عبد الحميد صيام
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1905)
ماذا يمكن أن يقال في نكبة عايشتها أجيال وراء أجيال وكل سنة وكل شهر وكل يوم وكل ساعة تحمل في طياتها نكبة جديدة أو نكبة متجددة؟ كلما نهض جيل ليحمل الراية تعثرت خطواته وواجه عقبات لها أول وليس لها آخر من خصم أمام عينيه وخصوم من خلفه يشحذون سكاكينهم ويدربون كلابهم المسعورة. كانت الأمة في حالة ضياع وفرقة. وكان الاستعمار يجثم على صدور معظم أبناء الأمة العربية وحدودها المصطنعة. بل إن الدول التي كانت تُـُسمى مجازا مستقلة كان الأجنبي يتحكم في مفاصلها ويضيّق الحبل على العنق إن شاء مده قليلا وإن شاء جذبه بحزم حسبما تقتضيه مصلحته، وبعد واحد وستين عاما تبخر الاستقلال وتعمقت التبعية وتجذر التخلف وزادت الشظايا بعثرة.
النكبة صنعها الغرباء لكن الجسم العربي كان باليا فتقبلها بسهولة، والنكبة نسجتها حبال الأقوياء المدججين بمنطق القوة والظلم ووقع ضحيتها الأبرياء المعدمون وثبتها الإخوة الحاضرون الغائبون. كان يمكن للخطئية أن تصحح وللموجوع أن يعافى وللطائر المهاجر أن يعود إلى عشّه وللأم أن تحضن ولدها في بيتها بأمان وللفلاح أن يعود ليعانق أرضه لو كان الرد على النكبة يتميز بوعي شمولي وقيادات ذات رؤية صحيحة والتفاف جاد حول الهدف. غير أن النكبة تجذرت أكبر في غياب القيادة وانعدام الرؤية السليمة في المنطقة برمتها ولاختلاف المسالك والمشارب والأهواء فلسطينيا وعربيا. كان يمكن تصحيح المسار لو كان هناك رافعة وطنية متينة تلتف الأمة حولها وتقود مسيرتها، وعندما وجدت تلك الرافعة بعد سنين، تكالبوا عليها وأوقعوها في عشرات الحفر وحطموها ثم ‘وراء الجــــنازة سارت قريــش فهذا هشام وهذا زياد’، لكنهم فرحوا لغياب من كان يحرجهم لأن بوصلتة كانت دائما تشير نحو الأعداء الثلاثة. وانتصر بعد غيابه البترول وكم هو جبان ذلك السائل اللعنة.
وعندما تلاقت سواعد الفقراء من أبناء المخيمات والمشردين والمثقفين الجدد لتصحّح شيئا من التاريخ زجوا في معارك جانبية وخلافات قبلية فاستفزوا في ساحات غير ساحتهم وفي معارك ليست جزءا من معركتهم. استهلكت تلك المجموعة النظيفة الجادة في تفاصيل الوضع العربي فاصبحت مطاردة ملاحقة من كل أجهزة المخابرات، فآثرت بعض قياداتها الرخوة أن تتكيف مع الوضع البالي لا أن تكون نقيضا له.
واحد وستون عاما وهم يأخذون بأسباب العلم والتكنولوجيا وأمتنا تواجههم برزمة من الحروب الداخلية والاستقواء بالأجنبي وبالتضييق على أبناء المخيم أكثر وأكثر. هم ثبتوا القطع المسروقة ونحن ضيعنا حتى الجزء الذي بقي في أيدينا. هم انتهزوا كل فرصة ونحن لم نترك فرصة دون أن نضيعها مرة وراء مرة. هم كانوا وما زالوا يعرفون تماما ما يريدون ونحن ما زلنا نعيش على وهم التعايش وسراب السلام ونصنف الهزائم انتصارات. هم نجحوا في إدخال الهزيمة إلى قلوب الأنظمة واحدا تلو الآخر فأغلقوا حدودهم وأعفوا المحتل من تلك المسؤولية ثم استداروا واصطفوا معه حتى وصلت السكين عنق غزة فوقفوا يتفرجون على دمها المسفوك ببلاهة غير معهودة أو يشاركون في الجريمة باسم الحرص على دم من هو مسفوك دمه .
النكبة لحقت بها نكبات
ونكسات وانهيارات وشرذمات
النكبة أصبحت سطورا في الصفحة الأولى في دفتر المعاناة الكبير. ففي عام 1967 ولدت نكبة جديدة من رحم النكبة الأولى. وقيل لنا يومها لقد خرج العرب منتصرين لأن الأنظمة الوطنية لم تسقط. ثم ما لبثت أن حلّت نكبة أخرى يوم انهارت المقاومة في الأردن وخسرت الحضن الدافئ الذي ضمها لأكثر من ثلاثة أعوام. وما لبثت المأساة أن تكررت في لبنان وسورية وخسرت المقاومة الدعم الشعبي الشامل لكثرة ما سُمي وقتها بالتجاوزات. أغرقت البترودولارات جيوب الكثيرين فتحول البعض إلى مقاولين بدلا من مقاومين، ونزلاء للفنادق بدل الخنادق. لقد تعززت المعارضة للوجود المقاوم في لبنان فسهل اقتلاع الثورة ودفعها لركوب البحر إلى مناف جديدة. صمود بيروت الذي فرضه عدد من القادة الميدانيين لم يغير شيئا في النتيجة النهائية. وقيل يومها إن المقاومة انتصرت وإن حلف الناتو يدرّس في أكاديمياته تجربة صمود بيروت. وقال السرطاوي يومها في مؤتمر الجزائر إن مؤتمركم القادم سيكون في جزر الفيجي فأسكتوا صوته إلى الأبد. وقال المغني يومها بصوته الحزين ‘لا راية بيضا رفعنا يا بيروت’ وكأن عدم رفع الراية البيضاء بل رفع الإصبعين بشارة النصر يعني أن هناك انتصارا قد تم بالفعل. والانتصارات تلك رآها العالم كله في أيلول (سبتمبر) في مخيمين صغيرين قرب بيروت واحد يدعى صبرا والآخر شاتيلا.
النكبة تكرست أثناء سنوات المنفى عندما فكّت الثورة سور العزلة عن الذين تصالحوا مع العدو وأخرجوا في كامب ديفيد كنانة الأمة من ساحة الصراع بعد أن كان الموقعون على وثيقة الهوان معزولين وخائفين بعد حادث المنصة.
النكبة تكررت عندما اصطف بعض القادة مع من يحتل بلدا عربيا آخر ويلغيه من الخارطة، فاستخدم هذا الموقف الغريب حجة لطرد أربعمائة ألف فلسطيني كانوا يعيلون مليونين آخرين. وسئلوا يومها كيف من يقاوم احتلال بلاده يقف مع احتلال بلد آخر؟
حاولت الانتفاضة الشعبية العفوية أن تصحح بعض الخراب الذي أنتجته النكبات المتلاحقة غير أن الالتفاف عليها سرعان ما كتب نهايتها في مدينة في أقصى الشمال الأوروبي تدعى أوسلو.
أوسلو كانت وما زالت أم الكوارث ونكبة النكبات ومصيبة المصائب. لقد عبّدت القيادة الطريق للاتفاقية بعد أن أعلنت من منفاها في الجزائر بقبول شروط كيسنجر. ومقابل الاعتراف والتخلي عن ‘الإرهاب’ أعلنت ‘باسم الله وباسم الشعب’ قيام دولة فلسطين. ولم يمض وقت طويل حتى تبيّن كارثية إعلان دولة الوهم والثمن المطلوب دفعه لجلوس سفير أمريكي في تونس مع قائد من الدرجة الرابعة لا يقود أحدا.
القائمون على دولة الوهم تلك اختاروا أن يدخلوا إلى قفص يملك السجان مفتاحه الوحيد واصبحت مهمة الدولة الوهم ضبط الأمن داخل السجن الكبير كي يعفى السجان من تلك المسؤولية.
النكبة تعززت وتجذرت عندما سوقوا اتفاق أوسلو على أنه رخصة دولية لإقامة الدولة المستقلة والحقيقة أن الاتفاق تحدث عن سلطة فقط في أجزاء من الأراضي المحتلة قسمت إلى ألف وباء وجيم وعن إعادة انتشار لا انسحاب مما يعني ضمنا وطواعية التخلي عن الوطن الجميل، الوطن الذاكرة الوطن التاريخ، والقبول ضمنا وطواعية ودون مقــــابل التخلي عن ثلاثة أرباع الشعب في منافيهم الشتّى، والقــــبول ضمنا وطواعية ودون مقابل أن يوصف الكفاح العربي لحل النزاع بأنه ‘إرهاب’ ذميم وأنهم سيتخلون عنه وعن العنف وعن التحريض. أصبح المطلوب والمقبول أن يتغزل المحتلون بجمال ورقة وعدالة الاحتلال.
قيل لهم يجب أن تغيروا الخرائط فغيروا، وأن تبدلوا المناهج فبدلوا، وأن تسهروا على راحة وأمن المحتل فسهروا، وأن تسموا المناضلين بعد ذلك الاتفاق إرهابيين فسموهم بالمشاغبين والعبثيين والمتطرفين والخارجين عن القانون- قانون أوسلو.
استمرت الكارثة تولـّد كوارث والمصيبة تلد مصائب حتى انفجر الشعب الفلسطيني غاضبا وأطلق انتفاضته الثانية ليصحح شيئا من الخراب. لكن الخراب كان قد عمّ كل مفاصل الجسد. هم كانوا يتجهون نحو التطرف والمغالاة في العنف لأنهم يعرفون ما يريدون.. والقيادة العتيدة تتجه أكثر نحو الهوان والفساد والبعثرة. وعندما وضعت وثيقة الاستسلام النهائي في كامب ديفيد الثانية اكتشفوا ضخامة المصيبة التي ورطوا أنفسهم وشعبهم فيها وكانت النتيجة حبات من السمّ لإنهاء مرحلة التردد والمراوحة واللعب على التناقضات. واختاروا بعدها قيادة من صنعهم وبروزها في إطار وقالوا للشعب هذه قيادة تخدم مصالحنا لا مصالحكم ونحبها نحن حتى لو كرهتموها أنتم وواثقون منها حتى لو لم تثقوا فيها أنتم، فنحن أصحاب القرار ونريد قيادة رخوة تفاوض من أجل المفاوضات، وتصمت حين يذبح الشعب وتدين وتشجب وتصرخ عندما تطلق ‘فشكة’ فارغة في الاتجاه الآخر. فما كان من الشعب إلا أن وجه لطمة حامية لتلك المجموعة صباح الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) بعد سنة تماما من تغوّل اتجاه التماهي مع الخصم. وبعدها تحرك أبرام إيليوت والجنرال دايتون وعقدوا العزم مع نظرائهم من شباب أجهزة الأمن الثمانية على محو تلك اللفتة الجماهيرية العقابية دونما نجاح. فأوكلت المهمة إلى جنرالات الفسفور والقنابل الفراغية وطائرات الأباشي والأرض المحروقة فسطروا نكبة أخرى للأجيال التي ولدت بعد ستين عاما من النكبة الأولى.
النكبة ما زالت ‘تفقس’ نكبات كل يوم. نراها في حصار شعب بأكمله وفي الجدار العنصري وحواجز الإذلال ودرن الإستيطان وتهويد ما تبقى من عروبة القدس وهدم المنازل وافتتاح سجون جديدة لاستيعاب أعداد أكبر من المناوئين للاحتلال ومن محبي وطنهم وشعبهم ومع هذا يعلنون التمسك بعملية السلام والمفاوضات بينما تقوم الجرافات بهدم أحياء بكاملها في زهرة المدائن.
النكبة تعززت أكثر ونحن نشاهد فكي كماشة الحصار أحدهما من ذوي القربى تخنق غزة صباح مساء. النكبة تعمقت ونحن نشاهد الباحثين عن حلول يستجدون مرة رايس ومرة كلنتون ومرة بنيدكت السادس عشر ومرة سولانا ولكنهم يديرون ظهورهم لجباليا ونهر البارد والبقعة والنيرب وعين الماء وبلاطة وعايدة وعين الحلوة. النكبة اتسعت وتشعبت ونحن نشاهد الابتسامات والتحاضن والصور التذكارية مع الخصوم والقطيعة وهدم الجسور وإغلاق الأبواب مع أبناء الوطن.
أو بعد هذا نقصــــر اسم النكبة على كارثة 48؟ فالنكبة الأصلية ولـّّدت نكبات فرعية قد تزيد عليها ضراوة وقسوة. أينما وليت وجهك تعثر على نكبة لم تكن قد انتبهت إليها من قبل.
وأكبر نكبة حلت بالشعب الفلسطيني منذ أكثر من واحد وستين عاما هي في قياداته المتعاقبة. قيادات تنقصها الرؤية الصحيحة والوعي الشمولي والتصميم الجاد والعزم الذي لا يلين والتحليل الصائب والتمسك بالوطن وتلك لعمري أمّ النكبات.
بعد واحد وستين سنة ألا يستحق هذا الشعب قيادة فذة عصيّة على الكسر قادرة على لملمة الشظايا وتوحيد المبعثر والانطلاق نحو هدف يجمع عليه الفـلسطينيون في كافة سجونهم ومنافيهم ؟
إن شعبا ينتج مفكرين بمستوى إدوارد سعيد، وشعراء بمستوى محمود درويش وروائيين بمستوى غسان كنفاني وفنانين بمستوى ناجي العلي وقادة ميدانيين بمستوى أبو على إياد وسعد صايل وقادة سياسيين بمستوى ماجد أبو شرار وقادة فصائل شرفاء بمستوى الحكيم ومصرفيين بمستوى شومان واقتصاديين بمستوى يوسف الصايغ لن يصاب بالعقم أبدا ولا بد أن ينتج قيادات على مستوى المسؤولية والتحدي توصله إلى برّ الأمان. ذلك اليوم ليس ببعيد وإن غدا لناظره قريب.
_______________________________
* أستاذ جامعي وكاتب سياسي يقيم في نيويورك
المصدر:”القدس العربي”