مازن كم الماز
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1907)
لم ينقطع الاحتفاء بعد بنتائج الانتخابات الكويتية الأخيرة. فبينما بدا أن كل شيء قد أخذ يعاند المنظرين الليبراليين العرب وعرابيهم السياسيين لا سيما مع اختفاء المحافظين الجدد المفاجئ ومع وقع الأزمة المالية و الاقتصادية العالمية سواء على شرعية وجدوى السياسات النيو ليبرالية أو على الواقع المعاشي والاقتصادي للناس ومزاجهم تجاه الأنظمة القائمة، جاءت الانتخابات الكويتية لتشكل تغييرا في المشهد، ليس فقط لأنها جرت في بقعة ترفض السلطات القائمة فيها حتى الأشكال الشكلية الفارغة من المشاركة أو المحاسبة الشعبية، بل بسبب نتائجها التي شهدت تراجعا للإسلاميين وانتخاب أول دفعة من النساء الكويتيات لمجلس الأمة.
هذه النتائج التي خالفت صعود الإسلاميين في الانتخابات المصرية والفلسطينية و حتى الكويتية السابقة، لكن يجب علينا هنا ألا ننخدع بالظاهر.
فالليبرالية كأي شيء في هذا العالم هي فكر أو ممارسة تتغير دون توقف. فالكويتيون و معهم الخليجيون أصبحوا بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 ليبراليين بالإكراه، بمعنى أنهم أصبحوا يرون في التفوق الأمريكي و الغربي العالمي والإقليمي الحامي الحقيقي لمستوى الحياة التي يعيشونها من مطامع جيرانهم خاصة الأقوياء منهم، وقد أصبح مثال إسقاط نظام صدام على يد المحافظين الجدد بتحريض وتمويل خليجي هام هو المثال النموذج للتعامل مع صعود قوى إقليمية غير مرتبطة بالمشروع الأمريكي الإسرائيلي أو منافسة له كإيران اليوم مثلا. هذه بالنسبة للخليجيين قضية وجودية، هكذا تفسر الليبرالية على أنها تبعية غير مقيدة بل وارتباط وجودي بالنفوذ الأمريكي الحاسم.
هنا تتعرض الليبرالية لتشويه مضاعف، فعدا عن أنها قد أصبحت غربيا حاملة لمطامع ومطامح الشركات متعددة الجنسيات وريثة الرأسمالية التنافسية التي استخدمت الليبرالية ذات يوم لمهاجمة سيطرة الأرستقراطية والكنيسة لتؤسس لسيطرتها هي، أصبحت عربيا وفي الشرق عموما محاولة للتعبير عن انتماء للعالم الغربي كنقيض لهوية المنطقة الحضارية أو العقيدية يشترطه في الخليج مستوى الحياة المرتفع وعند الموارنة اللبنانيين مثلا انتمائهم الديني وذات الشيء بالنسبة لليهود في إسرائيل. لقد عملت المارونية السياسية على تكريس فكرة أن الماروني ينتمي إلى الغرب لأنه مسيحي كاثوليكي وحولت تلك الهوية الغربية الموطنة محليا إلى مجرد حالة شكلانية تكرس هوية قبلية أو طائفية لا تختلف عن الهويات الطائفية أو الدينية المضادة إلا في الشكل بينما تتطابق معها بالمضمون. اليهود في إسرائيل أيضا قادتهم الدعاية الصهيونية ليعتبروا أنفسهم جزءا عضويا من ذلك الغرب رغم تاريخ الاضطهاد والإقصاء وحتى المجازر الطويل مع الغرب، واعتبار أن مصيرهم نفسه يتوقف على وجود قوة استعمارية خارجية متفوقة ومهيمنة.
الليبرالية هنا تنحط إلى شكل مذهبي أو طائفي الذي يعني أو يمكن اعتباره حالة قبلية أو عشائرية عقيدية، والذي يعادي الأشكال الأخرى العشائرية من الفكر أو العقائد العشائرية الطابع المعارضة أو المعادية، أي تلك المجموعات القومية أو الدينية أو الطائفية التي تعتبر نخبها الحداثة أو أية مراجعة للتعريف الأصولي للهوية مهما بلغت من تفاهة تهديدا وجوديا لها.
لذلك نجد أن الديمقراطية الكويتية قامت على شرط أساسي لا يمكن إعادة استنساخه في أي مكان آخر : وهو التسوية التاريخية بين السلطة القائمة لآل الصباح والتي احتفظت بالعرف السلطوي الذي يعتبر الحاكم مالكا للبلد وكل خيراته وبين الأرستقراطية القبلية والعشائرية والقوى المالية المرتبطة بها غالبا والتي مثلت منافسا تاريخيا لأسرة الصباح الحاكمة و لسيطرتها المطلقة على موارد الكويت خاصة النفط و التي فرضت شكلا مختلفا لحكم آل الصباح أو لمصدر شرعيته وهو شكل تمثيلي ديمقراطي تلعب فيه تلك الأرستقراطية دور الشريك الصغر لكن القادر على إزعاج السلطة منذ وقت مبكر يعود لثلاثينيات القرن العشرين. تمت هذه التسوية التاريخية بعد غزو نظام صدام للكويت والتي سبقها تعطيل السلطة للعمل البرلماني لفترة طويلة بمعنى استبعاد تلك الأرستقراطية عن أية مشاركة فعلية بعيدا عن إرادة و قصر ودواوين الحاكم، و قد فرض هذا الواقع تطور الأرستقراطية القبلية الكويتية و المراكز المالية المبكر والدور المحدود جدا للمؤسسة الدينية في تشكيل الدولة أو في بنيتها كما في السعودية مثلا، بعد التسوية التاريخية تحول النيباري والربعي مثلا إلى دعم الحكومة التي تعبر عن سيطرة آل الصباح بل وحتى إلى المشاركة فيها.
هناك شرط أساسي سمح لهذه التسوية وهو الوفرة المالية التي جعلت رشوة الأرستقراطية العشائرية ممكنة وحتى توفير مستوى حياتي عالي للناس العاديين لا يمكن توفيره في أي دولة أخرى لا تملك صناعة متقدمة أو لا تنتمي أساسا للعالم المتقدم صناعيا. مرة أخرى لعب غزو نظام صدام للكويت دورا حاسما في تنبيه الكويتيين، خاصة الأرستقراطية العشائرية، إلى الخطر الوجودي للأنظمة القوية المجاورة، هذا “الوعي” الذي نراه ظاهرة مميزة لكل المجموعات اليوم ولا يقتصر فقط على الأقليات القومية أو الدينية والذي هو من جهة نتاج حالة موضوعية هي بداية صيرورة عملية تغيير حالة الركود السابقة، وهي عملية ضرورية استنادا لأزمات حالة الركود السابقة ومن جهة نتاج واعي إرادوي لقوى تريد الإبقاء أو الاحتفاظ بسيطرتها على الجماهير وعلى الواقع سواء المركز الرأسمالي الغربي أو النخب المهيمنة محليا.
لقد لعب الإسلاميون مؤخرا في الكويت كما في كل مكان آخر دور المشاغب الأساسي على السيطرة المطلقة للأنظمة القائمة، ومن المؤسف أن نتائج الانتخابات الكويتية الأخيرة مثلت استبعادا لتلك الأصوات المشاغبة على الفساد المستشري في السلطة لصالح مجلس أكثر رضوخا وقد كان هذا قرار واع للأرستقراطية العشائرية التي قررت سحب دعم القبائل للإسلاميين ومنحه للموالين للحكومة، وهذا لأن من يسمون أنفسهم بالليبراليين العرب انتهوا، أو ولدوا، كجزء من ماكينة السلطة القائمة، محليا أو عالميا، ومعركتهم هي معركة بقاء هذه القوى محتفظة بهيمنتها سواء ضد القوى المنافسة الداخلية أو الإقليمية أو ضد احتمالات التغيير الشعبية.