هل ينفصل جنوب اليمن؟

موفق محادين

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1914)

كثيرا ما يستخدم الانعزاليون العرب تجارب الانفصال العربية للتأكيد على ما يعتبرونه وهما قوميا، وها هي أحداث جنوب اليمن تغذي لديهم هذه النزعات، فهذه الأحداث – كما تؤكد المؤشرات والمعطيات والمعلومات – ترسم صورة لما يحدث هناك وتظهر إن الغالبية الساحقة من أهل الجنوب تفضل العودة إلى ما كانت عليه عندما كانت دولة مستقلة، تعيش على شاحنات الأسلحة والبطاطا الروسية.. فما هو سر هذا الحنين لعالم لم يكن ورديا في كل الأحوال وبما يذكرنا جميعا بالمثل الشعبي الدارج عند كل العرب ما دفعني على المر إلا الأمرّ منه. فالمسألة لا تتعلق بمزاج قومي ناقص ولا بمزاج قطري كياني ولا بخيانات جماعية ما ولكنها تتعلق بملاحظات (سريرية) من نوع آخر.

ذلك إن الوحدة لم تقم أصلا بين الشمال والجنوب كما لم تقم من قبل بين مصر وسورية ولعلها لم تقم كذلك بين الأردنيين والفلسطينيين وبين السوريين واللبنانيين.. الخ بل إنها لم تقم أصلا بين الشماليين أنفسهم ولا بين اللبنانيين أنفسهم… وهكذا ولا يزال المثال العراقي حاضرا وساخنا، فما أن سقطت الدولة العراقية المركزية بسبب العدوان الأمريكي حتى تناثرت مكونات العراق – طوائف وعشائر وقوميات.

وبهذا المعنى فحنين جنوب اليمن إلى الانفصال ليس ناجما وحسب عن تباين التجربة الحزبية بين الشطرين ولا عن تباين تأثيرات الاستعمار البريطاني في عدن عن علاقة الإمامة الشمالية مع المركز العثماني، بل عن غياب الشروط الموضوعية للوحدة، وعن الخلل المعرفي والأيديولوجي وخاصة اليساري القطري، الذي وضع الانفصال الموضوعي مقابل وحدة (نظرية) يسهل محاكمتها وإعدامها.

وسبق أن كتبت انه إذا كانت المطابخ الرأسمالية الدولية الإستشراقية والتجسسية من هارفارد إلى وزارات الخارجية، قد سامحتنا بالرنين الأيديولوجي من الماركسية إلى الليبرالية فقد حجبت عنا ضوء (علم الاجتماع) والجغرافيا السياسية مكتفية بتصديرات أكاديمية بائسة وفقيرة، فعلم الاجتماع المعرفي وكذلك السياسي هو الكفيل بأدق التشخيصات الضرورية لواقعنا ولشروط الوحدة الحقيقية.

وبهذا المعنى، وحيث غرقنا في متاهات الأشكال السياسية والأيديولوجية لوحدات مزعومة، غابت عنا الشروط الموضوعية لها، وغابت معها التشخيصات الحقيقية للهويات والكيانات القطرية بوصفها مجاميع رملية (لا تندمج ولا تتوحد ولا تذوب) تتوحد في إطار أشكال سياسية اسمها الدولة كناظم مركزي خارجي من دون آية دينامية داخلية، فما أن تسقط هذه الدولة حتى تعود المجاميع البشرية إلى عناصرها البدائية الأولى: طوائف وعشائر وعائلات وهكذا لن يتوحد أي شطر مع أي شطر آخر مهما ارتفع صوت الوحدة المقدسة في ضوء غياب الشروط المدنية لوحدة الشطر نفسه.. ولا مناص ولا بديل في الحالات العربية كلها من العودة إلى مفتاح وجودنا القومي التاريخي وهو الخبرة الإمبراطورية الأمويّة والعباسية، فإما أن نكون أبناء إمبراطورية عربية ممتدة من المحيط إلى الخليج أو لا نكون أبدا.