مَنْ يعوض العراق؟

جمال محمد تقي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1948)

ليست نهاية كل الحروب والاحتلالات واحدة، فلكل حالة واقع خاص بها، ان معالجة الاسباب التي ادت لاندلاعها وردع ومقاومة المعتدي ميدانيا او حقوقيا ونزع مبرراته بتحكيم عادل، ووضع آليات حقوقية وتوثيقية ورقابية لحل النزاعات سيساهم حتما بخفض معدلات تلك الحروب والتجاوزات والاحتلالات الى مديات كبيرة!

مشكلات الحدود وتجاوزات القوة والتهديد بها لنيل مكاسب غير مشروعة ـ بحسب الاعراف والقوانين الدولية الفاعلة ـ والتلاعب بها مدا وجزرا من قبل الدول المهيمنة اقليميا وعالميا ساهم والى حد بعيد في تكاثر وتوالد تلك النزاعات والتجاوزات!

نتيجة حرب بريطانيا والارجنتين على تبعية جزر الفوكلاند مثلا كانت واضحة، حيث خضوعها لمنطق الاقوى، نهاية حرب عام 1967 بين اسرائيل ومصر وسوريا والاردن كانت وضحة ايضا، احتلال وضم لاراضي الغير، وبقاء الحال على ماهو عليه على الرغم من قرارات الشرعية الدولية بمطالبة اسرائيل بالانسحاب الى مواقع ما قبل 5 حزيران، لكن مصالح القوى المهيمنة عالميا استطاعت بث الشلل في اي مسعى حقيقي لتطبيق ما يجب تطبيقه من قرارات والتزامات لاحقاق الحق وتعويض المعتدى عليه والذي احتلت اراضيه وتم التصرف بموجوداتها!

حرب العراق وايران نتيجة لصراعات سياسية وحدودية بين البلدين ـ ايران واطماعها في اراضي جنوب العراق، تصدير الثورة، التحرشات الحدودية ـ اندلاع الحرب كان مدفوعا ايضا بنزعات الدول المهيمنة عالميا فكانت تعمل على تغذيتها خدمة لمصالحها، توقفت الحرب بعد ان استنفذت كل شروط تغذيتها وبعد ان اصر العراق على ايقافها وهو داخل حدوده ومعه اغلب دول العالم، فاضطرت ايران للموافقة على وقف اطلاق النار دون ان تتم مراجعة مسببات تلك الحرب التي ما زالت قائمة. ان غلبة منطق حقوق القوة على منطق الحقوق الشرعية والقانونية ما زال سائدا اقليميا وعالميا، بسبب هيمنة مصالح الكبار على الصغار وغياب شرعية العدل في اداء المنظمات الدولية التي تخضع بالنتيجة لارادة الاقوياء. ايران تلمح بمطالبات تعويضية لها من العراق متغاضية عن كون سياستها التوسعية والاستفزازية كانت وراء اندلاعها وانهم هم من وقف ضد ايقافها بعد عام من اندلاعها، الطرفان خسرا الكثير وما لا يعوض في تلك الحرب والان وبعد ان اصبح النظام العراقي الذي خاضها والذي تحمله ايران مسؤوليتها في خبر كان، نجد تكرارا فاضحا لتدخلات ايران وانكشافا لاطماعها في العراق ونجد العراق وشعبه يدفع ثمنا باهضا لسياستها المسيئة له ـ الجماعات المسلحة، الطائفية، سرقة النفط، قضم الاراضي، تحويل مجاري الانهار الطبيعية التي تغذي الاراضي العراقية الكارون وسيروان، التصرف باكثر من مئة طائرة عراقية كانت قد هبطت اضطرارا في المطارات الايرانية، قصف حدودي مستمر لقرى شمال العراق بحجة مطاردة المتمردين ـ وهذا ما يجعل اسباب النزاع قائمة على الرغم من تقبل الموالين لها في الحكم العراقي الحالي هذا التمادي المهين لنفوذها داخله وعلى كافة الاصعدة. وعليه فان ايران كانت وما زالت تتعامل مع العراق بمنطق القوة والضعف الضغط والاستنزاف، مما يستدعي وقفة جادة وحكيمة من كل وطنيي العراق لدفع ايران باتجاه اقامة علاقات متكافئة معها، علاقة مصالح ندية وحسن جوار حقيقي ليس فيه اطماع توسع وتجاوز مراعاة متبادلة لاحتياجات الجار لجاره، والا ستستمر حالة التربص الى ماشاء الله!

نعم للكويت تعويضات مستحقة على العراق ولكنها تعويضات مبالغ فيها وتحتاج لاعادة نظر. ففتح صفحة جديدة بالعلاقات الطبيعية بين البلدين لا يتم بالاملاءات او بتعمد اعاقة تصفية شوائب الماضي او بتفسيرات مضرة للقرارات الدولية، ناهيك عن الاستقواء بالمؤقت من الاحوال على حساب الدائم منها. والقضية حقيقة ليست تعويضات تتنازل عنها، وانما تصفية نهائية لكل المسائل العالقة وبعدل وانصاف يصعب على اي طرف من الاطراف التنكر له ليصبح حقيقة معتمدة بكامل ارادة الاطراف وليس بحسابات المواسم خدمة لمستقبل الاجيال القادمة في العراق والكويت، مثلا مسالة الحدود ومراعاة حالة الضيق والعوز البحري العراقي الذي يجعله دوما بحالة توتر جغرافي بسبب تزاحم احتياجته وحساسية موقع لسانه البحري المحاصر، ثم قضية الابار الحدودية. فهل نستبقيها كفتيل للازمات ام نحسم آليات احقاق الحق فيها والى الابد ؟ لاسيما وان الامكانيات الفنية متيسرة والخرائط المعتمدة متوفرة ويبقى فقط الالتزام بما يقوله القانون بكل الحالات ـ حقول حدودية، حقول مشتركة ـ ثم شكل المراقبة على انتاجها، وتبقى اخيرا قضية المفقودين وهي لا تحتاج الى تاخير فمن حق اللجان الكويتية البحث عنهم، فالتفعل ذلك ودون ابطاء، والاهم من هذا كله ان يلتزم الطرفان بعدم التدخل بالشؤون الداخلية!

الان من يعوض العراق ؟

بلاد احتلت بالكامل بغزو بربري استخدم اشد الاسلحة فتكا وتشويها وتلويثا ولم يكن يميز في قصفه وتدميره بين المدنيين والعسكريين، ضرب البنية التحتية للبلاد بالصميم، ضرب محطات الكهرباء والجسور ومراكز الاتصالات والمستشفيات ودمر الطرق وقصف المطارات والمعامل والمدارس، والمتاحف ومراكز البحوث!

اما الضحايا فحتى الان يعرف منها اكثر من مليون ونصف قتيل، واربعة ملايين مهجر، والمعوقين بالالاف، والايتام بالملايين وكذلك الارامل!

لقد شنت الحرب بدون غطاء من الشرعية الدولية بل كانت وصمة عار على جبينها لانها لم تستطع ايقافها، يتواصل الاحتلال للبلاد والعباد ليدخل عامه السابع، لكنه الان يترنح نتيجة خسائره الفادحة بالارواح والمعدات، ونتيجة فشل مشروعه الذي اراد من العراق قاعدة ثابتة لاقامة شرقه الاوسط الجديد الخاضع قلبا وقالبا لارادته وارادة اسرائيل، اراده بحيرة نفطية مسورة لا يستخدمها احد غيره الا باذن!

اكثر من ربع مليون عسكري امريكي ومن مرتزقة القطاع الخاص ـ الحماية الخاصة ـ خسائرهم كانت اكبر من تحملها، عشرات الالوف من القتلى والجرحى والمعوقين، وبكلفة مالية تقدر باكثر من 10 مليار دولار يوميا!

خسائر العراق الكبرى كانت ولا زالت خسائره البشرية التي لا تعوض، كانت خسائره للملاكات العلمية والهندسية والطبية والتعليمية والفنية والثقافية والعسكرية، خسائره التي ستبقى لاجيال واجيال بل على مدى التاريخ المنظور هي التلوث الاشعاعي الذي اصاب تربته ومياهه جراء استخدام القذائف المشبعة باليورانيوم المنضب!

اشاع المحتلون اسباب الفتن الطائفية والعرقية وعملوا على تعريق المواجهات واشغال الناس عنهم بحرب اهلية قاسية، ثم انتهجوا ومنذ اليوم الاول سياسة المحاصصة التي تقسم البلاد الى مناطق عرقية وطائفية، سرقوا ونهبوا ما صغر حجمه وكبر ثمنه، الاثار والمخطوطات والمليارات ذهبا ودولارات من البنوك والقصور!

يقولون البلاد غنية وستعوض نفسها بنفسها، وهذا منطق لا يستقيم مع حجم الكارثة النكبة. فحتى لو باع العراق 10 مليون برميل يوميا بسعر يتجاوز الخمسين دولار ولمدة عشرين سنة فانها لا تكفي لاعادة اعمار البلاد حقا وتاهيل الكفاءات المناسبة لها، فالبلاد مشلولة لان المحتلين قد اسقطوا دولة كاملة وليس نظام حكم، وانهار معها كل النظام التعليمي والصحي والخدمي!

تقدر حجم الاحتياجات الحقيقية لاعادة الاعمار لاكثر من 5 ترليون دولار بعد حساب فرق الاسعار، اي هناك كارثة حقيقية فالميزانيات السنوية الحالية 80 مليار او 50 مليار لا تفعل شيء اطلاقا غير دفع الرواتب وكلفة البطاقة التموينية والمساهمة مع منح البنك الدولي في انشاء بعض المشاريع الصغيرة والمتوسطة الاضطرارية، كمحطة كهرباء واعادة تصليح جسر وتبليط شارع وتشييد بعض البنايات والباقي ينهب!

العراق بحاجة لخطة شاملة بمستوى “مارشال” لاعادة تاهيل مجمل الهياكل الارتكازية للاقتصاد العراقي زراعيا وصناعيا وخدميا ونفطيا بالتوازي مع اعادة اعمار بنيته التحتية وتوسعتها عموديا وافقيا!

يمكن ان تصل القدرة القصوى لانتاج النفط خلال السنتين القادمة الى 4 مليون يوميا في احسن الاحوال طبعا مع اجراءات صيانة وتوسعة المنشئات النفطية القائمة، لانها حاليا غير مؤهلة لزيادة الانتاج ناهيك عن الوصول الى الرقم 10 مليون الذي يتطلب استثمارات لا تقل عن ترليون!

لا يمكن ان ينهض العراق مجددا دون تعويضات لا تقل عن 5 ترليون، ومن يتوقع انجازا كبيرا لو فتح الباب للاستثمار الاجنبي ودون شروط وخاصة في مجالي النفط والغاز فهو يخدع نفسه!

النهوض الزراعي وحده يحتاج الى ترليون ونصف ـ مشاريع اصلاح التربة والبزل، حفر الابار، مشاريع الري، كري الانهار والجداول، مكافحة التلوث والتصحر، وفرة الخدمات الزراعية، حماية المنتوج المحلي تحلية الماء نتيجة شحة الماء الحلو ـ!

الصناعة ما عدا النفطية بحاجة لترليون ونصف وخلال خمسة عشر سنة، لاقامة نهضة صناعية تعتمد على الخامات المحلية وعلى تاهيل وتوسعة المؤسسات القديمة وعلى التخطيط الصناعي لانشاء صناعات كبرى كالتعدين والصلب والسيارات ومعامل البيوت الجاهزة، وصناعات الادوية، ومراكز البحوث الصناعية ومختبراتها ومعاهدها وصناعة الاسمدة والمعدات الزراعية اضافة لتوسعة شبكة الصناعات التحويلية والاستخراجية وقبل كل شيء تنويع مصادر انتاج الكهرباء!

مجال الصحة والتعليم والخدمات بما فيها الخدمة الاجتماعية والنفسية بحاجة الى ترليون وخلال فترة ثلاثية متتالية ومتلازمة من الخطط الخمسية للنهوض مجددا!

يا حكام العراق ان كنتم تريدون خدمة العراق حقا، ان كنتم وطنيون كما تدعون طالبوا الامريكان بالتعويض وحدوده معروفة، فالعراق احتل وخرب من قبلهم وعليهم تسديد الفواتير. فهل انتم فاعلون ؟