هشام البستاني*
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1954)
لأجل ماذا يُقمع إعتصامٌ صغير ضد استيراد الفواكه الإسرائيلية بهذا العنف في عمّان يوم الأحد 5/7/2009؟
إسرائيل لم تتوقّف عن عدوانيتها يوماً، ولم تتوقف عن الاستيطان والتوسّع يوماً، ولم تتوقّف عن الإيضاح – بما لا يدع مجالاً للشك أو التأويل أو الأخذ بأي قراءة مغايرة- أنها لن تقبل بحق العودة، ولم تتوقّف عن إثبات أن ما يسمى “عملية السلام” هي مجرد عملية تثبيت هيمنتها الإقليمية وضرب بؤر المقاومة وتصفيتها وشراء الوقت للقبول بالرواية الإسرائيلية للتاريخ. لم تتوقف إسرائيل يوماً عن الإيضاح بأنها تسعى لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم جعلها مركزاً مهيمناً على مجالٍ حيويّ مفرغ. وها هو الثنائي نتنياهو – ليبرمان بأجندتيهما الترانسفيرية الإفراغية العنصرية يتربّعان على عرش السياسة الاسرائيلية واضعين إصبعين في عين من يغطي الشمس بغربال. هذا من جانب…
…من الجانب آخر، تأتي السلطة السياسية في الأردن لتوقع معاهدة “سلام” مع مثل هذا الكيان.
ضمن بنود كثيرة تنتقص من سيادة وكرامة البلاد، يأتي البند 5 من الفقرة 2 من المادة 7 من هذه المعاهدة لينص لا على انهاء المقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني فحسب، بل يتجاوز ذلك الى “التعاون في مجال انهاء المقاطعات الاقتصادية المقامة ضد احدهما الآخر من قبل اطراف ثالثة”، فيما تنص المادة 11 على التعهد بالامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية، واتخاذ كافة الاجراءات القانونية والادارية التي تمنع انتشار مثل تلك الدعايات من قبل اي تنظيم او فرد. وتأتي المادة 25 لتقطع قول كل خطيب، فالفقرة 5 منها تنص على أنه “يتعهد الطرفان بعدم الدخول في أية التزامات تتعارض مع هذه المعاهدة”، في حين تورد الفقرة 6 من نفس المادة أنه وفي “حالة تعارض بين التزامات الطرفين بموجب هذه المعاهدة وأي من التزاماتهما الاخرى، فان الالتزامات بموجب هذه المعاهدة ستكون ملزمة وستنفذ”.
إذاً الأمور واضحة. بنص المعاهدة التي أصبحت قانوناً لازم التنفيذ وسامياً على أي التزام آخر، يُمنع على الأردن مقاطعة بضائع عدوّه الرئيسي، ويمنع على المواطن الأردني الدعوة الى مقاطعة مثل تلك البضائع، بل إن الأردن ملزم بنصوص المعاهدة إياها على العمل على انهاء مقاطعات أطراف ثالثة مثل الدول العربية التي لم تطبّع رسمياً بعد، أو العديد من الدول الأوروبية التي تقاطع بضائع المستوطنات، أو العديد من الإتحادات والنقابات في العالم والتي تتبنى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على اسرائيل!
كما يمنع على المواطن الأردني القيام بأي عمل من أعمال الدعاية المناهضة لإسرائيل، وهي الدولة الصديقة، صاحبة مشروع الوطن البديل، وعَلَم “من النيل إلى الفرات”، وشعار “الضفة الشرقية لنا أيضاً” لحزبها الحاكم!!!
أي بؤس هذا يرتكبه صانع القرار السياسي والأمني في البلاد إذ يأمر بالعصي أن تنهال على وجه الناشط النقابي العمالي سياج المجالي الذي رآه العالم من على فاصل الأخبار الرئيسية لنشرات فضائية الجزيرة، بينما يصوّت برلمان الدولة التي يريد سياج مقاطعتها على تثبيت يهوديّتها، وتطرح أحزابها الحاكمة فكرة طرد عرب الـ48 وحل القضية الفلسطينية في الأردن؟ ما هي الرسالة التي يريد أن يوصلها صانع القرار هذا؟ أيريد أن يقول: أنتم هناك تثبّتون يهودية الدولة وتعملون من أجل ترانسفير جديد، ونحن هنا نقمع مناهضيكم بالعصي ونسيل دمهم؟
أي منطقٍ انتحاري ذاك الذي يتبناه صانع القرار إذ يأمر بحمل مجلس النقباء كلّه في باص الشرطة إلى مخفرٍ في أحد أحياء المدينة ليبهدلهم هناك أحد الضباط برتبة عميد، ويطردهم كأطفالٍ إلى الشارع؟ ولماذا؟ لأنهم يعتصمون ضد استيراد الفواكه من الدولة التي تغمرنا بإشعاعاتها ومائها الملوّث، وتَنْتَهِكُ سيادتنا ليل نهار في الباقورة والغمر وزور داميا، وبنصوص ذات المعاهدة؟
كل هذا الحديث هو بالمنطق القُطري الذي يُفترض أن تفهمه السلطة السياسية في الأردن جيداً، وسأوفر على نفسي القول بأن إسرائيل تريق أنهر الدم في فلسطين ولبنان، وتحتل الجولان، و.. و..، فبعد “الأردن أولاً” والهويات القُطرية، يبدو أننا ما عُدنا نرى أبعد من أنوفنا.
ثمّ…
إلى متى ستستمر قصة أن المواطن هو هدف مشروع لرجل الأمن ليضربه ويرفشه بلا رقيب ولا حسيب ولا رادع؟ السيناريو المكرر ذاته: إعتذار رسمي، ثم تشكيل لجنة تحقيق لا يعلم أحد عن نتائجها شيئاً، ثم ضرب ورفش في الاعتصام أو المظاهرة التي تليها، ثم اعتذار، وتستكمل الدائرة! هكذا حصل عام 2002 حين نشرت مشاهداتي عن التعذيب في سجن الجويدة، وهكذا حصل في قصة قمع مظاهرة الرابية قبل أشهر والاعتداء على الصحفي ياسر أبو هلالة، وهكذا صار يوم 5/7/2009.
المُضحك/المُبكي أثناء الإعتصام هو أنني وحين طلبتُ -وبصوتٍ عالٍ- ضرورة تحميل مسؤولية الضرب والرفش الذي تعرّض له المعتصمون لمن أمر بذلك وضرورة محاسبته، جاءت عناصر الشرطة واعتقلتني: “أنت… بدّك تحمّل مسؤوليات، آه؟ تعال معنا… يلّلا إطلع عالباص… هات هويتك…”، وهو اعتقال لم يستمر لأكثر من ثلاثين ثانية جاء بعدها ضباط الشرطة وصاحوا فيّ بغلظة للنزول من الباص: “إنزل من الباص بَقُلَّك..”، لا يريدونني بطلاً لذلك اليوم كما فهمت!! المغزى هنا أن الأجهزة الأمنية ترى في مُطالبتها بتحمّل مسؤولية تصرّفاتها أمراً يهدّدها ويستدعي بناءاً عليه اعتقالاً (ولو مصغّراً).
لنكن واضحين: إن كانت هناك حصانة لرجل الأمن ليفعل ما يشاء بمن يشاء دون رقابة أو محاسبة أو مسؤولية كاملة، فنحن في وضع مأساوي. أما أن يتعامل ضابط كبير باستهزاء مع مسألة ممارسة العنف على اعتصام سلمي صغير مكوّن من مجموعة قليلة من النقابيين والحزبيين والصحفيين وبمنطق “دَرَكْ… قُشُّولي إياهم كلهم من هون..”، فهو أمر يطرح تساؤلات كبرى عن مهنيّة وحرفيّة هؤلاء المناط بهم حفظ كرامة المواطن وسلامته وحقوقه، وعن أسلوب ومنهج المؤسسة التي تدرّبهم وتؤهلهم.
يجب أن تكون كرامة المواطن -كائناً من كائن- وسلامته وحقوقه، هي محور عمل الأجهزة الأمنية، أما ذاك الذي يهين هذه الكرامة باستعمال العنف الجسدي أو اللفظي أو غيره، فينبغي محاسبته، وبشدة. في فلسفة السلطة، يفوّض مجمل المواطنين ممارسة العنف لفئة قليلة منهم، لتقوم هذه الفئة بحماية المجمل وحقوقه الأساسية، لا أن تقوم بإهانة المجمل وقمعه، فعندها، يصبح التفويض لاغياً.
أيضاً…
إن حرية التعبير عن الرأي والاحتجاج والتظاهر والتنظيم، هي حقوق أساسية وطبيعية للناس، قبل أن تكون حقوقاً دستورية أو قانونية. ويفترض في القانون تنظيم حقوق الناس الأساسية والطبيعية لا مصادرتها أو تقييدها، لكن القانون في عالمنا المعاصر أصبح يمثّل الأداة الأنجع لفرض إرادة السلطة ومصالحها على الناس. إن تعدي القانون على حقوق الناس الاساسية والطبيعية لا يُكسب هذا التعدي أي شرعية، ولا يعطي السلطة التي تستعمل القانون المتعدي أية أفضلية. والطبيعي حينها أن ترفض القوى الشعبية الخضوع لمثل هذه القوانين المتعدية وأن تعمل على إسقاطها.
قانون الاجتماعات العامة، الذي يمنع الاجتماعات العامة فعلياً باستثناء تلك التي يقبل بها المحافظ، هو واحد من تلك القوانين المتعدية. لقد قيل للمعتصمين أمام وزارة الزراعة أمس الأول “ليس لديكم ترخيص”، ومن الطبيعي أن لا يكون لديهم ترخيص، فالتظاهر حق طبيعي ودستوري، والأساس أن النقابات والأحزاب ترفض قانون الاجتماعات العامة باعتباره انتهاكاً لحقوق الناس، وانتهاكاً للدستور، وبالتالي فهي ترفض هذا القانون بمثل رفضها لقوانين أخرى مثل معاهدة وادي عربة مثلاً وتعمل على إسقاطه.
وأخيراً…
يدلّ اعتصام الأحد 5/7/2009 على الكيفية التي تكمل فيها القوانين المتعدية بعضها، حيث يصبح الواحد منها ضرورة أو ذريعة للآخر، ويصبح الحديث عن “إصلاح” أقرب إلى المشروع الطوباوي الساذج، نظراً للتماسك العضوي بين عناصر البنية الإشكالية. لهذا، فالأصل أن ندعو الى إسقاط معاهدة وادي عربة، وإسقاط قانون الاجتماعات العامة، وقانون الانتخابات، كمقدمات لمحاولة تغيير حقيقية بعيداً عن عبء الشراكة الاستراتيجة مع المشروع الأمريكي الإسرائيلي، الذي يدفع فيه المواطن الثمن من جيبه وماءه وكرامته.
::::
* طبيب أسنان، وكاتب، ومقرر لجنة مقاومة التطبيع النقابية.
نشرت في صحيفة القدس العربي (لندن)، الجمعة 10/7/2009