مازن كم الماز
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1947)
ملاحظة من “كنعان”
إن الانفعال المخلص والعاطفي للكاتب يجب أن لا يحجب تجارب التاريخ التي أنتهت يتغيير الواقع الأسود حتى لو طال الزمن.
* * *
الحقيقة أن القضية الفلسطينية تتجه بوضوح نحو طريق مسدود دون مواربة وأن أية محاولات لإيهام النفس بشيء آخر هو شكل آخر من خداع الذات.
إن التباين الشديد في ميزان القوى والاتجاه الإجباري لدى الإسرائيليين نحو تدمير خصمهم واستئصاله، وهو ما يقومون به بالفعل تدريجيا، وقبول النظامين العالمي الرأسمالي والعربي الرسمي بالتضحية بالفلسطينيين لبقاء هذه التوازنات ولبقاء الواقع كما هو لصالح القوى السائدة، ووصول العدمية في المشهد الفلسطيني إلى واقع سيطرة قوى مستعدة للتفريط بكل شيء في سبيل لقمة العيش المغمسة بالاحتلال أو بعض المازوت والدواء كهدف قائم بحد ذاته وإلى واقع الانقسام الغبي بين سلطتين غير موجودتين أصلا، كل هذا يدل ببساطة شديدة على المصير الفعلي الذي ينتظر الفلسطينيين على أرضهم: إنهم هنود حمر العالم المعاصر.
كم من الغريب أن تكون أمريكا البيضاء هي أيضا قد وقعت أعدادا لا تحصى من الاتفاقيات مع هنودها الحمر التي كانت هي بالذات من يخرقها ويدوس عليها تباعا قبل التوصل لاتفاق جديد وهكذا دواليك، مع كل اتفاق كان الهنود الحمر ينسحبون أكثر فأكثر وتنخفض أعدادهم تحت وابل من رصاص الجنود الاتحاديين، لكن العالم المعاصر الذي يعتمد شريعة جديدة لحقوق الإنسان والذي توقف عن قياس جماجم الآسيويين والزنوج ليثبت تفوق الرجل الأبيض أو العرق الآري كما كان الحال في ثلاثينيات القرن العشرين، لن ينصب محرقة بدائية لهؤلاء الفلسطينيين، بل إنه على الأغلب سيسمح لكل من يشاء منهم، أو لأكثرية هؤلاء، بالحياة في دول أوروبية وأمريكية جنوبية، حيث سيحل الفلسطيني في تلك البلاد التي فر إليها اليهود من محرقتهم الأوروبية في الثلاثينيات أو إلى تلك البلاد التي قتلت هنودها الحمر لصالح الوافدين البيض الجدد، وسيستبدل اليهودي التائه كما سماه الدكتور المسيري بالفلسطيني التائه هذه المرة، هذا الفلسطيني الذي يعيش ذات الأزمة بين المنفى وبين ذكرى الأرض المقدسة في بحثه دائم الترحال عن منفى أخير أو عن وطن لا يأتي.
هذه هي مفارقة واقع لا يتوقف عن بناء معسكرات موت جديدة، بعد أن سفك الغرب دماء اليهود طوال قرون اكتشفهم فجأة وعلى الفور تغيرت هوية القاطنين في معسكرات الموت (يمكن اعتبار الضفة والقطاع الشكل الأكثر معاصرة لمعسكرات الموت هذه)، وها هو ذات الغرب “يكتشف” عبيده السابقين، لكن ليس في صورة مالكولم اكس ولا حتى لوثر كينغ الأكثر اعتدالا التي يجري تغييبها عمدا، بل في صورة رئيس أسود، بل ورئيس أسود مخلص للمؤسسة الحاكمة.
النظام العربي انتهى عمليا من هذه القضية، ومن ورائه الليبراليون العرب، الذين توصلوا إلى أن أقصى تبعية ممكنة، بما تفترضه وتشترطه من اقتلاع للشوكة الفلسطينية من الخاصرة الأمريكية الإسرائيلية، للنظام الرأسمالي العالمي هي الشرط الأساسي والوحيد لنهضة مزعومة و لديمقراطية ما تستثني أعداءها المفترضين أي الأصولية كهدف بحد ذاته، ألم يكن الهنود الحمر ذاتهم ضحية تلك الديمقراطية الأم، إضافة إلى شعوب بأكملها؟ الذاكرة الغربية مريضة لدرجة أنها سخرت طويلا من مطالبة القذافي غير الجادة على الأغلب بتعويضات عن فترة الاستعمار الإيطالي الذي لا يتصور الإيطاليون المعاصرون درجة همجيته ووحشيته سواء في ليبيا أم في أثيوبيا ولا يكترثون لها دون أي تأنيب ضمير، ولا يعرف الفرنسيون على الأغلب أن مليون جزائري قتلوا قبل أن يغادر الجنود الفرنسييو بلدهم أو لا يكترثون (سيان). هذا في معارضة هجمة 11 سبتمبر مثلا التي تسجل بدقة بالغة و توصف بأقذع الأوصاف الهمجية على عكس إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي، هكذا تتشكل ذاكرة الغرب الرأسمالي التي يتبناها النظام العربي الرسمي والليبراليون العرب بحذافيرها.
هنا تبدو خيارات الإنسان الفلسطيني إلى حد كبير إجبارية، ففي مواجهة وضع يائس على هذه الدرجة لا يمكن إلا اللجوء إلى الآمال اللاعقلانية التي يقدمها المقدس، الذي يبدو القوة الوحيدة القادرة على هزيمة عدو بهذه القوة وعلى تغيير واقع على هذه الدرجة من انسداد الحلول. مأزق هذا الحل السماوي أنه لا يتطلب أية جهود حقيقية من المظلومين من أهل الأرض سوى الصدق والإخلاص في عبادة السماء المخلصة المنقذة، ما زال المخيال الشعبي المازوخي يتصور إمكانية، إن لم يكن ضرورة، ظهور مخلص مستبد كصلاح الدين، طاغية شعبوي. ولذلك كان الحديث عن فلسطين أقرب الطرق لتبرير الاستبداد في عالمنا، ذات المخيال المازوخي هو الذي يدفع النخبة للصمت عما يجري في فلسطين وتبريره كمدخل ضروري لديمقراطية على نمط ديمقراطية القتلة التي توصف بأنها الشكل الوحيد الجدي من الديمقراطية، كنوع مازوخي من التماهي مع المعتدي، من محاولة تقليد المعتدي.
لقد تعرض الفلسطينيون للتهميش لدرجة أن دعوتهم إلى النضال اليوم تبدو غير مضمونة، وقد جاء التهميش بالتحديد من جهة ممثلهم الشرعي كما يسمى، المؤسسة الرسمية الفلسطينية التي بعد أن تبقرطت بالكامل اليوم أصبحت أكثر من مجرد عقبة أمام التحقق الذاتي للفلسطينيين العاديين، بل أصبحت مستعدة لدور الشرطي المحلي التابع لسلطة الاحتلال. لا يمكن الطلب من المكبوتين المهمشين أن يقاوموا فعليا دون تهديد ذات حقيقة هذا الكبت والتهميش للناس العاديين. أما تقديس هذا التهميش فيعني باختصار الاعتماد الدائم، كما هو حاصل الآن، على ألاعيب النخب ومساوماتها الفوقية كشكل أساسي لما يسمى بممارسة السياسة. كما أن نتائج هذا النضال لن تكون مضمونة هي الأخرى في الظروف الحالية وترتبط عضويا بنتائج النضال ضد مجمل منظومة الاضطهاد المحلية والعالمية، فيما يبدو من شبه المستحيل إمكانية ظهور نخبة عربية أو فلسطينية، ولو مستقبلية، مرتبطة عضويا بالقوى السائدة والحاكمة في بلاد المركز الرأسمالي، تلعب دور هرتزل – روتشيلد التاريخي في خلق ارتباط عضوي بين مشروع كياني فلسطيني ما وبين مصالح تلك القوى السائدة في المركز الرأسمالي في قلب لمنطق وجود الكيان اليهودي الإسرائيلي في فلسطين. هذا يعني أن الصراع يتجه نحو نهاية حتمية في الأفق المنظور. أما أية احتمالات أخرى فهي تحت رحمة تغييرات لا يد لنا فيها، كشعوب وجماهير مغلوبة على أمرها، مثل العودة إلى حالة من الجمود في حالة صعود قوة موازية للقوة الأمريكية (الصين مثلا) ودخولها في صراع مع المركز الأمريكي للنظام الرأسمالي، أو حتى صعود طاغية باحث عن الشعبوية وعندها سيبدأ كل شيء من جديد، سيكتشف الناس بعد نشوة النصر حقيقة واقعهم وسيبدأ التناقض بالتصاعد بين الاستبداد والبشر المحكومين حتى ينتهي إلى حل ما (سقوط الطاغية غالبا لصالح طاغية أكثر تهذيبا أو تحت أسماء جديدة) وهكذا من جديد.
هذه الاحتمالات البعيدة يجب ألا تحجب الحقيقة الأقرب عن مصير الفلسطينيين المعاصر الذي يشكل نسخة عن مصير الهنود الحمر، إننا نشاهد محرقة القرن الواحد والعشرين أمام أعيننا لكن هذه المحرقة ينكرها الجميع بهدوء ودون صخب.