عبد اللطيف مهنا
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1896)
أغضب ما لم يقله بابا الفاتيكان الإسرائيليين ولم يرضهم ما قاله. كان من الطبيعي أن زيارته لفلسطين المحتلة، أو حجه لمقدساتها، قد سبقتها ترتيبات مشتركة مع محتليها، وثمرة إعداد متقن مسبق معهم، كان محصلة لمفاوضات بدأت منذ أن بُدأ التفكير بقيامه بها. وإذ لم يخف على أحد تقيده التام بمسارها المرسوم، إذ كان يقرأ ما خط له على الورق في مناسباتها المقررة فلا يزيد، وكان ينطق إبانها كدبلوماسي أكثر منه حبراً أعظماً للكنيسة الكاثوليكية، فإن الإبتزاز الإسرائيلي المعهود كان ينتظر منه الأكثر و لا يقنع به. وإذ كان هذا مفهوماً لمن يفهم طبيعة إسرائيل ويعرف ذهنية الإسرائيليين، فإن الذي كان مستهجناً، أو على الأقل غير مفهوم، هو ما كان من بعض العرب والفلسطينيين، وهو اسقاطهم، للكثير من آمالهم على ما يريدونه من الزيارة الباباوية و يعلقونه عليها، أو انتظارهم منها أكثر مما كان منها في شقها الفلسطيني.
منذ المحطة الأردنية، أي في بداية حجيجه، حاول البابا بعبارات صيغت بعناية استرضاء من لا يرضون ولا يقنعون، مبادراً إياهم بإشارات نشدان إتمام المصالحة المنشودة بين كنيسته وبين اليهود، تلك التي أرسلها سلفاً وهو يقف في “أرض جلعاد” التي سبق و أن طالب بها شارون، أو المكان الذي حج إليه لأن التوراة تقول أن النبي موسى وقف فيه، وما أن وصل من بعد إلى الديار المقدسة المحتلة، حتى أكد على أن إلتزام كنيسته بهذه المصالحة أمرٌ “لا رجوع عنه”، ومن ثم بدأت وقائع الزيارة المرسومة تطبق بدقة، إذ فور وصوله ندد باللاسامية ودعى لمحاربتها، وفي يومها الأول، وقبل زيارة كنيسة القيامة، كانت زيارة متحف “إياد فاشيم” وإيقاد “الشعلة الخالدة”، ومصافحة بعض الناجين من ما يعرف بالمحرقة، متعهداً بعدم السماح بتكرارها… التقى عائلة الجندي شاليط، ثم زار حائط البراق واضعاً دعواته المكتوبة في شقوقه على الطريقة الطقوسية اليهودية، ومنهياً الزيارة في يومها الرابع في الناصرة… يوم ذكرى النكبة الفلسطينية… بلقاء وصفه الناطق باسم الفاتيكان بأنه كان خاصاً عقده مع نتنياهو، قال أنه دام لعشر دقائق “تناول عملية السلام في الشرق الأوسط و سبل إحراز السلام فيها”، والمهم أن الأخير طالبه إبان هذه العشرة دقائق بالتنديد بإيران… ومع ذلك لم يُجدِهِ كل هذا، إذ لم يمنع كل هذا الذي كان منه فتوراً إسرائيلياً واضحاً كان قد رافق أيامه الأربعة مثيرة الانتقادات والجدل، لقي فيها ما اعتبره البعض إذلالاً واضحاً، وحفلت ساعاتها بمظاهر التعبير الإسرائيلي المتغطرس عن عدم الرضا، رُددت خلالها أقوالٌ من مثل: لماذا لم يبد تعاطفاً أكثر مما أبداه حيال حكاية ضحايا المحرقة المفترضة؟ ولِمَ لم يذكر رقم ضحاياها المفترض؟ ولِمَ لم يعبر عن الندم ويقدم اعتذاراً صريحاً عن ماضيه الألماني أو انتمائه في صباه لشبيبة هتلر… وصولاً إلى قول رئيس الكنيست، الذي كان قد قاطع حفل استقباله، “لقد كان جزءاً منهم”، ويعني النازيين… وحتى وصف عضو كنيست الزيارة بأنها نوع من التلوث، ومطالبة آخر بإلقاء القبض عليه!
ولم يكتفوا بهذا، منعوا المسيحيين القادمين من سائر فلسطين المحتلة من الوصول لاستقباله، إذ سدّت عليهم الحواجز العسكرية طريقهم إلى القدس وبيت لحم المحتلتين، وغطوا إعلامياً زيارته لحائط البراق ومنعوا تغطيتها عندما قام بها إلى الحرم القدسي… تحول حجه الديني وفق المعلن إلى حج سياسي فاقع، ولم يقنعوا، وكأنما أرادوه حجاً إسرائيلياً خالصاً، و مناسبة من المفترض أن تغتنم لتحسين صورة إسرائيل القبيحة، وظلوا واضعين الفاتيكان خلالها في موقع المدافع عن النفس… عن باباه، ومن ذلك رد ناطقه الرسمي بأن “البابا لم يكن بتاتاً، ومطلقاً، عضواً في شبيبة هتلر”، ولما ذكّر الإسرائيليون الفاتيكان بأن هذا ما كان قد اعترف البابا نفسه به في كتاب له، أوضح متحدثه بأنه إنما كان مسجلاً في الشبيبة “بشكل غير طوعي… ولم يكن مشاركاً فاعلاً”!
… ومنذ المحطة الأردنية إياها، وحيث بدأت بزيارة مسجد الحسين، لم يسمع مستقبلوه العرب منه اعتذاراً كان ينتظره البعض أو يطالب به، ليس عن الحروب الصليبية أسوة باعتذارات الفاتيكان لليهود وغيرهم، وإنما عن ربطه الإسلام بالعنف في محاضرة شهيرة له قبل ثلاثة أعوام، بل كان منه تلميحاً ناقداً للإسلام السياسي تجلّى عبر دعوته لعدم أدلجة و تسييس الدين… وفي القدس المحتلة، وحين فاجأ الشيخ التميمي قاضي القضاة البابا بما يحرج، عندما دعاه إلى الإعتراف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية، والضغط على إسرائيل لوقف عدوانها، قوطع الشيخ وتمّت محاولة إسكاته، وانسحب المنسحبون، وصفق المصفقون، واستنكر الفاتيكان ما كان منه معتبراً مداخلة الشيخ “إنكاراً مباشراً لما يجب أن يكون عليه الحوار”!!!
كل ما كان من البابا، فلسطينياً، هو الدعوة لدولة فلسطينية ذات سيادة، وإلى رفع الحصار عن غزة، لكنما دون ذكر لمن يحاصرها، ومقابل دعوة الفلسطينيين ل”عدم الإنسياق وراء العنف والإرهاب”! أي أنه لم تجد مناشدات مسيحيي فلسطين المحرجين والعرب الذين خاب ظنهم الساعية لسحب مواقف الفاتيكان و لو قليلاً باتجاه قضيتهم… وإجمالاً، ذوت آمال مسقطيها على الآخر الذي هو ليس ولن يكون هم، فكانوا، وهم غرقى العجز، مثال المتشبثين بقشة ليست لهم أو معهم، وبدى أنهم قد نسوا تاريخاً مديداً من الحياد السلبي للفاتيكان تجاه القضية الفلسطينية استمر منذ النكبة، تدرج في العقود الأخيرة إلى حيث الإعتراف بإسرائيل… تجاهلوا مسلمات الغرب الإسرائيلية بشقيه المسيحي والملحد، ودوره، لاسيما كنائسه، في الضغط المبكر والمستمر لتحييد الكنيسة المحلية كمؤسسة إزاء الصراع في بلادنا ومنذ بدايته… دوره ودورها، إن لم يكن تشجيع التهجير الطوعي للمسيحيين الفلسطينيين بالذات، فتسهيله عبر تسهيل توطينهم في العالم الجديد والقديم معاً، فيما بدا أنه إنما سعيٌ لإخلاء الديار المقدسة لشعب الله المختار، حيث لم يبق من 12% من نسبتهم في الشعب الفلسطيني إبان النكبة إلا ما يقل عن نسبة 2%… مائة وثلاثين منهم في المحتل من فلسطين عام 1948 وخمسون في الضفة وغزة… ونسوا أيضاً ما لعب الفاتيكان من دور كأداة غربية إبان ما كانت تعرف بالحرب الباردة!
زيارة البابا كانت حجيجاً سياسياً لم يرض أحداً… فهو إذ أحرج المسيحيين العرب، وخيّب آمال البعض من المسلمين قد أغضب الإسرائيليين… هؤلاء الذين لن يرضيهم ولن يسترضيهم هذا الحاج، إلى الديار المحتلة، بما تعنيه مكانته وما كان منه حتى لو تنازل لهم عن واحدة من أسس المعتقد المسيحي كقضية “صلب السيد المسيح”، فافتى، مثلاً، بأن مجرد ذكرها أو ذكر فاعليها هو نوعٌ من معاداة السامية… المسيح الذي لو قام أو عاد اليوم لأوقفه هؤلاء مع من يوقفونهم من شعبه على حاجز من حواجزهم الاحتلالية المتكاثرة على درب الجلجلة الفلسطينية المستمرة!