أفول نظرية ” نهاية التاريخ“

محمد سيد رصاص

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1952)

قدم فرانسيس فوكوياما مقالته حول (نهاية التاريخ) في عام1989، الذي شهد انتصار واشنطن على موسكو ومعسكرها السوفياتي، وما أعقب هذا من تحولها إلى القطب الواحد للعالم.

كان الأب الفلسفي لهذا المصطلح هو هيجل في كتابه”فلسفة التاريخ” (الذي حوى عبارة: “إن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب،لأن أوروبا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق،كما أن آسيا هي بدايته”) فيما كان المستند الفلسفي لفوكوياما هو تفسير معين لهيجل يجعله حائطاً استنادياً لليبرالية (كما كان هيجل بالنسبة لماركس،أو كما كان أيضاً الفيلسوف البرليني في قراءة أخرى قام بها جيوفاني جنتيلي فيلسوف الحزب الفاشي الإيطالي) كان قد قدمه مهاجر روسي هارب من البلاشفة إلى باريس اسمه ألكسندر كوجيف في كتابه” مدخل إلى قراءة هيجل” عام 1947.

هنا، كانت نظرية فوكوياما محاولة لا يمكن القول عنها بأنها بعيدة عن أدلجة تحولات سياسية كبرى، شكَلت منعطفاً تاريخياً مفصلياً يوازي بتأثيراته تواريخ 1789 و 1917، إلا أنها كانت محاولة فلسفية غير مسبوقة تاريخياً في معسكر اليمين الليبرالي، الذي تأطر لاحقاً في إطار تيار المحافظين الجدد الذي وقَع فوكوياما على وثيقته التأسيسية في 3حزيران1997بالتشارك مع شخصيات تولت مناصب كبرى في إدارة بوش الابن مثل ديك تشيني ورامسفيلد وفولفوفيتز،حيث قدم فوكوياما في نظريته تلك أول رؤية يمينية فلسفية للغائية التاريخية “المتحققِة”عبر النموذج الأميركي المنتصر بعموديه المتمثلين في (الليبرالية السياسية) و(الليبرالية الاقتصادية)،لايوازيها من حيث رؤيتها المقفِلة للحركة التاريخية عبر “تحقق الغائية” سوى تلك التي قدمها اليسار الماركسي في رؤيته للنموذج الاشتراكي.

في هذا الإطار، كان الصدى الذي لاقته مقولة فوكوياما ناتجاً عن كونها تعبيراً فلسفياً عن المنتصر، تماماً كما لاقت مقولات يسارية رواجاً كبيراً في فترة ما بعد ثورة 1917 البلشفية، مثل(سمة العصر: الإنتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية)،التي عبَرت عن ميلان الموازين نحو اليسار حتى نهاية عقد السبعينيات أكثر من تعبيرها عن محتوى فكري-سياسي يملك قواماً معرفياً يتجاوز طوارئ وراهنية التوازنات السياسية. لهذا، كانت قوة هذه المقولة الفلسفية عن (نهاية التاريخ) متلازمة مع حالة المدِ الذي عاشه القطب الواحد للعالم، خلال عقد ونصف من بداية تحولات1989، في مشاريعه السياسية والاقتصادية والعسكرية، مثلما كان ارتفاع قوة النقد الفلسفي والفكري لهذه المقولة مترافقاً مع بداية حالة الجزر خلال السنوات القليلة الماضية في قوة المشروع الأميركي الذي حملته واشنطن كقطب أوحد للعالم بعد وصول العاصمة الأميركية إلى حالات فشل وانسداد لقوتها في أكثر من منطقة من العالم (= العراق- شرق المتوسط – أفغانستان- جيورجيا- الصومال…….إلخ) حتى وصل الأمر للذروة في أيلول 2008مع انفجار الأزمة المالية في وول ستريت، ما أنذر بوصول النموذج الاقتصادي الذي قدمته الليبرالية الجديدة المحمولة من المحافظين الجدد إلى الحائط المسدود،بكل ما كان قدمه مُنظِِر الاتجاه اللاكينزي ميلتون فريدمان من رؤية كانت تضع(النقد) في مركز المحرِك الأساس للاقتصاد بدلاً من النظرة الليبرالية الاقتصادية الكلاسيكية(من آدم سميث حتى جون كينز) التي كانت ترى المصرفي والمستثمر المالي في مكان أدنى من الصناعي والتاجر بوصفهما عصب الاقتصاد عبر(السلعة)التي ينتجها الأول ويروجها الثاني.

ربما، يقدم مثال فرانسيس فوكوياما صورة نموذجية عن حالة المناخ الفكري الذي يرافق انتصار تيار سياسي”ما”، وما يولده المدُ الهجومي الذي يعيشه هذا التيار لفترة من الزمن من مقولات فلسفية- فكرية، تبدو راسخة القوام في أعين ليس المنتصرين فقط،وإنما أولاً عند المنهزمين في الضفة الأخرى. مع هذا، فإن أفول نظرية(نهاية التاريخ) يترك ساحة اليمين السياسي فارغة بدون غطاء فلسفي في مرحلة (ما بعد المحافظين الجدد)،فيما مازال اليسار الماركسي يعيش حالة العجز عن توليد بديل فلسفي- فكري- سياسي ماركسي لنموذج ثورة أكتوبر 1917 الذي تلقى هزيمة مدوية في عام1989: من سيملأ هذا الفراغ الفكري عند اليمين واليسار العالميين؟…..

عن طريق اليسار، العدد 13، حزيران 2009