الجامعة العربية وخطابات الجامعات الثلاث: “دولة معدّلة” تدفن مبادرة محنطة!

عبد اللطيف مهنا

هل هي مناورة متذاكية رغم علم أصحابها سلفاً بأنها ممنوعة من الصرف إسرائيلياً، أم هي خطوة تنازلية جديدة تلحق بما سبقها من تنازلات ألحقت أفدح الضرر بقضية قضايا الأمة العربية العادلة في فلسطين، وأثخنت وجدانها بالجراح وألحقت بكرامتها المهانة المزيد من الإذلال؟

لعل هذ السؤال، هو أول ما يتبادر لذهن المواطن العربي، وهو يستمع إلى بيان مجلس وزراء خارجية الجامعة العربية الأخير، المنعقد بمن حضر، أو الذي لم يحضره إلا عشرة وزراء منهم، إذ كان المتغيبون هم اثنا عشر، أو وهو يشاهد على شاشات التلفزة المؤتمر الصحفي الذي أعقبه، الذي قدّم وفسّر وبرّر فيه الأمين العام للجامعة حصيلة هذا الذي توصلوا إليه في اجتماع كان برنامجه هو، كما أعلن، “بلورة موقف عربي موحّد حيال رؤية الرئيس أوباما”!

إذن، كانت مهمة الاجتماع التوافق على إتخاذ قرارات “مصيرية”، قيل لنا أن الهدف منها هو مساعدة أوباما على “بلورة” رؤيته… هنا لم يقل لنا أحد ما هي هذه الرؤية المراد بلورتها؟ وهل من مختلف فيها عن رؤية بوش، وقبله كلينتون، وقبلهما رؤية صاحبها الأصيل شارون، المسجّل له أنه هو أول من ابتدعها؟!

نحن هنا نتحدث عن ما يسمى ب “حل الدولتين”، بمعنى آخر عن “دولة فلسطينية” افتراضية تسمح بها إسرائيل، ويريد العرب مساعدة أوباما لكي لا تكون صورة طبق الأصل لمواصفاتها المدونة التي حددها نتنياهو بصراحة ووضوح وحزم في خطابه المدوّي في جامعة بار إيلان… أو البدء العربي، كما يقال، في “التعامل بإيجابية” استجابةً للطلبات الأمريكية، التي سبق وأن عبر عنها جورج ميتشل علناً في زيارته الأخيرة للقاهرة.

إذن، تعاملت الجامعة بمن حضر من وزراء خارجيتها بهذه الإيجابية المطلوبة، وتعهد بيانها ب”إتخاذ ما يلزم من خطوات لدعم التحرك الأمريكي في هذا الإتجاه لتحقيق السلام الشامل وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية”.

أغفل البيان أن يبين لنا ما إذا كان هذا التحرك الأمريكي هدفه الحقيقي هو ذات هذا الإتجاه الذي ينشده أو يأمله أصحاب البيان، وحيث لم يقل ذلك ولا ثمة ما يشير إليه، قال لنا ضمناً، إن لعل وعسى، هما هنا الفيصل فيما يصبوا إليه هذا “التعامل الإيجابي” العربي… أي جاءنا بخطوة فعلت فعلها بأيقونة المرحومة التي تدعى “المبادرة العربية للسلام” التي وئدت في مهدها، تلك التي تُحيا ذكراها لماماً في المناسبات، أو حين يبادر أصحابها لاستعادة هذه الذكرى كتذكرة مرور للوصول إلى حيث الجلوس ذات يوم إلى طاولة المساومات، أو إلى حيث الحلول المنشودة إذا ما شاء الإسرائيلي يوماً ما أن ييسرها… هذه الطاولة التي قلبها نتنياهو في بار إيلان رأساً على عقب..!

ما هي هذه الخطوات العربية الداعمة التي بدت بشائرها وسوف تترى في بدء هذا “التعامل الإيجابي” مع “التحرك الأمريكي” المأمول، التي خطاها مجتمعو الجامعة بإشهارها في بيانهم؟

واحدتها: الاستعداد لقبول “دولة فلسطينية بحدود 1967 معدّلة”، وجاء تفسير وتوضيح أو تبرير الأمين العام للجامعة العربية في مؤتمره الصحفي لمسألة “المعدّلة” هذه، هي في اشتراطه “أن تكون متوازنة ولا تعكس ثقل الاحتلال”! أما كيف يكون هذا التوازن، وكيف لا تعكس ثقل الاحتلال… لعله ترك مثل هذه الأمور أيضاً بعهدة التحرك الذي جاء هذا الاستعداد من أجل دعمه! وأما كيف بررها، فكان ذلك إستناداً منه إلى أن “هناك إتفاقاً دولياً منذ صدور القرار 242 على إمكانية إجراء تعديلات على جانبي الحدود”!

وثانيتها، هي الاستعداد لتطبيع عربي “جزئي” مع المحتلين استجابةً لتليد الطلب الأمريكي الغربي الإسرائيلي القديم و المتجدد… أما الذي يبرر مثل هذه الخطوة عند الأمين العام فهو “إننا نمر الآن في مرحلة غاية في الحساسية”… ووجود إدارة أمريكية “عبّرت عن جديّتها” في التحرك لإنهاء الصراع!

أما الثالثة، وهي وإن كانت مشروطة، إلا أن مجرد طرحها من قبل الأمين العام للجامعة العربية يعدّ ثالثة الأثافي فعلاً، وهي الاستعداد للإعتراف بيهودية الدولة… الخطورة هنا هي أننا نسمع أول كلام عربي عن مثل هذا الاستعداد، وهو و إن كان مشروطاً بما لا يتخيل أن يقبل به الإسرائيليون ومعهم المتحركين الأمريكيين، فإننا اعتدنا دائماً من هذه المدعوة ب “المسيرة السلمية” أن الجانب العربي دائماً يقبل ولكن مشترطاً، ثم تختفي لكن وتذهب الشروط ويبقى القبول ليمهد لقبول آخر أقل سقفاً منه… اشترط الأمين العام هنا هو: إذا وافقت إسرائيل على قرار التقسيم… وبعد هذا كله، فالأمر يعود إلى نتنياهو، أو هو رهن ب”التجاوب الإسرائيلي”؟! مع تحذير: بأنه سوف يتم اللجوء إلى “لجنة المبادرة العربية لبحث الخطوات التي يمكن اتخاذها”، وهذا اللجوء سيكون في الحالتين، التجاوب وعدمه… وقبل هذا و ذاك، يرتحل الأمين العام إلى إيطاليا، حاملاً معه هذه الخطوات الثلاث المساعدة لتقديمها للرباعية هناك!

ليست الخطورة في أن ما خلص إليه اجتماع مجلس وزراء خارجية جامعة العرب في القاهرة بمن حضر، باعتباره سيغدو سقفاً أدنى من مبادرة قمة دولها في بيروت، وسقفاً محتملاً لسقوف تنازلات تتبع، أو سقوف ستليه وستستظله كمتوالية فحسب، وإنما لكونه يأتي في سياق ما يؤشر على سيناريو تصفوي يتم حبكه، يتراءى وسماته تنسج وتنضح يوماً فيوم، وتدل كل إرهاصات الحركة الدولية والإقليمية التسووية وتؤشر عليه… إنه يتجلى فيما يربط ما بين سطور خطابات سمعناها مؤخراً في جامعات ثلاث:

خطاب أوباما في جامعة القاهرة، ونتنياهو في جامعة بار إيلان في تل أبيب، وسلام فياض في جامعة أبو ديس المحتلة، حيث يطالب الأخير، وبلهجة مرتاحة وواثقة، بدولة فلسطينية، وحتى خلال عام إلى عامين لا أكثر، ومن دون حاجة لإنتظار إنهاء الاحتلال، أو حلّ ما تسمى “قضايا الحل النهائي” وسواها، أي القدس، وعودة اللاجئين، والحدود، والمستعمرات، والموارد …إلخ!!

لست في وارد العودة إلى الخطاب الأول الذي يجمع المجمعون على كونه خطاب علاقات عامة لتحسين وجه قبيح، والثاني الذي يلاقي ذات الإجماع بأنه كان إعلان لاءات تنسجم مع ذات الاستراتيجية الصهيونية التي لم تتبدل منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكنت قد عالجتهما في أكثر من مقال سابق، لكن، ليس لنا هنا إلا أن نربط ما بين خطابات الجامعات الثلاث هذه و بينهما وبين ما يصرّ الإعلام الإسرائيلي مُجمعاً على ترداده مؤخراً، حول ما يطلق عليها “خطة النقاط العشر” المصرية، لحل الإنقسام الفلسطيني، والتي يؤكد أن إسرائيل قد قبلتها مشيراً إلى زيارة باراك الأخيرة إلى القاهرة… خطة يقول الإسرائيليون ويصرون على أنها إنما جاءت لتحقيق وعد قطعه المصريون لأوباما، وهو تشكيل “حكومة فلسطينية تستأنف المفاوضات”… وإذا ما ربطنا و تقصّينا كنه الوشائج ما بين هاته وتلك، فليس لنا إلا أن نخلص إلى التالي:

يحاول العرب ملاقاة أوباما في منتصف طريقه التي يجهلونها، ويحاول أوباما ملاقاة نتنياهو في منتصف طريقه التي أغلقتها لاءاته، ويأمل العرب أن يواصل أوباما محاولته، وحتى ولو أدت به إلى حيث ما هو ليس أبعد من بضع خطوات قليلة من حيث يقف نتنياهو، ولكن هذا يدير ظهره للمحاولتين… وتبقى المعادلة:

تعنّت إسرائيلي يقابله تنازل عربي لاستدراج الإسرائيليين إلى سلام لا يريدونه ولا تسمح به طبيعة كيانهم… أما الأمريكي الذي يعدّل العرب تنازلاتهم لدعم تحركه الذي لا يحكمه إلا المصلحتين الأمريكية والإسرائيلية، فهو جاهز أبداً للضغط على العرب وإذا ما تظاهر بأنه راعاهم تمنى على إسرائيل فحسب… وهكذا، تغدو ملهاة الدولة المفترضة هي القضية، ولا تعد القضية هي الوطن… وتصبح التسوية هي الهدف وليس العودة إليه!