”مدينة الارامل ـ المرأة العراقية في مسيرة التحرير”

جمال محمد تقي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1946)

“.. غالبا ما يطرح علي السؤال التالي. هل ستعودين يوما الى العراق ؟

اشعر دائما بالصدمة عندما اسمع السؤال لانني احس في قرارة نفسي باني لم اغادره! “

بهذه العبارة تختتم الكاتبة المبدعة التي يسكنها العراق ابدا، هيفاء زنكنة كتابها الموسوم “مدينة الارامل ـ المرأة العراقية في مسيرة التحرير” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 2008، والذي كتبته ونشرته اصلا بالانكليزية ليكون مرجعا موثقا في متناول كل المهتمين في العالم عن حقيقة ما جرى ويجري في العراق.

يلخص الكتابوباسلوب سلس ومتدرج وعميق مشاهد لواحدة من اخطر واشمل جرائم العدوان والابادة والقسوة والتضليل والتزييف والنهب والاغتصاب واهدار الكرامة الانسانية في التاريخ الحديث، جريمة احتلال العراق وتحطيم دولته وانتهاك كل قيم شعبه بذرائع واهية وكاذبة ومفبركة فضحت نفسها بنفسها بعد ان وقع المحظور. فصول الكتاب تنقط الاحداث وتستنطق الحقائق على الارض، تعري الاسباب الحقيقية للغزو، تمعن في اظهار اشكاليات الوضع الذي سبقه، ولا تجامل في الاقرار بحقيقة ان في البلاد ما لا يريده المحتلون، بلاد لها كل مقومات النهوض النوعي، بلاد لا تستحق ما يجري عليها، بهكذا تصور يخرج الداخل من قراءة كتابها الجديد، لقد نقلته المؤلفة للعربية ليكمل رسالته بين اهلها!

متابعة سيرتها تدلك على محطات لا انقطاع بينها توصلك الى حيث صميمية المنطلق ورحابة المدار وانسانية المعرفة وانحياز الى الحرية الكامنة في البحث عن الحقيقة المفقودة ذاتها!

الكاتبة صاحبة قضية مهمومة بها حد الانغماس ووقادة في مثابرتها واهتماماتها المتعددة التي تسخرها بذكاء عراقي حار لخدمة كل ركن او نخلة او امرأة او طفل او مظلوم في بلادها التي تشربتها المظالم حتى الثمالة. هي عنوان معاصر وشاخص وفاعل ومشرق وحقيقي للمرأة العراقية المثقفة المناضلة والمبدعة والانسانة، أمرأة لن يغادرها العراق وهي الدائرة منذ عقود في مدارات ارض الله تتفاعل مع العالم بقلب وروح ونكهة عراقية يغمرها الدفأ والموقف والضمير الانساني المرهف!

روائية وصحافية وكاتبة ورسامة، علاوة على اختصاصها المهني الذي اضاف لها شغف البحث عن البلاسم وسلوة الانهماك بابطال مفاعيل الطلاسم ـ صيدلانية ـ، لها حضور فاعل في اكثر من مجال انساني وبحثي، لها تجربة بالعمل النضالي الوطني والعربي والاممي، لبيبة من لب اليسار المنتفض على قشوره، شعبية النشئة والهوى، صوت لا ينقطع عن ذوده، ومقاومتة للقبح السرطاني الذي يستوطن العراق واهله منذ احتلاله وحتى الان وكما كان صوتا معارضا لكل تجاوزات واهدارات فترة حكم ماقبل الاحتلال!

اهداء الكتاب، كان كتابا لا يقبل التأويل. الى ذكرى عبير قاسم حمزة الجنابي، الفتاة العراقية ذات ال 14 ربيعا، من سكنة قضاء المحمودية التابع لمحافظة بغداد، والتي اغتصبت وقتلت حرقا مع عائلتها من قبل افراد احدى الدوريات الامريكية المسعورة..!

غنى في المعطيات يعطيها الكتاب ومنها مثلا. أم نزار 1908 ـ 1953 والدة الشاعرة الرائدة نازك الملائكة، هي اول داعية نسوية لتحرير المرأة في العراق وهي شاعرة وقارئة متميزة، كان اعجاب وتشجيع زوجها مدرس اللغة العربية سببا لنشر اول قصيدة لها عام 1936 في مجلة الصبح البغدادية!

تاريخ افتتاح اول مدرسة للبنات في العراق 1899!

في 22 آب 1920 كتب ت. اي لورنس ـ العرب ـ مقالة عن الاوضاع في العراق يقول فيها نصا.

” اقتيد الانكليز في بلاد ما بين النهرين الى شرك من الصعب الخروج منه بكرامة وشرف وقد تم اقتيادهم اليه عن طريق اخفاء المعلومات عنهم، والبلاغات الرسمية الصادرة من بغداد تاتي متاخرة عن موعدها وغير صادقة ومجزأة، والامور اسوأ كثيرا مما يقال لنا، وادارتنا اكثر دموية وانعدام كفاءة مما يعرفه عامة الشعب، وذلك عار على سجلنا الامبراطوري، وربما سيتعقد الوضع مستقبلا الى حد يستعصي فيه على اي علاج عادي ونحن اليوم غير بعيدين عن الكارثة “!

من كلامه نفهم انها الثورة العراقية الكبرى ـ ثورة العشرين ـ المطابقة هنا يدلنا عليها الكتاب عندما يتدرج في مقاربة معاني كلمات لورنس ومن قبله ـ الجنرال مود ـ قائد حملة بغداد 1917 وهو يخاطب الاهالي البغداديين قائلا. ” جئنا محررين ولسنا بفاتحين ” وبين خطب بوش واركان حكمه بخصوص تصوير غزوهم للعراق على انه تحرير له، وانه سيجعل العراق نموذجا مشرقا للشرق الاوسط الكبير، ومن جهة اخرى ما كان يحذر منه العقلاء من حزبي “الحمار والفيل” الديمقراطي والجمهوري والذي يقارب في منطقه والى حد بعيد ما وصفه لورنس عام 1920!

تقر اغلب القواميس السياسية على ان حزب البعث هو حزب علماني متاثر بالايدلوجية الاشتراكية وهو على صلة متينة بحركات اليسار.. اي ليس له دوافع فكرية او تنظيمية او سلوكية تزكي ذريعة صلاته بتنظيم القاعدة كما ادعى الغزاة الامريكان، وكانت مواقف الحزب الصدامية مع جماعات الاخوان ـ الحزب الاسلامي ـ او حزب الدعوة دليل على ايمانه بمنع وعزل الدين عن السياسة، وفي هذا الصدد كان هناك كراسا كتبه صدام بنفسه للتثقيف الحزبي باعتبار اقحام الدين كالخروج منه، وكانت مواقفه تلك تلقى ترحيبا من قبل الاحزاب العلمانية العراقية الاخرى التي كانت تشاركه السلطة كالقوميين والشيوعيين، وما احداث ـ خان النص ـ في اواسط السبعينات والتي حدثت بها مواجهات دامية بين السلطة البعثية المدعومة من علمانيي الجبهة الوطنية وبين الجماعات الدينية ـ الشيعية ـ المحتجة والمنددة بالسلطة وحصارها للحراك الديني والطائفي، الا شاهدا قويا على ذلك!

في المؤتمر الثالث لاتحاد نساء العراق المنعقد 1971، خطب صدام قائلا. ” ان الالتزام بالثورة والدفاع عن مثلها ومكتسباتها الى جانب الحفاظ على مصالح الجماهير الكادحة هو السبيل الوحيد الى تحرير المرأة.. ” تشابه كبير بين هذا المنطوق ومنطوق الحزب الشيوعي بالنسبة لقضية المرأة، التشابه بين العلمانيين واليساريين ينسحب على موضوعة تحرير الثروات الوطنية من سيطرة الاحتكارات العالمية ـ تاميم النفط ـ وموضوعة الاصلاح الزراعي وتوزيع الارض على الفلاحين، ومجانية التعليم والرعاية الصحية، وتطوير الدور القيادي للقطاع العام، ومركزية التخطيط التنموي وشموليته!

كتاب “مدينة الارامل ـ المرأة العراقية في مسيرة التحرير” وثيقة ادانة دامغة لمحتلي العراق ولكل اعمالهم الاجرامية فيه ولكل الذين يدافعون عنهم. انه توثيق واقعي لحالة بلاد ضربت كل الارقام القياسية في الشرق الاوسط والعالم من حيث نسب الفساد وفشل الدولة واعداد المعوقين والارامل والايتام والمهجرين والمهاجرين ناهيك عن اعداد القتلى والمعتقلين الذين يتعرضون لابشع وافضع طرق تحقيق وتعذيب واهدار لادمية الانسان ودون اي مسوغ سوى الاذلال، وزادت عليها بالمفارقات المضحكة المبكية، بلاد تعتبر واحدة من اغنى دول العالم ويعيش قرابة نصف سكانها تحت خط الفقر!

المرأة العراقية ما زالت تدفع ثمنا باهضا لكل الذي جرى، حياتها، كرامتها، صحتها وصحة جنينها المهددة بمخاطر الاشعاعات المنتشرة في كل ارجاء العراق، عملها، تعليمها، حقوقها الشخصية المهدورة!

شكرا لك هيفاء زنكنة على هذا الجهد الوطني والانساني الراقي، وحتما سيصب مع روافد اخرى باتجاه محاكمة مجرمي تلك الحرب القذرة وانتزاع حق العراق وشعبه بالتعويض الكامل والاعتذار الواضح!