مهند عبد الحميد
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1944)
“لقد أتيت من الباب الحقيقي للتطبيع، فهنيئاً شرف السقوط”، ختمت السفارة الصهيونية جواز سفرك حين ختمته نقطة الجسر على النهر الذي جف لكثرة ما رأى من مذلة المطبعين”. قال لي صديق: “لكن ابراهيم نصر الله يحمل هوية الضفة الغربية”… هذا “عذر أقبح من ذنب” فمن يحمل هذه البطاقة مؤكداً اعترافه بالكيان فهذه كبيرة من الكبائر”. لماذا قبل عشرات الآلاف الذين حملوا الهوية بعد “أوسلو” ان يتخلوا عن الستة ملايين، لماذا اعترفوا بالكيان من أجل حمل بطاقة الضفة الغربية “من يدخل بهذه الطريقة لا يفعل سوى التأكيد للاحتلال أنه مقر له بفلسطين”!!! هذه المقتطفات من رسالة بعنوان “من حرب غوار الثقافة إلى التطبيعي فارع اللغة إبراهيم نصر الله” للكاتب د. عادل سمارة.
بادئ ذي بدء رسالة د. سمارة تعتمد على معلومات مغلوطة. فالشاعر والاديب ابراهيم نصر الله جاء الى فلسطين المحتلة بتصريح من سلطة الاحتلال كما يأتي عشرات الآلاف من المواطنين سنوياً، ولم يختم جواز سفره من السفارة الاسرائيلية في عمان. وتعتمد على مفاهيم مقحمة ومغلوطة ولا أساس لها من الصحة. فالذي يأتي إلى وطنه المحتل بتصريح أو “برقم وطني” او بجمع شمل أي بموافقة سلطة الاحتلال لا يدفع مقابل هذا الاذن ثمناً سياسياً على الاطلاق. سلطة الاحتلال لا تطالبه الاعتراف بإسرائيل ولا بشطب حق العودة، ولا بنبذ المقاومة. وإذا أراد البعض أن يقدم تحليلاً خارقاً للاصول اللغوية وللواقع ولحرية التعبير فهذا شأنه الخاص، وتلم مشكلته. وإذا كان اتفاق أوسلو قد تضمن اعترافاً متبادلاً (غير متكافئ ) بين المنظمة وإسرائيل، وواقع الحال كان اعترافاً شكلياً من قبل إسرائيل، لأنها لم تعترف بدولة فلسطينية كبديل للاحتلال العسكري والاستيطان، بل دفعت المنظمة باعترافها ثمناً باهظاً مقابل اعتراف شكلي ووعود. ورغم ذلك لم ينسحب اعتراف المنظمة على كل مواطن جاء برقم وطني أو كل زائر بتصريح بعد “أوسلو”. فقد دخلت فصائل معارضة لـ ” اوسلو” ودخل كثيرون لا يقبلون بتلك الشروط. لم يعترفوا بإسرائيل كشرط ولم يشطبوا حق العودة، حتى اتفاق أوسلو لم يشطب حق العودة وما زال برنامج سلطة أوسلو يلتزم بحق العودة. وهنا أود التذكير بأن القائد الشهيد أبو علي مصطفى دخل برقم وطني عبر الجسر المحتل ولم يعترف واستشهد بأسلوب وحشي، واستشهد مئات من العائدين أثناء الانتفاضة كان من بينهم أبو جندل قائد ملحمة مخيم جنين، ولم يكن هؤلاء الشهداء ومعهم آلاف الجرحى والاسرى من المواطنين سابقاً ومن الذين استعادوا مواطنتهم بتصاريح وأرقام وطنية قد شطبوا حق العودة.
الشاعر وكاتب الملهاة الفلسطينية ومبدع “زمن الخيول البيضاء” ابراهيم نصر الله جاء بتصريح الى وطنه، وهذا حق له استعاده لمدة أسبوع، عاد أسبوعاً واحداً فقط، ونحن نتمنى ويجب أن نسعى من أجل عودته الدائمة وعودة كل مواطن اقتلع من وطنه ويرغب في العودة إليه. لم يعترف نصر الله باسرائيل ولم يشطب حق العودة ولم يطبع مع الاحتلال والمحتلين. فلماذا إقحامه واتهامه زوراً وبهتاناً بالاعتراف والتطبيع. منطق غرائبي شكلي اتهامي لا يمكن تبريره بأي حال من الاحوال. وإذا مددنا اتهام د. سمارة للشاعر نصر الله على استقامته فإن كل مواطني الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة هم مطبعون لأنهم يمرون على حواجز الاحتلال ونقاط الجسور مع الخارج ويقدمون بطاقاتهم لجنود الاحتلال. كما ان كل مواطني الـ 48 مطبعون لانهم يحملون الهوية الزرقاء وجواز السفر الاسرائيلي، ويركبون العربات التي تحمل النمرة والعلم الاسرائيلي.
جاء ابراهيم نصر الله إلى وطنه المحتل عام 87 بتصريح، وكتب أقرب الاعمال إلى قلبه “الامواج البرية” التي رصد فيها عملية نمو الوعي المقاوم في فلسطين قبل الانتفاضة وكان اول المتنبئين بالانفجار الشعبي. وقام نصه على تحديد وإبراز ملامح الصراع التاريخي القائم على هذه الارض من خلال شخصيتين مركزيتين رمزيتين: شخصية البحري الفلسطينية وشخصية شلومو الاسرائيلية. البحري هو الفلسطيني العائد الى الوطن في زيارة لهفى، وهو ذلك الطفل الصغير الذي يرتعد من جرس الانذار عند البوابة الالكترونية على الجسر، وهو المعتقل في السجن وفي غرف التحقيق وهو المغني الذي يخترق غناؤه جدران السجن. وشخصية شلومو الجندي الذي يقف على جسر الاردن، القاتل في مجزرة دير ياسين، القامع لمظاهرة مخيم الدهيشة ونابلس، المحقق في غرف التعذيب. البحري يتجدد لانه كلنا وشلومو يتكرر لأنه كلهم. من يتجدد يرتقي انسانياً ومن يتكرر يبقى كآلة تسفك الدماء وتفتقد للانسانية.
وغادر نصر الله وطنه مضطراً، وليكتب أيضا عن مشاهداته الغنية وهو يشاهد ويلمس عن قرب معاناة ابناء وطنه الذين احتضنوه ورحبوا به واستمتعوا بأشعاره وأحاديثه وأعماله الادبية. لقد برع نصرالله في استحضار كل عناصر القوة لدى شعبه المنكوب بأطول احتلال كولونيالي عنصري.
استحضر الشجاعة والنبل والصبر والتحدي والإيثار والتسامح والانسانية والعطاء والاخلاص والحب، قدم كل ذلك في بناء فني جمالي في رائعته “زمن الخيول البيضاء” ليساهم في تماسكنا الوطني والانساني والمعنوي.
التشكيك في نصر الله بهذه الطريقة الاتهامية، هو مس بأعماله الملتزمة وبثقافة المقاومة الحقيقية وبجمهورها العريض.
التطبيع في شروط الصراع الراهنة يعني التسليم بالاحتلال وبرواية المحتلين عن الصراع وأسبابه ونتائجه، والتغافل عن الطابع الكولونيالي العنصري لدولة الاحتلال، ويعني المساواة بين الضحية والمعتدي. الاراضي المعترف بأنها محتلة حسب النظام الدولي وقرارات الشرعية الدولية هي الاراضي المحتلة عام 67، وحق العودة حسب قرار 194 يعني العودة والعيش في إسرائيل وفي أراضي الدولة الفلسطينية المنشودة. المجلس الوطني عام 88 وفي ظل الانتفاضة الاولى التزم بالدولة في الاراضي المعترف بها دوليا. ما زالت أكثرية الشعب توافق على برنامج الدولة والعودة وتقرير مصير. هل من حق الاقلية اعتبار كل من يوافق على برنامج وثيقة الاستقلال مطبعا ومستسلما، بل واعتبار من يوافقون على الدولة ثنائية القومية او دولة لكل مواطنيها، وكل من هو ليس معقما، في الخندق المستسلم ذاته. أظن أن من حق الاقلية استخدام سلاح النقد والنضال الديمقراطي كي تتحول إلى أكثرية. ثم ما معنى تعددية سياسية وثقافية ودينية؟ هل تعني التعددية الديمقراطية إقصاء الرأي الآخر بالتشويه والاسقاط وبالتجريد من وطنيته وإنسانيته.
ان فوضى المعايير هي التي تضع الشاعر الراحل محمود درويش والمفكر إدوارد سعيد، ود. عزمي بشارة والعديد من الرموز الثقافية والفكرية والاكاديمية ومعهم معظم الفاعلين المؤثرين في الجبهة الثقافية وفي مقدمتهم اهداف سويف ومعها المشاركون في احتفالية الأدب في فلسطين، تضعهم جميعا في الخندق الآخر. وهذه عدمية تقودنا في حالة استفحالها الى مزيد من التفكك والعزلة وتعبد الطرق الى فكر حصري أصولي.
المصدر: جريدة الايام ـ فلسطين المحتلة
http://www.al-ayyam.ps/znews/site/template/article.aspx?did=115606&date=6/30/2009
تاريخ نشر المقال 30 حزيران 2009