صانعو التاريخ هل يحمونه من أعداء التاريخ!

عادل سمارة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1899)

بما يفوق مصطلح “المجتمع المدني” في عصر وحشية راس المال الأميركي خاصة، يجري تداول مصطلح “عصر السرعة”. وغالباً يُقصد بهذا لُحاق تطورات العالم في العلوم البحتة، ولملمة الثروة والسيطرة والقوة. ولكن عصر السرعة نفسه، أو حتى السرعة نفسها، وهي حالة زمانية مكانية، هي في خطر حقيقي ومحدق وتحتاج كذلك لسرعة في إنقاذها لأن هذه السرعة تحمل العالم على كفها. نعم عالم اليوم، عالم الراسمالية وخاصة المعولمة، هو على كف عفريت السرعة الذي تقودها النخب الأميركية الخطرة والمتوحشة.

النخبة الممولنة

النخبة السياسية

النخبة الصناعية

النخبة الثقافية (والأصولية)

والنخبة العسكرية.

لا توجد كوابح لتخفيف ولا عقلنة عصر السرعة الأميركي/الراسمالي بالطبع، فهي سرعة وراء سراب الربح الذي لا قمة له. فبلوغ جنة الربح هو هناك عند سدرة المنتهى…ولكن من بوسعه الانتهاء هناك!

طاردتني هذه المعالجة حين كنت أقرا صباحاً متى تكوَّن علم التاريخ، علم العلوم، وعاء حياة الأمم، شغلها، معاناتها، آلامها، اغترابها، ثوراتها، حبها وحربها…الخ. قد يقول البعض إن الفلسفة هي أم العلوم. لا، التاريخ هو علم العلوم ومحتواها، أما الفلسفة فهي وعي التاريخ.

*

رغم المقاومة المتوحشة من المركزانية الأوروبية، إلا أنها استسلمت لحقيقة أن التاريخ بدأ في سومر، وليس بهرودوت، أو ول ديورانت ولا حتى هيجل الذي يعتبر أب فلسفة التاريخ والذي اعتبر الأمة التي وضعت التاريخ، أمة بلا تاريخ[1]! نعم، لا عجب أن يكون الأب الروحي للنازية. لقد اسعفت الإنسانية تلك الآثار العمرانية والمخطوطات الطينية لينجو من تشويهه بل سرقته على يد المركزانية الأوروبية سارقي التاريخ ومغربنيه. لا أنطق هنا عن الهوى، ألم تتم سرقة عيسى بن مريم ليبدو أوروبياً غربيا انجلو ساكسونيا وفرانكفونياً. هو نفسه المسيح الآرامي الذي لا شك كان اسمراً من حرارة أريحا، خلقوا له لوناً آخر بل ديناً آخر. شكراً للحجارة التي أنقذتنا، وربما لهذا امتدت قدسيتها منذ ستة آلاف سنة من تماثيل بابل إلى حجارة الانتفاضة، أما الطين فالإنسان منه.

بدأت الدولة في سومر. بدأت هناك الحاجة لتدوين التاريخ، ولدت تلك الحاجة أول ما ولدت في سومر وأور. وكما يقول حسين هنداوي: “لا نعرف حجم الإضافة البابلية إلى الفكر السومري فالفكران يتداخلان إلى درجة التوحد أحياناً، في التصورات والمفاهيم، … بيد ان هناك قفزة ملموسة حققها البابليون على صعيد فن التاريخ. فقد عرفوا، في فترتهم الثانية خصوصاً، تقدما كبيرا في هذا المجال، تجسده، نصوص لوائح إثبات تسلسل الملوك والسلالات الحاكمة وتسجيل أخبارهم ومنجزاتهم[2]“.

*

لكن التاريخ البطيء المتهادي والمثاقل، ولكن الباقي، الذي أنتجه الشرق، يحترق اليوم بعصر السرعة الأميركي. أميركا التي تريد للتاريخ ان يبدا بالهدم لا بالبناء، أن يبدأ بهدم البرجين القتيلين، وليس بإقامة الحدائق المعلقة.

يساعدنا هذا على فهم لماذا لم ينحصر تكليف الجندي الأميركي باحتلال العراق بل بهدم آثاره ونهب متاحفه، والتعامل مع مواطنيه كما لو لم يكونوا بشراً. هل هو حقد من يحاول اقتناء العالم بأسره وسرقته على من اسس هذا العالم؟ يبدو الأمر هكذا!

عصر السرعة الأميركي، المحافظية الجديدة[3]، تسعى بالعالم إلى معركة مجدو، يتنتهي البشرية والتاريخ معها، وهو ما ردده قادتها كثيراًً في حقبة العولمة. هذا العقل المريض الذي يريد ان يحكم العالم بالمحارق وليس بالفن والنقش والكتابة على الطين! هذه النخب الأميركية تريد ذبح العراق لأنه أنشىء التاريخ.

بالأمس، رفض الكونجرس، وبأكثرية الديمقراطيين، كشف “الإبداع الأميركي” في التعذيب في معتقل غوانتاناموا، واقر 91 بليون دولار للحرب المستدامة في أفغانستان والعراق؟

ما معنى هذا؟

وبالأمس زار نائب الرئيس الأميركي لبنان رغم أنف رئيسه، أو بدسيسة مع رئيسه! زيارة بهدف التدخل الوقح في الانتخابات اللبنانية؟ فهل لبنان دولة مستقلة؟ كلا، فالاستقلال هو بالموقف وليس بحجم الجند.

وقبل ذلك اليوم بيوم نشر الأبيت الأبيض لقاء صحفيا ل اوباما ونتنياهو، لقاء يُقرأ “غزلياً” كما يُقرأ سياسياً. لم يختلفا في كلمة واحدة، فلو تحدث أحدهما عن الإثنين لجاز ذلك بسهولة. والإثنين يمثلان مشروعاً لمحرقة البشرية. الصهيونية والإمبريالية الأميركية، كره البشرية ونهبها، فالويل للتاريخ وأهله منهما .

أوباما: “إن على الدول العربية الأخرى أن تكون أكثر دعماً وأن تسطع في البحث عن إمكانات التطبيع مع إسرائيل. وفي الاسبوع المقبل سيأتيني الرئيس الفلسطيني ممود عباس والرئيس مبارك وساسلم هذه الرسالة لهما

إذن سيواصل أوباما تركيع الفلسطينيين ومسح التاريخ من العراق، أو العراق من التاريخ، إن أمكنه ذلك.

نتنياهو: إذا ما اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية، وإذا ما – إذا ما قاتلوا الإرهاب، إذا ما ربَوأ اولادهم على السلام ومستقبل أفضل، عندها أعتقد أننا سنتوصل إلى سلام ملموس يسمح لشعبين بالعيش جنباً إلى جنب بأمن وسلام ، وأُضيف أنا ازدهاراً، لأنني أنا مؤمن كبير بهذا[4].

ما يطلبه هذا المستوطن هو أن نعلم ابنائنا بأن يكونوا عبيداً له! لم يكن هذا ممكناً قبل عصر المقاومة، في عصر الذل، وقبل عصر الكمبرادور، وقبل عصر طوفان الأزمة الممولنة في المركز. ولكن، علينا أن نتذكر جيداً أن الوحش ما زال بأنيابه. لا بأس عشنا حقبة سوداء من مسيل دمائنا واغتربنا عن الأمن والأمان، لكنكم في طريق الاغتراب عن التاريخ.


[1] لا يقلل من المساهمة المبكرة لسومر وبابل في خلق التاريخ، التفافات بعض مؤرخي الغرب على ذلك كقول صموئيل كريمر: “إنه اضمن للحقيقة أن يقال ان السومريين لم ينتجوا طرق تدوين التاريخ، بالمعنى المقبول لهذا المصطلح. فالمؤكد أنه ما من أحد من أهل الأدب السومريين قد كتب التاريخ كما يفهمه المؤرخون المحدثون، أي بموجب اساليب موضحة وكاشفة ، ومبادىء وقواعد اساسية” . ص. ن. كريمر، “من ألواح سومر” ترجمة طه باقر، دار المثنى -الخانجي، بغداد – القاهرة، ص 89. في حسين هنداوي، التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيجل، منشورات دار الساقي، 1996: 14.

[2] حسين هنداوي، التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيجل، منشورات دار الساقي، 1996، ص 15.

[3] من أشد المفارقات أنه في اليوم الذي قرر الكونجرس، وهو ممثل النخب الخمس المتغولة في أميركا برز دونالد رامسفيلد وزير الحرب الأميركي لاحتلال العراق ليبرر تدمير العراق بآيات من الإنجيل. (22 ايار 2009.) لا ندري إن كان هذا إنجيل عيسى أم إنجيل جورج بوش! ولكن، هل هو مجتمع مدني الذي يقبل بهذه الشعوذة؟ ومتى؟ في عصر المعلومات والعلوم وسباق عصر السرعة، ولكن يبدو أن السرعة تسمح لكل شيء بالمرور!

[4] THE WHITE HOUSE, Office of the Press Secretary, For Immediate Releas, May 18, 2009, REMARKS BY PRESIDENT OBAMA, AND PRIME MINISTER NETANYAHU OF ISRAEL.