أضلاع مثلث احتقار العرب و المسلمين

د. ثائر دوري

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1911)

تتفق ثلاثة أطراف على نظرة موحدة سلبية للتاريخ العربي – الإسلامي، فتكيل له مختلف الاتهامات بدءاً من تهمة التخلف و البداوة، وانتهاءً بإنكار أي دور حضاري للعرب والمسلمين في التاريخ البشري، واعتبار الإسلام ديناً بدوياً مدمراً حمله بدو أجلاف فدمروا الحضارات التي كانت قائمة في بيزنطة وفارس…..الخ.

إن حاملي هذه النظرة السلبية للتاريخ العربي الإسلامي يأتون من ثلاثة منابع بعيدة عن بعضها، و يبدو – للوهلة الأولى – مستغرباً أن تصب مع بعضها في نفس المكان، وهذه الأماكن هي: مدرسة المركزية الغربية خاصة بشقها الليبرالي و الليبرالي الجديد، ثم الماركسية التقليدية، وأخيراً الفكر الطائفي.

يتبنى أتباع المركزية الغربية، وخاصة شقهم الليبرالي الليبرالي الجديد، وجهة نظر هذه المدرسة تجاه الحضارة العربية – الإسلامية، فهم يرددون خلفها قائلين إن عشرة قرون سادها العرب – المسلمون هي عصور ظلام وتخلف، فقد توقف التاريخ قبل أن تنبعث حضارة اليونان من جديد في الغرب المعاصر، وبالتالي فإن الحضارة العربية الإسلامية لم تقدم للبشرية شيء بل على العكس إذ أن العرب حطموا الحضارات القائمة المزدهرة سواء الحضارة الآرية الساسانية، أم الحضارة البيزنطية سليلة الحضارة اليونانية فعم الظلام على البشرية.

وأما الماركسي التقليدي من أتباع نظرية المراحل الخمسة للتطور البشري، فهو يعتبر استناداً إلى نظرية “المراحل الخمس”، وتوأمها “نمط الإنتاج الآسيوي” أن الرأسمالية انبثقت في أوربا لأن نمط الإنتاج الاقتصادي – الاجتماعي هناك يحمل ديناميكية خاصة ساعدته على تحقيق القفزات الحضارية الكبرى مقابل دوران نمط الإنتاج الآسيوي في حلقة مفرغة من التطور، وبالنتيجة جمود هذا النمط وعدم قابليته لتحقيق نقلة اقتصادية – حضارية من داخل البنية وهنا يقف الماركسي التقليدي إلى نفس الأرضية التي يقف عليها سليل المركزية الغربية. ويصير الفرق بين الطرفين كمياً لا نوعياً، وبالتالي يمكن اعتبارهما طيفين لفكر واحد. وما زاد الطين بلة هو الموقف الماركسيين الطفولي من الدين، فقد بسطوا الأمر إلى عبارة “الدين أفيون الشعوب” وهي عبارة قالها ماركس في سياق أوسع، و يخص بها الكنيسة الكاثوليكية التي كان مؤسسة إقطاعية مهيمنة في الغرب، وبالتالي تحولوا على أعداء للدين ولخصوا عشرة قرون من الحضارة العربية – الإسلامية بجانب ديني بحت. كما لا ننسى أن نشير إلى نقطة ثالثة ساهمت في صياغة هذا الموقف السلبي من الحضارة والتاريخ العربي – الإسلامي لدى الماركسيين التقليديين، وهي اقتراب ماركس من فكر المركزية الغربية في كثير من الأمور منها نظرية المراحل الخمس نفسها، ونمط الإنتاج الآسيوي، فالنظريتان تعتبران ضمناً أن أوربا هي مركز العالم عبر العصور فبما إن المراحل الخمس كانت موجودة في تاريخ تطور العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية في أوربا فلابد أنها نظرية التطور البشري ومن لم يكن من المجتمعات كذلك حُشر في “نظرية الإنتاج الآسيوي”. وإن اقتراب فكر ماركس من المركزية الغربية دفعه إلى تقييم الاستعمار البريطاني للهند ايجابياً لأنه ساهم في كسر بنية الهند المغلقة التي تراوح مكانها و بالتالي وضعها على طريق التطور وإن بكثير من الآلام!

وأما المنبع الثالث لاحتقار التاريخ العربي – الإسلامي في واقعنا الراهن فهو الفكر الطائفي الضيق، فحسب هذا الفكر فإن الإسلام الحقيقي قد انتهى باغتصاب بني أمية ومن تلاهم السلطة، وبالتالي ينظرون إلى أكثر من ألف عام من التاريخ على أنها عبارة عن تاريخ مظالم وقمع واضطهاد، ويتجاهلون المنجز الحضاري الهائل بغض النظر عمن حكم وكيف حكم، فالدولة التي حكمت العالم المعروف في ذلك الوقت من الأندلس إلى الصين وأقامت حضارة هائلة لا قيمة لأنها مغتصبة للسلطة!

تصب كل هذه الأنهار في مستنقع واحد كبير فتمتزج مياهها حتى يضيع طعمها على الشارب، فيختلط الخطاب الطائفي بالماركسي بالليبرالي القديم والجديد. فمن يدعو لقيم الحداثة وتقليد الغرب يمكنك بمجرد حك جلده الحداثي أن تكتشف فكراً طائفياً حتى النخاع، ومن يدعو إلى الماركسية يمكن أن يكون مجرد معاد للعرب والمسلمين، أو من أتباع المركزية الغربية، وقد يستخدم الطائفي مفردات وتعابير من نحت المركزية الغربية، فقد سمعت مدهوشاً أحد المعممين الذي اشتهر بعمله مستشاراً لبريمر في العراق يتحدث عن علاقة الدين بالسلطة وعن التاريخ العربي – الإسلامي بمفردات وتعابير لا يستخدمها إلا الليبراليون الجدد، ولا تصدر عن رجل دين إلا إذا كان يتحدث عن دين آخر!

ثم تأتي الشمس فتتبخر مياه هذا المستنقع مختلطة المصادر وسرعان ما تتحول إلى غيوم تمطر فوق عقول الناشئة من طلاب المدارس الثانوية والجامعات. فتصير أيديولوجيا احتقار التاريخ العربي – الإسلامي أيديولوجيا شعبية مبسطة سائدة يتداولها الشباب كما يتداولون الكلام عن كرة القدم. لو أن مؤسسة ما أنجزت بحثاً عن صورة الذات الحضارية لدى طلبة الجامعات العرب لرأينا العجب العجاب. إن صورة الذات بالغة التدني لدى جيل يُعول عليه أن يحمل مشروع نهوض أمته، فكيف يستطيع أن يفعل وهو يعتقد جازماً أن تاريخه مظلم، وأنه عبارة عن سلسلة متصلة من المجازر والصراع على السلطة بين الأخوة أو الأبناء أو بين الآباء والأبناء. وكيف يستطيع جيل النهوض بأمته وهو يجزم أنها أمة متخلفة تخلفاً أزلياً وأنها لم تفد الحضارة الإنسانية بشيء!