المثقف الصعلوك… البقاء خارج المؤسسة

مازن كم الماز

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1945)

فقط أولئك الذين بقوا خارج المؤسسات السائدة يمكنهم أن يقولوا الحقيقة، كمهمة أخيرة ممكنة للمثقف، في تناقض مع المهام الوظيفية المختلفة التي يقوم بها المثقف المؤسساتي لصالح المؤسسة والنظام أو القوى السائدة. فلكل نظام و قوة مسيطرة حقيقته الخاصة. ربما كان فوكو هو الأكثر قدرة على شرح تلك العلاقة بين السلطة والحقيقة، عندما تنتج السلطة حقيقتها وبالمقابل تنتج الحقيقة سلطتها. فالحقيقة ليست إلا تعبيرا ثقافيا عن سلطة ما.

ولسبب ما كان المثقف الصعلوك أسبق على ظهور المثقف المؤسساتي، فالشعراء الصعاليك ظهروا قبل نبوة محمد و قبل حسان بن ثابت وعلوم الفقه والحديث والكلام، وظهر السفسطائيون قبل أفلاطون. ربما كانت المؤسسة الثقافية والسياسية تحتاج إلى زمن أكبر لتتشكل وتتطور، وربما كانت تحتاج إلى محرض يتمثل في ثقافة الصعاليك الخارجة على المؤسسة، الهادمة لذات منطق وجود المؤسسة وقوانينها القائمة على نفي الاختلاف والإصرار على واحدية المرجعية والحقيقة وأخيرا السلطة. فقط أشخاص مثل نجيب سرور، المعري كانوا قادرين على قول الحقيقة، الحقيقة الفعلية لا الحقيقة التي تمثل السلطة الزمانية أي بمعنى الحقيقة في وجه السلطة أو القوة السائدة. فالقضية هنا أن من يوجد خارج المؤسسة هو فقط من يستطيع تحدي الحقيقة التي ترعاها السلطة، لكن أن تكون خارج المؤسسة له تبعات صريحة، فكان على نجيب سرور أن يجوع ويتشرد ويدخل المصحات النفسية التابعة للسلطة، وعلى المعري أن يأكل العدس طوال حياته.

وليقولوا حقيقتهم الهرطقية التي تعبر عن الواقع الفعلي أنتج المثقفون الصعاليك على الدوام وسائلهم الخاصة لقول الحقيقة، “أميات” نجيب سرور، أجمل هجائية للوضع القائم، الكتابة الكابوسية لكافكا. لا يعني هذا أن المثقف المؤسساتي هو مثقف مرتزق بالضرورة، لكنه يمارس دون شك وهم البحث عن الحقيقة السائدة من خلال احترامه للمؤسسة، أو على الأقل لشروط ومنطق وجودها وسيادتها. لذلك مثلا سنجد ديوجينس الكلبي يختلف تماما في علاقته بالسلطة عن أفلاطون وأرسطو. سمح هذا للكلبييين ليس فقط بالرفع من شأن الحرية ككل بل والتشديد الاستثنائي على حرية التعبير ضمن إطار الحرية العام، وأن يمارسوها في مواجهة السلطة بالتحديد. هكذا أمكن لديوجينس الكلبي أن يرد على سؤال الكسندر العظيم عن أمانيه التي يمكن لذلك الملك أن يحققها: (ابتعد عن الضوء)*، وعندما يرى الكلبيون أن أي فعل لا تسبب ممارسته في الخفاء الشعور بالخجل يمكن ممارسته علنا، هذا المستوى من تطابق العلن والسر في الممارسة غير متوفر ولا حتى لأشد المؤمنين بالحقائق السائدة، إلا للصعاليك الخارجين على المؤسسة وحقيقتها المزيفة. اعتبر ديوجينس الكلبي أن الحياة المتساوقة مع العقل هي تلك التي تتناغم مع الطبيعة لا مع قيود الحكومة.

نعود ثانية إلى فوكو، إلى تشخيصه لعلاقة السلطة بالجنون و الشذوذ الجنسي، عملية إقصاء الآخر وعقابه. هكذا تضع المؤسسة السائدة تعريف المعقول والطبيعي وفقا لحقيقتها، وتمارس عزل وإقصاء الآخر أو المخالف في مشافي أو مصحات أو سجون، هنا تصبح الحقيقة مرتبطة مباشرة بالسلطة، بالمؤسسة الرسمية، أو بالمؤسسات الرسمية، وتصبح هذه الحقيقة هي الفضاء الوحيد المقبول لممارسة التفكير “الجدي”، للتعامل مع الحقيقة، ومع المعقول والطبيعي، ويقبل الجميع تقريبا، بمن فيهم من يعتبر نفسه خارج المؤسسة أو السلطة بمنطق تلك الحقيقة وبعزل الفضاء الآخر، الهرطقي، المتمرد، الخارج على المؤسسة، على أنه خارج عن المعقول والطبيعي.

كان هيغل رمزا للمثقف المؤسساتي، ولذلك اعتبر أن الوضع القائم هو أساس المعقولية، ومن هنا ولدت أسطورة اليوتوبيا كحالة منافية للعقل، بقدر ما هي معادية للوضع القائم، خلافا للأوهام التي اعتبرت التغيير فعل طليعي لنخبة تعمل في إطار المؤسسة، فإن التغيير هو فعل أشمل ينخرط فيه أساسا المقهورون ضد المؤسسة، تتراجع فيه المؤسسة باستمرار إلى مواقع دفاعية جديدة دون أن تسلم أبدا بحق الآخر أو المقهورين في نقض معقولية الوضع القائم أو في نقض حقيقته الأحادية. نعم تمارس النخبة تأثيرا بالتأكيد لكنها كانت دائما محافظة وضد التغيير الجذري الذي كان نتيجة لنضال تحاول هي بإصرار الإبقاء عليه في إطار السائد وتحت وصايتها. إنها حارس السائد، حارس الحقيقة التي تعبر عن السائد، الحارس الذي يقف بحماسة عند قضبان السجن الذي تعزل فيه السلطة ما تصفه بالشذوذ الهرطقي، عملية ضم الجديد إلى الفضاء السائد وتجييره لصالح السلطة القائمة – القديمة أو سلطة ما جديدة، كانت دائما وظيفتها في فترات التغيير الثوري.

يجب ألا نبالغ هنا في دور الفضاء الموازي لفضاء السلطة ومؤسستها الرسمية، فضاء المثقفين الصعاليك، في حالة التغيير، ففي الأغلب كان هذا الفضاء بالكاد مجالا لخطاب معارض بشكل جذري، يقوم على قدرة استثنائية في الجهر بالحقيقة المسكوت عنها، بل والتي تصر المؤسسة على إدانتها بوصفها هرطقة أو جنون أو شذوذ. أسوأ ما في الموضوع هو محاولة المؤسسة تحويل الذكرى الماضية لمثقفين صعاليك إلى ما هو أشبه بموظفين في المؤسسة، محررين في صفحاتها الثقافية، ومرددين لكل مدائح الوضع القائم، هذه هي قمة الخيانة، خيانة الحقيقة، من جانب المثقفين المؤسساتيين.

* تقول كتب التاريخ أن أفلاطون التقى ذات يوم بديوجينيس الكلبي وهو يغسل بعض الأعشاب بالماء فسأله “لو أنك توددت لديونيسيوس (الملك) لما كنت تغسل الخس الآن”، فرد عليه ديوجينيس بذات الهدوء “لو أنك كنت تغسل الخس لما كنت مضطرا للتودد إلى ديونيسيوس”.