عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1960)
توضيح من كنعان
نشرنا في في الايام القليلة الماضية بعض المراسلات والمقالات الحوارية بين الاستاذين أحمد حسين وعادل سمارة حول مسائل التطبيع مع العدو الصهيوني، ورداً على تسائل بعض القراءة عن هذين الكاتبين نقول ان الاستاذ أحمد حسين هو من عرب ـ فلسطينيي الاحتلال الاول عام 1948 حيث يقيم، أما الاستاذ عادل سمارة فيقيم في منطقة رام الله وهو من عرب ـ فلسطيني الاحتلال الثاني عام 1967..
“كنعان”
:::::
“إن سلاح النقد لا يغني عن نقد السلاح“
ماركس
أخي أحمد حسين، الخِلُّ الوفي وحامل هم الفقراء، هم الطبقات الشعبية، حتى وهي تفقد حكايتها، لكن تأكد أنها لن تفقد اصالتها. مهما تواضعت، فأنت مقاتل في زمن الهزائم، ولا أعظم. وصلني خطابك الأخير، وكنت تقريباً قد أنهيت هذه المقالة، نعم أرفعها إليك، ، أنت وكل العرب الرافضين والرافضين من غير العرب، شركائنا هنا ، ورفاقنا في كل مكان. جميل رفضنا، ولكن ليصبح مؤثراً، وليكون لنا تاريخاً لا بد من مشروع جماعي.
صار لا بد من السؤال:
لماذا أثيرت مشكلة التطبيع في الأرض المحتلة اليوم؟
ولماذا اثيرت، بل وُلدت محصورة، في رام الله فقط؟
وهل هذه الزيارة الأولى لبرنباوم إلى رام الله؟ وهل هو الأول الذي دخلها؟
وهل من كتبنا عنه كان أول فلسطيني من خارج الأرض المحتلة يدخل إلى رام الله؟
وهل المؤسسة التي قررت تأجير بيتها لبرينباوم هي الأولى التي تفعل ذلك هنا؟
وهل الجمهور في الأرض المحتلة عارف ما هو التطبيع؟
هل هناك ثقافة المقاطعة ومناهضة التطبيع؟
ما علاقة هذه كلها بطبيعة الحياة المجتمعية في الأرض المحتلة؟
ما هي طبيعة التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية في هذه الأرض؟ ما حدود ارتباطها باقتصاد الاحتلال؟ وما تأثير هذا الارتباط على طبقة أو شرائح طبقية من حيث تعيُّشها من العلاقة بالاحتلال بما يتقاطع مع سلام نتنياهو الاقتصادي؟ وهل قوت التسوية هذا الارتباط ام لا، وما معنى تقويته؟
وهل كانت أوسلو سلاماً حقيقياً أم سلام راس المال؟
وإذا كانت سلام راس المال فلماذا قبلت بها الجماهير؟
وهل هناك ثقافة فلسطينية واضحة المعالم حتى يقف الثقافي في مواجهة الاقتصادي…؟
هذه مجرد نتف صغيرة من الأسئلة التي يجب أن تُثار إذا كان لا بد من مناقشة التطبيع وممارسة المقاطعة من قبل شعب أرضه محتلة، وهو مشرد، ومن قبل أمة يُجنزىء من وطنها عاما بعد عام قطراً بعد قُطر!
لا أزعم أن لدي قدرة ولا زمن الإجابة ولا الاضطرار لإعطاء كل هذه الأسئلة أولوية على ما لديَّ من هموم، أحاول معالجتها ومعالجة نفسي منها، خاصة أن الإجابة على هذه كلها من العبث أن تكون همَّ شخص فرد. معنى هذه الأسئلة وتمفصلها وتداعيتها واستدعاءاتها يتطلب فريقاً على نطاق الوطن يعمل لهذا الهدف لينتج تحليلاً واستشرافا لوضع العرب حتى 2050. هذا إذا كنا مسؤولين عما نزعم أننا مكرِّسين أنفسنا له. وغياب هذا الفريق مأساة أكثر مما هو تعبير عن مأساة، هي مأساة الوعي المهزوم والمأزوم، وهو ، اي الوعي كلما كان مهزوماً، كلما تساوى وجوده مع عدمه، وربما كان مثل هذا الوجود أخطر، وهنا أتفق فيه معك ايها الرفيق أحمد حسين. حين ينتظر الثقافي من السياسي أن يوفر له مكاتب وثيرة للعمل، حين ينتظر الوعي من الجهل إنارة الدرب، حين ينتظر الحب والعطاء المدلوح على الطرقات من الشحِّ والجشع شيئاً، حينها نتيقن من انسداد المرحلة. لذا، لا زلنا نحن، رافضي استدخال الهزيمة نتفاً من المثقفين/ات المبعثرين على قارعة الوطن والتاريخ، نضيىء قليلا هنا أو هناك ولا نُحدث ناراً ابدية كما هو شأن غيرنا من الأمم. أما العزاء أيها الخِلُّ أحمد حسين، والخلان عند العرب متلاصقين دوما، ونحن نتلاصق بالوعي والموقف، العزاء أننا تماماً كالذين في الميدان، جيوب المقاومة، وهذا ما اسميته يوم كرَّمني بيت الشعر في رام الله “حرب غوار الثقافة”. سيطربك ما سأقول الآن، لقد بكى أكثر الحضور وأنا أتلو بعض فصول تراجيديا حياتي، وخاصة مع الوعي المأجور والمخصي، ومع السياسي المأجور والفاجر، ولا أخفيك كنت أبكي كما تفعل لكنها تُرد إلى الداخل، ولست ادري هل يمكن لدواخلنا أن تضاف لها ذاكرة كأجهزة الحاسوب كي تتسع أكثر ولا تنفجر؟ قد يكون أمراً جميلاً أن نتحول أحياناً إلى قطع بلاستيكية، لكنها كالذهن “عالية التنظيم” كما وصف لينين، ذلك الشقي والمُشقي ذات يوم، كما وصف الدماغ، ولو كان لدماغه أن يصبح بلاستيكياً لكان ما زال حياً!
قبل أن اختصر الإجابات لأجيب على بعض البعض الذي اثرته في أسئلتي أعلاه، أود أن اقول شيئاً عن الاشتباكات التي كانت مؤخراً، وعن مشاركة بعض المثقفين فيها، مع أو ضد او للمصالحة العشائرية، أو للدفاع عن الفلسطنة ضد (عربنة مصر أو الأردن أو سوريا أو تونس…الخ). وأعتقد ومقتنع، أنني رغم عشقي لهذه الأرض المحتلة، إلا أنني عروبي بكل اتساع هذا الوطن وأوجاعه. وقد كلفتني هذه العروبية الكثير فلم أُدع إلى هذا المؤتمر أو ذاك، ولم تُعرض بعض مقالاتي على هذه النشرة الإلكترونية أو تلك، ولم يتغير فيَّ شيء. فلست أنت إلا في مدى تلاقيك مع نفسك وتصالحك مع وعيك، أما الأممية فتبدأ من حبك المحلي.
الهزيمة سواء كانت قومية أو (طبقية في المجتمع الواحد) تعني أن الطرف الأقوى يبدأ بالسيطرة، ومن ثم بالهيمنة ، وهذا أجدى له واسهل، وهذا يعني خضوع الطرف الآخر أولا بالسيطرة ومن ثم التعود عليها أو التطبُّع بها ـ بمفهومنا العربي للتطبيع اليوم- ، ولا يأتي التطبع بدون عامل مادي سواء ظهر أم اختفى أو بالأحرى أُخفي بحذق وبفرش ثقافي وتنظيري، وبهذا يحصل نوع من الاستقرار، أو التوازن الاجتماعي في البلد الواحد أو الاستقرار في علاقة التابع والمتبوع. حتى الآن نحن في رحاب نظرية غرامشي بشأن الهيمنة تحديداً، والتي تعرضت لسرقات عديدة، حيث أعاد سبكها فوكو بما اسماه القوة مثلاً، وهو الأمر الذي طالما أدهش وألهب ألباب الطلبة المستجدين في علم الاجتماع، المأخوذين بالحمى الكاذبة في الجامعات البرجوازية الغربية: “اعطني فكرة خلاقة Creative Idea”، ولا يهم بعدها مدى قدرة هذه الفكرة على التفاعل مع المجتمع وتحديداً مع نضال الطبقات الاجتماعية الشعبية للقضاء على الرأسمالية.
لكن الأمور في الوطن العربي، وفي الأرض المحتلة تبدأ من نظرية غرامشي، التي قصد بها اصلاً وصول الطبقات الشعبية إلى قلعة السلطة واقتلاع تلك السلطة دون تركيب سلطة مثلها بالمقابل. وهو ما اسميته في أكثر من مقالة، البدء بتفكيك مفاصل الدولة القطرية، ولسنا نطالب غرامشي اليوم بأن يصل إلى ما وصلنا إليه، من أن الدولة بما هي حصريا طبقية، لا يمكن أن تحقق متطلبات أمة أو أمم. لا بد من شيء جديد أرقى من دولة النطاق القومي المُخضع بالضرورة لمصالح الطبقة الحاكمة/المالكة حتى لو كانت ذات اتجاه إنتاجي متحكم بالفائض ومتمحور على الذات، ففي كل هذا تظل محصورة قومياً وحين تمتد أو تتمدد إلى الخارج تكون استعمارية، وإمبريالية وعولمية كما هي اليوم. ربما يجوز القول إن شبكة من قوى التنمية بالحماية الشعبية على صعيد محلي قومي اقليمي وعالمي تمثل مدخلاً، وقد يتفاعل مع هذا الحراك الشعبي العالمي الجيد ضد الحرب وضد العولمة، وإن كانت هذه الحركة المليئة بطيبي القبوب والوجدان، هي ايضاً مخترقة بثعالب راس المال والصهينة والعالم الرسمي، لكن هذا ليس موضوعنا اليوم.
ما يجري في الوطن العربي، وتحديداً في الأرض المحتلة معاكس لما ذهب إليه غرامشي والذي أعادوا قراءته وخاصة إلثوسير، وديفيد هارفي، ومفيد قسوم، وتطويرات سمير امين في الاقتصاد، وما يتبدى في تلويك من الألم، وعجزي عن الدمع. ما يجري هو الوصول بالهيمنة، ليس إلى قلعة السلطة، بل إلى استدخال الهزيمة. اي لوي عنق النظرية والتاريخ معاً ونفي العرب من التاريخ. وبوضوح: هل ما يجري يثير الأعصاب ويدفعنا للخروج على المرحلة شاهرين السيوف، كافة أنواع السيوف معاً؟ لِمَ لا؟ ربما كان هذا الوجع هو الذي دفعني لكتابة ونشر كتابي الذي حين أنجبته اسميته: “مساهمة في الإرهاب“. لم تره أنت، وأنت تعيش في الأرض المحتلة حيث بوسعك سماع صوتي دون مكبرات الصوت النكراء والتي تحول مواء القط إلى زئيرٍ، أما حكام الوطن العربي، فحينما تغير السيدة كلينتون قطتها القديمة وتصاهر سلالة قططية إيرلندية، يكونوا هم الذين يوزعون الحلوى على حفل التبريك، ويصبون الماء على ايدي المعازيم، الذين يدسون ايديهم في الثريد وفي مؤخراتهم، لا فرق فالشكر لتفريخات مواد التنظيف التي تنظف، حتى هؤلاء.
واستدخال الهيمنة هو مشروع مشترك تتعاون فيه قوى السيطرة والهيمنة الثلاثية، اي مركز الراسمالية في حقبة العولمة، والكيان الصهيوني والأنظمة القطرية. وليس شرطاً أن نسمي هذا مشروع الشرق الأوسط الجديد أو القديم أو العميل، كل هذا لا يهم. ما يهم هو أن هناك شغل حقيقي على استسلام الشارع العربي وخاصة الفلسطيني لما هوقائم!
واستدخال الهزيمة يتشكل من إهلاك إقتصادي بالمعنى المادي وإهلاك ثقافي فكري وخاصة قيمي. وعندها تتصرف الناس بافق المهزوم والمقتنع بتشرُّب عميق بأن ما هو حاصل قدر وأن ليس أمامه سوى تدبير راسه كفرد وربما كأُسرة. لا ترابط ولا بنى طبقية أو حزبية أو نقابية…الخ. وهذه إشكالية وعينا يا خليلي العزيز مع المرحلة.
(ما رأيك بهذه المعترضة، أنا أعرف، رغم سذاجتي طويلة المدى، أنك تجرني إلى محاورات مطولة بطول أوجاعك التي أعرف، وبطول همومي، مشكلتي هي في الاستعداد للاشتباك على عدة جبهات حتى أتفتت، الهموم التي أعجز عن الإحاطة بها قبل ان يحيط شيئاً ما بعنقي). ذكَّرتني هذه المعترضة بعبد اللطيف عقل، ذلك المجنون الذي هرب من العمر سريعاً، فكتب في : الحسن بن زريق ما زال يرحل:
ومن يعرم التبن ياْ بن زريقٍ حين
ظهور العجول تنخُّ من الجوعِ
نعم يا رفيقي وخليلي، أشعر أن عليَّ أن أعرم التبنَ، وأن أشتبك مع التطبيعِ، وأن اكتب بعض السطور لاجتراء بعض ما يقيم أودي العقلي والجسدي، وأن أُلاحق قاتلي النساء، واغتصاب الصومال، وحتى مذبحة الماويين في سري لانكا التي ذهبت كموت الفقير! هل أتسع لكل هذا؟ سأحاول، وأنت تدري النهاية، أنك اقدر مني على الإحاطة بهول المذابح، أنت في الشعر والأدب بما فيهما من مدىً وأنا في الاقتصاد السياسي بما فيه من جفاف ويباسٍ.
حين تكون قطاعات واسعة من المجتمع عالة على الدولة وظيفياً، وحين يكون المثقف مجرد بوق يعيد إنتاج أطروحات مسحوتة كالعملات القديمة التي مات كثير من الفقراء وهم يحفرون في أتربة رخوة بحثاًعنها لبيعها لمن يُصرون على الاستناد إليها لتزوير التاريخ. يقف هذا المثقف عمره للساسة كي يعيش أو ينجو بجلده من السجن أو الموت أو الرحيل، يصبح المثقف مثقفاً عميلا للطبقة الحاكمة وليس مثقفاً عضوياً. المثقف العضوي مشارك في القرار عبر إبداع تحليلات لطبقة اصيلة قومية منتجة، حتى لو برجوازية كما كان شأن أوروبا التي غافلت الزمن ونمت ليصح القول :”لا أوروبا بعد أوروبا”، أما في حالة الدولة الريعية والفاسدة والرخوة فلا يمكن للمثقف إلا أن يكون رخواً فكرياً، اي مثابة صائغ لغوي لأطروحات النظام وليس مبدعاً أو ريادياً. وهذا معنى مثقف السلطان. هذا المثقف غير العضوي هو المروج لاستدخال الهزيمة، ولذا، نحن أمام حالة سلبية للمثقف وللاستدخال ليست موجودة في آثار غرامشي أو غيره.
هذه حالة كثير من مثقفينا الذين تمكنوا عبر سواد استدخال الهزيمة ان يخرقوا اقدس القيم مما بدا عادياً جداً نظراً لانخفاض مستوى الافتراض الوطني والقومي والطبقي في المجتمع العربي عامة والأرض المحتلة خاصة، أو ما تسميه انت الحكاية الشعبية والأخرى الرسمية.
لولا مستوى الافتراض المهزوم والمستدخل للهزيمة، هل كان لمختلف القوى السياسية الفلسطينية أن تدخل الانتخابات تحت الاحتلال؟ ويصبح التنافس على “الشرعية -تقديس هذه التسمية هي إحدى ماثورات محمود درويش” والاحتراب من أجل الشرعية؟ أصبح المشروع الوطني هو دولة في “الضفة والقطاع “كاملين” ويمكن أن يكون منقوصين وحتى ناقص الضفة والقطاع. لم يعد المشروع الوطني تحرير فلسطين ولا حتى حق العودة. وبما أن الشرعية هي لمن يمارس الحكم الذاتي في الضفة والقطاع أو في إحداهما، فقد اصبح معنى ذلك أن المجيىء إلى أي منهما زيارة للوطن الذي اختزل للضفة والقطاع! وليس تطبيعا حتى بأبسط تفسيرات التطبيع. قد أكون وُفقت حتى الآن في تقديم تعريف غير مباشر لمعنى استدخال الهزيمة والذي يحمل نفس معنى التطبيع وإن بكلمات أكثر وضوحا وربما بشاعة.
المهم أنه في جانب استدخال الهزيمة، وغياب المشروع الوطني الاساسي، يصبح التطبيع أمراً عادياً، ويصبح نقده بنعومة أو بقبضة اليد، أو بالشاكوش جريمة وإقصاءاً وتشريحا وشوياً وقنصاً…الخ.
وأعتقد انه بقدر ما لدي انا كناقد للتطبيع بشدة، فإن لدى المطبعين نفس الحق واكثر بمقاييس المرحلة، بسقف القوى السياسية، وبالافتراض السياسي عامة. أي يصبح النقد بما هو نقد أمر مستهجن، لأن ثقافة المرحلة وخطابها السياسي هو باتجاه ما اسماه ذات يوم، ودعى إليه إدوارد سعيد “تفكير جديد”، وهي عبارة مأخوذة تماما من الأكاديميا الغربية التي ظلت تضغط الرجل حتى تجاوز حق العودة، وعروبة فلسطين وابتلعه الصهيوني بارنباوم في معدته ال ليافياثانية- تعبير توماس هوبز، وصار سعيد العربي بارنباومياً، وكانت نتيجة الحسابات ك “شراكة ابي عمار مع رابين في أوسلو”، من الرابح ومن الخاسر، إسأل المرحلة. وفيما يخص التفكير الجديد، وإذا كان التفكير القائم هو العودة وتحرير فلسطين، فما معنى التفكير الجديد؟ سقت هذه النقطة تحديداً، لأقول لمن يرون في النقد المشتبك كرهاً وشخصنةً، نحن أعلى من أن نكره الأشخاص، وحين نذكر الأسماء، يكون ذلك فقط لتأكيد أن القول ليس تأليفاً، بل توثيقاً، وما نرفضه هو المواقف والتعبير عنها بهذا النصِّ أو ذاك. لذا، حبذا لو يقرأ هؤلاء العشاق لهذا الكاتب او الشاعر أو ذاك، وأن يقولوا لأولادهم أن يقرأوا شيئاً ولا يتحولوا إلى مجرد حالات، أي فِتْيَةً من الطَرِبين والتطريبين وحسب.
إنتهى “التفكير الجديد” إلى تجاوز حق العودة، وبا للطرافة، انتهى “الاقتصاد الجديد” في أميركا إلى انفجار الفقاعة المالية، أو إن الذي فجرها هو السّفُّود العراقي.
ليس النص مقدساً وحسب، بل هو ناطق، وهو حمَّال اوجه، ولنا حق قراءة كل وجه منه. فلا يمكن اعتماد شخص الكاتب او الشاعر من نصِّه الفني والتغافل والتطامن مع نصه السياسي، فما بالك بمواقفه. ولنا أن نأخذ هنا عبرة من مثقفي العدو. فهم لا ينزُّون بكلمة واحدة قط تزيغ هنا أو هناك عن حدودهم الإيديولوجية وخطاب نظامهم الصهيوني. أما لدينا، فيكاد البعض يذبح قطراً بأكمله قرباناً للعدو “الحضاري والمتقدم”. لا يمكن للنقد أن يكون حاذقاً في المستوى الفني أو النظري المحض، وأن يكون مجاملاً في المستوى السياسي والوطني والقومي والطبقي بالطبع. وحين يفعل هذا يصبح خطراً على الذهن الشاب، الذي يا سيدي أحمد حسين، هو ما نريد أن نراه بعد رحيلنا. أنا على ثقة، اننا سوف نمشي بينهم ولا يرونا، وحينها سنرى كم بنينا، بعذابنا وصدقنا، أما المحزن فإنهم لن يستطيعوا تكريمنا وبدورنا سوف نجبُن عن تقبيل وجناتهم، لأننا نخشى ان يعلموا اننا أحياء، فيُفشى سر الكونْ. حبذا لو نستطيع تعميمه وتجريده من بعده بل جوهره النخبوي. وإن كان هذا ما قتل الحلاج! هل تلاحظ، حتى الكون طبقي.
هي مشكلة الوعي اللامشتبك، أو الذي يحدد الاشتباك كما يرى ويريد ويستحسن ويستريح، أقصد حين يفصل بين النتاج الفكري أو الخطاب البحت وبين المواقف السياسية التي تتناقض مع وجودنا وحقنا التاريخي واليومي والمستقبلي في فلسطين، وتتناقض مع كوننا أمة مستهدفة بالمطلق من الغرب الرأسمالي والكيان والقطريات العربية. بكلمة أوضح من العيب أن ننتفض وننتضي سيوفنا دفاعاً عن ما لم نقرأه جيداً، أو هجوما عليه.
هل تعرف كم أحزن على هذه الوطن وأفتخر به معاً! أحزن كم هو مستهدف، وافخر لأنه شيئ ما، وإلا ما هي دواعي الاستهداف! قد تقول لي بحذقك المألوف، “سلامة وعيك، الاستهداف هو من أجل الثروة”. ولكن، استمع لي قليلاً، زارني قبل ايام، اقتصادي غربي تروتسكاوي حتى العظم، في مكتبي الصغير المجتزأ كزنزانة شبه انفرادية. مما قاله بإحدى الأعجميات بالطبع : ” شكراً لفلسطين والعراق التي وضعت الإمبريالية في الأزمة الحالية”. ذكرني هذا بما كتبته في كنعان الإلكترونية منذ عامين او ثلاثة، بأن تغيير العالم قد يبدأ من جنين إلى بغداد. هل حصل هذا رغبة منا؟ أم في دفاعنا عن جلودنا لمجرد البقاء؟ لا يهم، فها هي النتائج. ولكن، يهمنا جداً أن نرتفع بهذا ونرفعه إلى وعي المستعمَر في وجوب سحق المستعمِر بالفكر والعصا معاً، فالتاريخ ليس تحصيل حاصل، هناك قرار الناس بصنع التاريخ.
ولكن، مرة أخرى، لماذ اثيرت إشكالية التطبيع اليوم؟
ببساطة لأنه لم يُثر بشكل فعلي من قبل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لأن هجمة التطبيع وصلت حداً اصبح معه التطبيع أمراً عادياً، وطبيعياً، مما يعني اقتراب موتنا وطنيا وقوميا وطبقيا وأممياً. ومن هنا كان يجب ان يكون سقف الرد والدحض والنقد اعلى. أما لماذ أُصيب هذا وليس ذاك، فهذا أمر صدفة لأن هذا أو ذاك مارس التطبيع في لحظة سخونة الموقف ليس أكثر، ولأن جلده، على الأقل هذه المرَّة، كان مبولد (من بولاد وبالفصحى فولاذ) . وأعتقد أن من سيطبع بعد اليوم، سيجد نفسه تحت نقد اشد ومن عدد أكبر من الناس، وهذا ما ابتغيته من دخول اشتباك متعدد الأوجه، تخلى عني فيه كثيرون حتى من أُحب، ووقفت أنت وقفتك الشجاعة على فقرك المادي ولكن غناك الروحي وحياتك التي لم تساوم، فهل هذا قليل! ألم يقل ابي فراس الحمداني:
ولو سدَّ غيري ما سددت اكتفوا به وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ.
هل تعرف أن الموت يهون تماماً حين يتوفر الوفاء حتى لو كنت في الطريق إلى حَلَقة الحبل شبه الدائرية ؟ أنت أفهم مني في اللغة والأدب ، لكن اسمح لي أن اقترح عليك التفكير في الفارق، بل التناقض التناحري بين الوفاء وبين التطبيع! ألا يصلح هذا موضوعاً لمسرحية عن وطننا؟
أما لماذا لم يثَُر من قبل، وهذا السؤال الأكثر وجاهة، فأعتقد أن الإجابة السياسية الميدانية لازمة هنا. هناك رزمة من الأسباب أولها أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت ولا تزال فقيرة في ثقافة العمل الاجتماعي الجماهيري بمعنى إشغال الجماهير وليس النخبة في العمل الوطني، وكذلك في العمل الاجتماعي، اي ثقافة الاحتجاج وحتى المطالبة، النضال المطلبي. ولأن ثقافة النضال الاجتماعي الطبقي فقيرة ايضاً لدى هذه الحركة، وبالطبع لأن هذه الحركة غاصت في التسوية إلى درجة اصبح نقد التطبيع هو نقد لها. وإلا، لماذا عجزت القوى الوطنية في الضفة الغربية عن اتخاذ موقف ضد زيارة برينباوم لرام الله وضد دخول فرقته “المتحدة” من العرب والفلسطينيين والصهاينة الذين يحملون جوازات سفر إسبانية كي يتسللوا إلى ذاكرة الطبقات الشعبية؟ هل السبب أن خوان كارلوس الإسباني ما زال يثأر لوجودنا الحضاري في الأندلس؟ أم هو يتزلف ببلده للمركز؟ نعم، لقد كان قبول بلاده في الاتحاد الأوروبي مشروط باعترافها بالكيان.
هذا يعني أن التطبيع يحظى برعاية رسمية ومن فئات شعبية ايضاً، بل اصبح التطبيع شبكة حماية لهذه الفئات و/أو الطبقات. لذلك، لم يكن صعباً على مجلس بلدية رام الله أن يصوت بالأكثرية على استقبال برينباوم وفرقته، وأن يقولها أعضاء فيه هاتفيا وأن يكتبوها، بأن المجلس “يؤجر” القصرالثقافي، وهذا ما دفعني للقول لهم، بهذا المعنى بوسعي تأجير بيتي لمستوطن في المستوطنة المقامة بجوار قريتي ، فهذا تأجير ايضاً ومشروع لإدرار الدخل، ولا تؤاخذني، ربما لإدرار البول! ولم يكن صعبا ولا عَصِيَّاً على مجموعة من المؤسسات الثقافية والفنية أن تشارك في تمرير وتبرير واستقبال برينباوم، ويكفيها خزياً أن لا نذكرها هنا.
وقد تتضمن الإجابة أعلاه، إجابة على سؤال آخر هو: لماذا يتفوق مؤيدو التطبيع على مناهضية عدداً وعُدَّةً، ولكن ليس في قدسية الموقف والقضية ؟ وهذا لا يعني ان المجتمع مع التطبيع ولكنه بين مُغرَّب عن هذا الأمر وعن السياسة وبين مُهلَك معيشياً، وبين خائفٍ أمنياً. إذن “نشطاء” التطبيع أكثر عدداً ومالاً من المناضلين ضد التطبيع. أكثر عدداً لأن الحركة الوطنية غيَّبت عناصرها عن هذه النضالات التي هي حماية للمجتمع، وبالتالي اصبحت عناصرها وكوادرها مُحيَّدة عن القضايا الوطنية والمجتمعية، وغدوا كالجنود في المعسكرات بلا مهام. فقد زاد غياب هذه التنظيمات عن النضال الاجتماعي/ الطبقي القومي في تعمُّق المأزق الذي غاصت فيه الحركة الوطنية، وأحد تمظهراته بل طفحه تصارع على السلطة، وهذا سابق على مشكلة قطاع غزة، بل هو بدأ على الأقل مع أوسلو. (وإن كنت أؤرخ له مع منتصف السبعينات والصراع على المجالس البلدية).
ولأن جبهة مناهضة التطبيع بهذا الضعف، وهي كما اشرت اعلاه ليست جبهة اصلاً، هي مجموعات أو أفراد مبعثرين هنا وهناك دونما ناظم ودونما تنسيق، اي ليست لا فريقاً كما لا تنسيق فيما بينها. وهذا قد يتضمن الرد على اسئلة واحتجاجات كثير من الأصدقاء الذين احتجوا على ما كتبته عن الشاعر الذي أتى إلى رام الله. ولست متأكداً أنه أتى بقراره او أن آخرين استثمروه! وأنا أُرجِّح الثانية.
ماذا وراء هذا كله؟
ولكن، هل حصل كل هذا صدفة؟
أليس هذا الشعب الصغير هو الذي بذل التضحيات منذ بدايات القرن الماضي، وصولا إلى الإنتفاضتين؟
كيف تمت عملية الإجهاض هذه، والتي يراها الناس بأم العين، ولا يواجهونها كما يجب؟
بكلمة أخرى، لماذ تعترض فئة محدودة على التطبيع، والفساد والرخاوة، ويسهل نعتها بالتطرف وشوي الآخرين، وإثارة الطائفية…الخ؟ لماذا يمكن الهجوم، بل يسهل الهجوم، على من يقومون بالحد حتى الأدنى من الواجب؟. بل لماذا صار التطبيع عادياً؟
لكي لا يأتي يوم ويقول لنا الجيل المقبل: اين الإنارة التي قدمتموها لنا، لا بد من تسجيل بعض الملاحظات التي تساهم في إنارة الطريق، علَّ هذا القلم وغيره يواصل الدرب.
لم يكن للكيان الصهيوني أن يتكون هنا، حتى لو كان المستوطنون اليهود عباقرة تسلل إلى فلسطين، لولا الدعم والاحتضان الراسمالي/الإمبريالي الغربي لهم. بمعنى أن الفلسطينيين وعموم العرب إنما يقاتلون الغرب الراسمالي بأكمله[1]. وهذا الغرب إنما خلق هذا الكيان ليكون أداة عدوان له ضد الأمة العربية وحتى ضد إيران، واية دولة أخرى تحاول مجرد الخروج من تحت عباءة الإمبريالية.والإمبريالية اليوم شركات تعيِّن حكومات في الغرب والشرق على حد سواء، وعليه، فإن الحكام هناك والجيش يلحقون هذه الشركات أنَّى تواجدت مصالحها.
بكلمة أخرى، إن ما يعمل ويؤثر حقاً، سواء نطق أم لم ينطق، في هذا الصراع في الماضي واليوم وغداً، هو الاقتصاد السياسي، هو المصالح الاقتصادية للطبقات الحاكمة/المالكة في الغرب وربما لاحقا في الشرق، من يدري، هو راس المال، مجسدا اليوم في الشركات الكبرى. وكل من يلجأ إلى تقديم تفسيرات ثقافية ودينية وإيديولوجية، كبدائل للمصالح المادية إنما يغتال الاقتصاد السياسي، ويقدم للناس أطروحات غير مفهومة أو مضللة، وهذا ما تحاول دوما الأكاديميا الغربية تضليلنا به..
نتحدث هنا عن شبكة مصالح مادية متواصلة للمركز في هذه المنطقة، وهذا يتطلب خطة بعدة سيناريوهات، تتغير أو تتبادل السناريوهات مواقعها، لكن تظل منسجمة في خطة هي وجوب سحق اية مقاومة في هذه المنطقة. وفي هذه الخطة يتم استخدام أدوات متعددة، قد لا تبدا بالحرب، ولكن حين لا يتم احتواء اية حالة إلا بالحرب، فالمركز جاهز دوما ويباشر ذلك. اسوق في هذا الصدد مثالاً ورد في مقابلة في راديوDemocracy Now في نيويورك مع الاقتصادي جون بيركنز الذي عمل مع أكثر من إدارة أميركية في تخريب اقتصادات العالم الثالث، يقول فيها : حاولنا مع صدام حسين، الفاسد، إغرائه، ولم ننجح، وحاولنا إسقاطة بتمرد داخلي لكن حرسه الجمهوري كان مخلصا، فلم ننجح، وحاولنا اغتياله، ولم ننجح وبقي علينا احتلال العراق لأننا بكل الأحوال نريد النفط”. أما إحدى سيدات التسوية في الأرض المحتلة فقالت لصحيفة عبرية بعد عدوان الغرب على العراق وإعادة احتلال اميركا للكويت: “إن مجرد ذكر اسم صدام يثير فيَّ التقيؤ”. لو ذكرت اسمها هنا، لصار الأمر “هجساً للأعراض”. نسوق هذا المشهد فقط لمجرد التذكر بأن محبي أميركا مهما قتلت في العالم هم يحبونها كعبيد تمثلوا العبودية.
من مضمون خطة/خطط المركز في الأرض المحتلة، الحالة الفلسطينية عامة إحتواء شرائح معينة عبر عملية التسوية، وتسليمها سلطة سياسية غير سيادية، ولكن فيها سلطة محلية معينة، وتزويدها بقدرات مالية، وبالتالي وضعها في موقع تتناقض مصالحها سواء الإقتصادية او الإدارية البيروقراطية الحكمية مع المقاومة، اي تشغيلها ضد المقاومة. وهذا يمكن تكثيفه في كونه احتواء بتوفير مصالح وتوفير أموال، اي خلق بنى تابعة ، هو تحويل الناس إلى تابعين، غير منتجين، مرشيين، وبالتالي رخوين نضالياً. وحين تصل شريحة أوشرائح أو طبقة من الناس إلى هذا الوضع، مثلا العيش بعائدات غير منظورة، ودون جهد إنتاجي، تتمسك بمصالحها هذه وتدافع عنها ضد من يحاول مقاومة هذا الخراب، وإذا ما اضرت المقاومة بمصالح هؤلاء، يقفون ضد المقاومة حتى لو كانت بالكلمة[2]، وإذا وسعك الوقت اقرأ خطاب الجنرال دايتون المنشور في كنعان الورقية العدد 138، أو اقرأ قراءة له ل ألكس فيشمان في يديعوت أحرونوت 18 حزيران الماضي بعنوان: جيش دايتون” .
إذن هو الشكل الاستعماري الكلاسيكي، لتخريب مجتمع معين هو محط استهداف، سواء بعد الاستقلال، أو حتى قبل هزيمة المستعمِر وخروجه، يتم اختلاق طبقة أو شريحة وكسب ولائها وتشغيلها في كسب ولاءات المجتمع أو تخريب وعيه وتشويه روايته. وهذا معنى عدم خروج الاستعمار، أو عدم دقة الحديث عن ما بعد الاستعمار.
ويعمل المركز الاستعماري وخاصة في حالات الاستقلال الشكلي على خلق سلسلة من التبعيات سواء بالثقافة او الاستهلاك، أو حتى الميول والعادات…الخ. ولعل المناطق المحتلة حالة نموذجية على هذا. ففي فترات الاحتلال المباشر، قبل اوسلو، تم تعميم ثقافة الاستهلاك مجتمعياً، سواء بالنسبة للأغنياء أو الفقراء، مما خلق حالة من عجز المداخيل عن سد النفقات أو الحاجات على مستوى الأسرة الواحدة. ومما زاد هذه المسألة تأزماً أن مداخيل الفلسطينيين هي في أحسن احوالها 1-20 من مداخيل الإسرائيليين بينما الأسعار متقاربة ولا سيما اسعار السلع الاستهلاكية التي هي دولية الدوران، بمعنى ان المنتجات المحلية هي غالباً منتجات اساسية وضرورية للمواطن، وبالتالي كلما كانت موادها الخام محلية كلما كانت اسعارها مقبولة محلياً، اي تخضع لقانون قيمة وطني، وإن كان بدائياً أو أوَّلِياً.
وحينما تم توقيع اتفاق أوسلو، تدفقت أموال المانحين كي تعوض الدخل الذي كان يوفره العمال الفلسطينيون داخل اقتصاد الاحتلال، واقيم جهاز بيروقراطي هائل ، وتراجع الانتاج المحلي بالطبع، وهو ما اشرت إليه في أكثر من مقال سابق. والمهم هنا أن أعداداً كبيرة من الموظفين غير المنتجين قد تراكموا على الجسم الإنتاجي الضئيل في البلد.
ولكي لا يذوي هذا الاقتصاد الضئيل، ويموت الوليد الخطير (أوسلو) كان لا بد من تدفق الأموال وتوسيع أجهزة التوظيف وتوافد مؤسسات ومنظمات اجنبية وغير حكومية (الأنجزة) وكل هذه لعبت دورا في تطبيع المواطن الذي اعتمد دخله عليها. وهكذا، كانت التسوية من جانب، والتدفق المالي من جانب آخر قد عملا على محاصرة الوعي الوطني للمواطن حيث أخذ يغوص في مشاريع وعلاقات وثقافة تطبيعية دون ان يشعر بالحرج والخلل.
ربما كانت القوة الاختراقية للتطبيع مجتمعياً، هي القشرة السياسية العليا للسلطة الفلسطينية التي بدأت تتحدث عن السلام وتطبع مع سلطات الاحتلال طالما هناك سلاماً، وإلى جانبها قشرة من مدراء المؤسسات الأجنبية وغير الحكومية الذين ركزوا على اجتثاث الموقف الشعبي الكاره للغرب الراسمالي. وبهذا كانت النتائج الخطيرة للتطبيع هي العمل على قبول العدوين: الاحتلال بما هو “مسالم مفترض” والغرب الرأسمالي ومؤسساته بما هو راعٍ للسلام!
انعكاس واقع التطبيع: رام الله نموذجاً
نظراً لغياب راع وطني، أو مرجعية وطنية معتمدة، لتحديد الموقف من امور عدة من بينها التطبيع، فقد كان على كل مواطن أو شريحة أو طبقة أن تحدد موقفها وعلاقتها بالتطبيع حسب مصالحها، على هواها، وفي حدود التزامها. قد تبدو هذه الجملة سوداوية وسلبية، ولكن، لو سأل أحدنا نفسه، ما هو المشروع الوطني الفلسطيني؟
هل هو مشروع موحد، أم أن لكل فصيل مشروعه؟ هل مشروع دولة في الضفة والقطاع هومشروع الجميع، هل هناك من إجماع على الاعتراف بالكيان؟
هل الدولة الواحدة هي مشروع الجميع، وهل الدولة الواحدة ديمقراطية وحسب، علمانية وحسب، اشتراكية…الخ. وهل ستكون فلسطين المستقبل جزءاً من الوطن العربي الاشتراكي، أم ستكون لمن فيها من العرب واليهود؟
هل يؤمن كل من يتحدث عن حق العودة بهذا الحق، وهل هو حق العودة إلى الضفة والقطاع كما يتعطَّف بعض الصهاينة أم هو إلى يافا وحيفا؟
حين يكون هناك ارتباكاً في كافة هذه القضايا يضطر المواطن العادي أن يكون هو مشروع نفسه فردياً واسرياً. وأعتقد أن سر نجاح العدو كامن هنا. كامن في خلق تفكيك للحركة الوطنية ومن ثم الواقع الاجتماعي الفلسطيني. وهذا ما جعل مسألة التطبيع مجهولة، وبالتالي لا يدري المواطن حين يمارسها أنه يرتكب معصية، بل يشعر كأنه يذهب إلى السوق لشراء حاجاته البيتية لا أكثر.
يمكننا اعتبار رام الله حالة دراسية لمسألة التطبيع حيث تتركز فيها سلطة الحكم الذاتي، ومؤسسات الأنجزة، من جهة، وهذا ما قاد إلى استقطاب أعداد كبيرة من الفلسطينيين من مختلف مناطق الضفة الغربية إلى رام الله بحثا عن العمل والوظائف والتجارة كذلك. وهذا جعل رام الله نموذجاً على التقاطب الطبقي أو التفارق الطبقي. فمن ناحية هناك القشرة المتمولة من القيادة السياسية وقيادات الأنجزة، وهناك الطبقة الوسطى من قطاع الموظفين والمهنيين، وهناك العمال عامة بمن فيهم العمالة غير الرسمية.
في هذه الحالة تعيش كل طبقة طبقا لوضعها الاقتصادي واهتمامها الاجتماعي/ السياسي. وعليه، يمكن رؤية أكثر من وجه اجتماعي سياسي وحتى وطني لهذه المدينة التي كانت طبيعية جداً وهي عادية كمصيف، وأصبحت طارئة جداً إثر تضخمها.
وحيث أن نقاشنا هنا ليس تحليلا اجتماعيا سياسيا بمقدار ما هو مركز على التطبيع، فقد كان لكل طبقة أو شريحة سلوكها أو تعاطيها مع التطبيع. فالطبقات الشعبية عموماً لا تتعاطى مع التطبيع من حيث المبدأ كما أن حياتها اليومية لا تقترن بذلك منهجياً. هي من حيث فطرتها الوطنية ضد التطبيع. وحتى لو حصل فذلك ليس كقناعة أو قرار وإنما كحالات اضطرارية، وهذا ما حال دون استيعابها في مشروع التسوية، وإن كانت لا تعترض عليه نضالياً، وإن كان أيضاً قد تم الإيقاع بها سياسياً، فمارست الانتخاب تحت الإحتلال اعتقدت أن ذلك أمر طبيعي وديمقراطي. فهذا بالطبع دليل ضعف رافضي التطبيع والتسوية.
مرة ثانية، فقد تعاملت كل طبقة مع التطبيع طِبقا لوضعها الاقتصادي ، فالطبقات الشعبية والوسطى مارست التطبيع من خلال ضرورات العمل، بمعنى، أو لأن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية المحلية هي كسيحة من حيث مستوى تطورها بمعنى قدرة راس المال المحلي على توفير فرص عمل لاستيعاب قوة العمل المحلية. اي أن معادلة عمل/ رأسمال المحلية عاجزة وكسيحة، بما هي معادلة قطبها البرجوازي كمبرادوري تابع ومرتزق وتطبيعي ايضاً.
أما في الجانب الزراعي الفلاحي، فربما كان الأمر معكوساً، وأكثر مفارقة في نفس الوقت. فبينما كانت للاحتلال سياسته الرامية إلى مصادرة كل شبر ممكن من الأرض، وطرد الفلاحين والملاك منها، أو دفعهم للرحيل كلياً خارج الوطن، واستيعاب ما يتبقى من قوة العمل الريفية للعمل في اقتصاد الاحتلال، مقابل هذا لم تكن هناك سياسة تنموية لا لمنظمة التحرير قبل اوسلو ولا لسلطة الحكم الذاتي بعد أوسلو. وبالتالي ظل القطاع الزراعي مهمشاً وخاضعاً لسياسة احتلالية دقيقة وصارمة وتدميرية، وإهمال فلسطيني. وهذا قاد إلى تراجع في حجم قوة العمل الزراعي، وإهمال اكثر للأرض المتبقية بايدي اصحابها.
دخل في هذا التعقيد أمر مُفارق آخر هو تبعية المناطق المحتلة للكيان الصهيوني قبل وبعد اوسلو. هذه التبعية التي ابعدت قوة العمل الريفية عن الزراعة لأن انفتاح اقتصادها على الاحتلال وحصر وارداتها من اقتصاد الاحتلال، أدى سريعا بعد بداية الاحتلال عام 1967 إلى ما يقارب توحيد الأسعار وتفارق المداخيل. وبارتفاع كلف المعيشة في الضفة والقطاع بما يفوق كثيراً المداخيل المجترأة من العملية الاقتصادية المحلية دفع بالكثير من الفلاحين إلى التحول إلى العمل المأجورمما أدى إلى خراب الأرض وارتفاع عال لكلفة إعادة استصلاحها أي بما يعجز الفلاح نفسه عن الإنفاق على ذلك.
وبإهمال الأرض هكذا، لم يعد الفلاح فلاحاً تقليديا كما كان، ولم يتبرتل (من بروليتاريا) كما هو الأمر في حالات التطور الصناعي في البلدان ذات الأوضاع العادية، اي الانتقال الطبيعي إلى الرأسمالية، ولا بقي الفلاح في حالة وسطية في الفترات الانتقالية حيث يعمل عاملا مأجوراً ولكنه يستفيد من قطعة الأرض التي يملكها في إكمال حاجاته المعيشية، اي حالة الفلاح/العامل معاً.
اي ان المجتمع لم يخلق لها مجالات العمل والتشغيل التي تغنيها عن العمل التطبيعي مع العدو، وهذا سحب نفسه على سلوكها الاستهلاكي.
قد يصح القول هنا، أنه كلما ارتفع مستوى المعيشة في مجتمع مداخيله ليست مجترأة أساساً من إنتاج محلي، فإن الميل إلى التطبيع يتزايد، بمعنى أن المداخيل المكتسبة بلا عمل، تدفع متلقيها للتخارج لصالح مصادر الدخل نفسها. بذا، فالخلل التطبيعي هو أعظم لدى الطبقات البرجوازية والوسطى إلى حد أقل، التي جعلت من التطبيع الثقافي مكونا لحياتها الروحية أو لم تتورع عن جعله كذلك. وقد لا يكون الخلل منها أو فيها كلياً، بمعنى أن المناخ السياسي العام هو الذي جعل من السهل عليها ممارسة التطبيع دونما روادع ذاتية داخلية. بمعنى أنها ليست معزولة عن الوسط المحيط وبالتالي فهي متاثرة به بالضرورة.
وفي هذا الصدد، يكون الأكثر خطيئة في الأمر هي المجموعات التي تركز عملها ضد التطبيع بمعنى انها/ اننا لم نقم عملياً بتعميم ثقافة مناهضة التطبيع.
التطبيع، مناهضته بين الأرض المحتلة والوطن العربي
إثر نشر مقالتي عن التطبيع، وردود المعني وآخرون عليها، تلقيت كما اشرت آنفاً، أكثر من وجهة نظر وملاحظة ومباركة ونقد وهجوم…الخ. وكما أشرت في التراسل والتواصل معك يا رفيق أحمد حسين، كنت ولا زلت اتعاطى المسألة كمسألة وطنية، كقضية عامة لا شخصية. لكن ما لفت نظري حديث صديق من عمان حيث قال: “يا اخي حينما تكتبوا عن شخص معين، إسألونا؟
وفي الحقيقة، كان هذا الأمر لافتاً جداً لي. وكما قلت للصديق، اقول هنا: من أنتم؟ هل توجد في الأردن هيئة أو مؤسسة أو جماعة استشارية، اعتبارية، توجيهية يمكن لنا الحديث معها، ومحاورتها سواء في حالات الدخول إلى الأرض المحتلة، أو حتى تعريف التطبيع، مستوياته، ظروفه، استثناءاته…الخ.
لقد اثارت هذه المسألة أو كشفت عن ضعف خطير في رؤيتنا القومية لمسألة التطبيع، وبالطبع في آلية تعاطينا معها، بل حتى لرؤية العرب للأرض المحتلة. وهي رؤية تركز على الحدث السياسي اليومي الجاري، وعلى المقاومة المسلحة. ورغم هشاشة المستوى الأول واختلاطاته وصراعاته، وأهمية المستوى الثاني، إلا أن الأرض المحتلة كجزء من الوطن وكمجتمع، هي قضية أوسع من هذين المستويين. إذ لا بد من التعاطي معها كوجود اجتماعي سياسي اقتصادي طبقي ثقافي، وبالتالي أخذ كل هذه المكونات بالاعتبار دائماً. وهذه الأمور أو المكونات تحديداً هي التي يجب أن تحدد الموقف من التطبيع، بمعنى، أن وجود كفاح مسلح، وهو دوما نخبوي، وإهمال التعبئة الفكرية والسياسية والقومية والطبقية والثقافية، تؤدي إلى وجود مجتمع مترهل عقيديا وانتماء، إلى جانب نخبة مسلحة تقاوم، وتُقمع من قبل سلطات الاحتلال والحكم الذاتي على حد سواء. وهذا المناخ هو الذي ينعكس في اللاإبالية الجارية اليوم في الأرض المحتلة.
يبقى بيت القصيد في غياب أية مرجعية وطنية وقومية لمسألة لتطبيع، وحتى لمسائل أخرى كثيرة هامة. وأعتقد أننا نحن العروبيون عامة والعروبيون الاشتراكيون خاصة نخضع/نتمثل/نستدخل قوانين وثقافة وإيديولوجيا الدول القطرية ونحن نعتقد أننا نتجاوزها، ونرفضها، وهذا مستوى معين من خضوعنا لهيمنة لا نراها. هذا هو فعل الهيمنة الذي إذا لم يُعالج بنقد مشتبك وحاد سيقود بالضرورة إلى استدخال الهزيمة، فهذا مآل الأمراض السياسية والعقيدية.
لم أسأل الصديق بدوري حينما يأتي شخص من قطركم، لماذا لا تسألونا، لأننا هنا لا نعمل كفريق، ولا يوجد بيننا تنسيقاً، لا داخل الأرض المحتلة ولا مع اي قطر عربي آخر. وعليه، طالما غاب التنسيق والاتصال ، اصبح المجيء اجتهاداً، والنقد اجتهاداً ايضاً. فلماذا يُقبل اجتهاد المجيىء ويُرفض اجتهاد النقد؟
ماذا لو كان لدينا مرجعية لمناهضة التطبيع؟
كنت أعتقد قبل إثارة مسألة التطبيع هذه الفترة، أن العرب خارج الأرض المحتلة يعرفون ما معنى اوسلو، بما هو اعتراف منظمة التحرير بالكيان الصهيوني مقابل اعتراف الكيان بمنظمة التحرير التي هي تجمع منظمات سياسية، إذا ما انحلت، يموت الاعتراف الصهيوني، ويبقى الاعتراف الفلسطيني بالكيان! هذا ناهيك عن أن اعتراف قطريات عربية بالكيان، بين علني وسري، يجب أن يجعل من التطبيع جريمة نكراء، مما يستدعي اتخاذ مواقف حاسمة ومتشددة من التطبيع. لكن ما يُلاحظ، ربما باستثناء مصر ولبنان وجود هبوط في السقف تجاه التطبيع مع الكيان!
من هنا أهمية وجود مرجعية في كل قطر، ومرجعية على صعيد قومي عام. ولا شك أن الأنظمة لن تسمح بمثل هذا التواصل بسهولة، ولكن، لماذا لا يتم تشكيل مجلس يتواصل عبر المراسلات الإلكترونية فيضع ديباجة معينة توافقية حول التطبيع والموقف من الكيان، وحق العودة، ومسألة الوحدة، ومسائل كثيرة في الوطن العربي، هي شديدة الأهمية للمواطن العربي من الجيل الجديد.
كثيراً ما يُقال ويُسمع عن الجيل الجديد أنه غير مهتم بالسياسة، وفقير ثقافياً، وأنه إستهلاكي…الخ. ولكننا لم نتوجه حتى لذلك العدد القليل من هذا الجيل الذي يهتم معرفيا وثقافيا وسياسيا ووطنيا. وعلينا عدم التوهان هنا، ففي اللحظات الحاسمة يتحول الواعون إلى قيادات للشباب العادي الذي لم يظهر عليه اهتمام بالسياسة اليومية.
ما كان يجب إنجازه عربياً هو تحويل مناهضة التطبيع إلى مشروع شعبي شامل يكتنف الحياة اليومية للمواطن العربي بدءاً من سيدة البيت وحتى المقاتل. أي وضع الشعب في حركة شاملة تمارس مناهضة التطبيع والمقاطعة كنمط حياة مما يؤثر على بل يوجه الاستهلاك في مستوييه المادي السلعي والثقافي. لم نفعل من هذا شيئاً بعد.
أما هم فلا يتوهون!
معصوم الصهيوني عن الخطأ، أم أن تزلف البعض إليه يجعل منه شيئاً معصوماً ما!. بكلمة أخرى، هل هو قوي هكذا، أم هو قوي لأن بيننا من “يستقوون بضعفهم”! لماذا يرفض العدو التطبيع مع مطبعينا، وهو مستوطن ومستعمر وغاصب ويتعرى على الصعيد الشعبي العالمي، لا بل يكفيه قبحاً أنه مدعوم من أنظمة العالم الرسمية، وهي في معظمها أجهزة قمع لصالح الأقل عددا في كل بلد، والأسوأ صورة وسلوكاً وثقافة!
اسوق هذه الخاتمة بعد أن تراجع الصهيوني برنباوم عن المشاركة في الحفل التطبيعي الذي أعده له المطبعون الفلسطينيون. هذا ما جاء في خبر وُضع على الصفحة الأخيرة (ص 38) من جريدة القدس يوم 16 تموز الجاري، نفى فيه أن يكون قد خطط مطلقا لحفل في رام الله في الوقت الحالي. طبعاً لا نقول أن هذا الصهيوني “وما ينطق عن الهوى”، لكنه بما نشر في الصحيفة المذكورة أكد أمرين على الأقل:
الأول: أحس بأن الموقف الشعبي ضده وأن القشرة لا تمثل موقف الناس، ولا أعتقد أنه تراجع من خلال حسابات ديمقراطية لتعداد من هو مع ومن هو ضد، ولكنه ربما خاف، وربما اعتبر، بما هو عنصري صهيوني، (وربما تورث شيئاً ما من عنجهية النازية) ربما اعتبر أنه إما أن يتطوَّح كل الفلسطينيين على الطرقات انتظاراً واحتفاءً بمجيئه، وإلا فلا! لكنه اكتشف أن المطبعين قلة، وهذا حجم جمهوره.
والثاني: أنه حيث اكتشف حجم جمهوره، لم يُراع لوعتهم وتحسرهم على عدم مجيئه، فقرر تكذيبهم!
طبقاً لنص الخبر في الصحيفة، فإن برنباوم كان في رام الله. هذا جميل، فبوسعه القدوم كاستعماري سراً وحتى على دبابة أو طائرة كما قال بوش يوم ذبح العراق: أُنجزت المهمة Mission Accomplished”، ولكن اصحاب المهمة التي أُنجزت بالجملة وسريعاً ذُبحوا بالتقسيط وكانت المذبحة المالية حيث انفجرت الفقاعة وتبدى من تحتها كم كان ذلك النظام الراسمالي المعولم لصوصياً باحتراف. ما الفرق إذن بين تحرك بول بريمر، وكونداليزا رايس وتوني بلير، ومسلسل القتلة هؤلاء سراً في العراق، وتحرك سفراء قطريات عربية كذلك سراً في بغداد، وبين تحرك الموسيقار في رام الله؟ لا فرق. لكل من الطرفين حوامله ، ولكن للشعب حوامله ايضاً.
[1] ومن هنا أهمية التركيز، وهذا يحتاج لبحث خاص على وجوب عدم التطبيع الشعبي العربي مع الأنظمة الغربية وغير الغربية التي تدعم الكيان. فليس هناك من معنى لمناهضة التطبيع مع الكيان، والانفتاح المطلق على الولايات المتحدة.
[2] بعد أن تكونت اللجنة المشتركة إثر كامب ديفيد 1978، وبعد أن تدفقت أموالها على القابلين ببيع ولائهم، ذهبت إلى مشروع لأحد القيادات الوطنية في يوم إضراب، فوجدته يعمل. سألته لماذا لا تلتزم باٌلإضراب؟ قال مصلحتى أهم. أما مصلحته فراسمالها من اللجنة المشتركة من بند اسمه أموال الصمود.