطية تحت احتلال استيطاني اقتلاعي، انتخابات بلا وطن. كما نقدت اشخاصاً من المرشحين لأنهم يمثلون مؤسسات الأنجزة التي هي ممولة من الغرب، ولا يوجد تمويلاً بريئاً، وخاصة من الغرب الذي هو اساس نكبتنا وما زال. فكيف يمكن أن يكون رئيساً لبلد أو نائباً للشعب وهو ممول من أعداء البلد؟

والحقيقة أن المقالة قد نُشرت. ولكنها كانت الأخيرة. وبعد تحريات طويلة علمت بأن رجل الأنجزة هدد الجريدة بأنه لن ينشر فيها اي إعلان إذا نشرت لي اي مقال، وتوعد بأنه سوف يتقدم بشكوى قضائية ضدي. بدوري تمنيت ذلك، لكنه لم يفعل.

1) جمعية الاقتصاديين الفلسطينيين

عقدت جمعية الاقتصاديين الفلسطينيين اجتماعاً يوم 9 ايار في رام الله لانتخاب هيئة إدارية جديدة لفرع الضفة الغربية على اعتبار ان التواصل بين الضفة والقطاع اصبح صعباً بعد أحداث عام 2007. وصعوبة التواصل ليست مؤكدة بعد بمعنى، أن هناك إمكانية للتواصل النقابي والأهلي بعيداً عن الصراع السياسي والمسلح، كما اقترح الزميل د. محمد غضية. بل إن التواصل القاعدي هو ربما وحده الذي قد يجبر من يتنافسون على مراجعة حساباتهم كي لا يحل أحد محلهم.

وبالطبع ليست جمعية الاقتصاديين هي التي ستحل محل التنظيمات، ولكن يمكن لراس المال أن يخلق حزيه ويملأ فراغ الساحة وبالطبع يمول ويصرف الكثير.

ربما باختلاف عن كثير من الزملاء، لم يكن يهمني أن يُنتخب هذا أو ذاك، هذه أو تلك بمقدار ما يهمني جمعية في خدمة بقايا الوطن! ولكن لفت نظري أن التنافس الانتخابي هذه المرة كان شديداً وتنسيب أعضاء من بعض الأطراف كان محموماً، وهذا ما لم تعتد عليه الجمعية، التي كانت تعاني دوماً من قلة الاهتمام بها.

وبعيداً عن تفسير حماسة تنسيب أعضاء جدد، ونظراً لما كنت قد سمعته، فقد تقدمت إلى الجمعية بالورقة التالية:

إقتراح ضد التطبيع الاقتصادي خاصة

مقدم إلى الزميلات والزملاء أعضاء الهيئة العامة لجمعية الاقتصاديين

من: د. عادل سمارة

رام الله في 9 ايار 2009

قامت شركات فلسطينية في الضفة الغربية بتكليف اشخاص في قطاع غزة لإعداد دراسات جدوى لمشاريع إعمار هناك بعد المذبحة التي قامت بها قوات الكيان الصهيوني، وعلمنا أن بعض من قاموا بهذه الدراسات هم أعضاء في جمعية الاقتصاديين. وأن الشركات التي كلفتهم هي شركات فلسطينية في الضفة والقطاع، أو شركات بنات لها. والهدف هو شراء المستلزمات من شركات في الكيان.

بناء على تجهيز حكومة نتنياهو لخطة اقتصادية للمناطق الفلسطينية المحتلة 1967 ونظراً للمعطيات السياسية الرسمية فإن هذه الخطة ستجد من يتقاطع معها.

لذا، اقترح على الهيئة العامة، حفاظاً على الشرف الوطني والقومي العربي أن تتخذ قراراً في هذا الاجتماع برفض التطبيع وعدم مشاركة الجمعية أو أيٍّ من أعضائها في إعداد دراسات جدوى لهذا الغرض أو ما يشبهه أو اية مشاريع تطبيع اقتصادية بشكل خاص. ومن يختار غير هذا الموقف يحق للجمعية فصله.

باحتــــرام

د. عادل سمارة

وكمواطن يعيش في الأرض المحتلة، التي تعاني كل ما يمكن أن يعانيه شعب، لم أجد امامي سوى محاولة الربط بين نشاط راس المال الكمبرادوري في محاولة خلق حزب سياسي له، وبين “نشاط” الشهية المفتوحة لتوريد بضائع صهيونية إلى قطاع غزة “لإعماره” عمرانياً، وتدمير انتصاره وطنياً!

وكذلك وجوب الربط بين تشكيل مجلس أعمال إسرائيلي فلسطيني منذ ثلاث سنوات لتجسيد “سلام راس المال -أوسلو الاقتصادية” وبين خطة نتنياهو الجديدة لعلاقة اقتصادية وحل اقتصادي مع الفلسطينيين أي لا حل سياسي يشمل حق العودة والعودة نفسها، ولا انسحاب العدو من الضفة والقطاع كحد أدنى دون أن يكون مشروطاً بشطب حق العودة. بمعنى أن هذا المجلس سيكون له الدور الأساس في التقاطع والتنفيذ مع خطة نتنياهو. لذا وجدت أنه لا بد من التحذير المبكر من هذه التطورات.

ومرة أخرى، بما أن الصحافة الورقية لا يمكن تنشر أموراً خطيرة كهذه فلتكن الصحافة الإلكترونية بديلا لدرجة ما!


[1] مثلا، أنا من الذين تسألني أحيانا صحافة غزة عن أمور وطنية سياسية مقاوماتية، أتقاطع فيها طبعا مع المقاومة في غزة، ولكن لا أدري عن الحريات هناك وعن المرأة والتنمية وعدم فتح ملف الفساد…الخ.

[2] ثوماس هوبز فيلسوف بريطاني تحدث عن الدولة وقوتها في التهام المعارضة دون أن تقتلها، وربما يكون يكون هذا الإنجلزي الخبيث قد لطش هذا المصطح من القرآن الكريم حين ابتلع الحوت يونس ولم يقتله. أما ليافياثان توماس فريدمان، الذي ابتهج 22 نظام حكم عربي باقتراح سقيم منه، كرره المئات من قبله، وهو المبادرة العربية التي ما تزال مسجاة كجثة على ابواب الصهيونية، فهو الوحش الرسمي العربي المستبد، الذي لا يبلع بقصد الحماية بل يطحن الأمة بأسرها ويذرها غباراً.

[3] هنا نقول رحم الله ستالين، وإن كان هذا الترحُّم سوف يُثير المرتدين من الشيوعية والشيوعية الغربية وخاصة أحفاد القتيل تروتسكي، فحينما ذهب ترتوسكي لزيارة مطبعة الحزب وجد على الماكينة ديوان شعر لشاعر روسيا الكبير مايا كوفسكي، تصفح الديوان فوجد أنه قصائد إلى حبيبته. فقال: كم ستطبعوا منه؟ فقالوا: بضعة آلاف، فقال: اطبعوا فقط نسختين، واحدة له واخرى لحبيبته.