شركاء في الخراب

عوني صادق

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1963)

بعد أقل من أسبوعين تستحق الجولة السادسة (أو السابعة . . . لم أعد أتذكر) للحوار الفلسطيني – الفلسطيني في القاهرة، حيث تصر مصر على تحقيق “مصالحة” بين الفلسطينيين . وقد زار اللواء محمد ابراهيم، نائب مدير المخابرات المصرية، الأسبوع الماضي دمشق ورام الله والتقى قادة (حماس) و(فتح) والفصائل الفلسطينية الأخرى في محاولة لتذليل العقبات المرحّلة من الجلسة الأخيرة .

يأتي ذلك وسط مشهد فلسطيني عام يدفع إلى اليأس العميق، ويكاد الجميع يؤكدون أن مصير هذه الجولة لن يكون أفضل من مصير سابقاتها . أما السبب فلأنه في ظل المواقف المعلنة لطرفي الحوار الرئيسيين، وهي ليست متناقضة فقط بل متضادة، يستحيل التوصل إلى اتفاق، بل وإذا تم التوصل فعلاً إلى اتفاق فلن يكون حقيقياً، أو صلباً قادراً على الصمود، بل والبعض يقول إنه لن يكون لمصلحة القضية الوطنية وأصحابها، بل سيكون مقايضة للمصالح الوطنية الاستراتيجية للشعب مقابل مصالح جزئية وفئوية مؤقتة .

ولو أردنا أن نحدد تاريخاً رسمياً لبدء تدهور ما يسمى “المشروع الوطني الفلسطيني”، لوجدناه، على الأرجح، في تلك اللحظة السوداء التي أقر فيها المجلس الوطني الثاني عشر في العام 1974 برنامج النقاط العشر، أو ما أطلق عليه في حينه “البرنامج المرحلي”، ذلك أننا نستطيع أن نجد في ذلك البرنامج إرهاصات كل التدهور الذي نراه اليوم، بدءاً بالاستعداد للاعتراف بالكيان الصهيوني، مروراً بقبول المفاوضات الثنائية المباشرة، وانتهاء بالتخلي عن التحرير الكامل وحق العودة والكفاح المسلح . لكن تلك الإرهاصات وجدت ترجمتها الحرفية والأمينة مجسدة بعد إقرار ذلك البرنامج بعشرين عاماً، وبعد ما مرّ في أكثر من محطة على الطريق، حين توقف “المشروع الوطني” في محطة أوسلو في سبتمبر/أيلول1993 منذ ذلك اليوم المشؤوم، وبعد ستة عشر عاماً من التوقف في تلك المحطة، أصبح “المشروع الوطني الفلسطيني” مثل سيارة قديمة واقفة على رأس جبل ليس أمامها إلا المنحدر، لتصل في نهايته إلى الانقسام وليتحول “النضال الوطني الفلسطيني” إلى مسلسل ميلودرامي ممل فاقد النشاط والحيوية، بعد ما ضاع الموضوع الذي قام عليه، ويتحول إلى صراع بين الفلسطينيين بدل أن يكون بينهم وبين المحتلين الصهاينة . ولولا تلك التضحيات التي يقدمها “جمهور المتفرجين” المغلوبين على أمرهم بين حين وآخر، والتي تضيف بعض التشويق والإثارة لبعض المشاهد، لكنا شاهدنا الحلقة الأخيرة من المسلسل منذ سنوات . ومع ذلك، ما زال العرض مستمراً، بالرغم من احتجاجات المشاهدين وصيحات الاستنكار التي تصدر عنهم .

لنتمعن في الصورة التالية: مع انتهاء مائة يوم على تشكيل حكومته، قال بنيامين نتنياهو مخاطباً وزراءه في اجتماعهم الأسبوعي في معرض تعداد إنجازاته: لقد حققنا “الإجماع القومي في مفهوم حل الدولتين”، ثم فصل هذا المفهوم على أساس: “إسرائيل” هي الدولة اليهودية، القدس هي العاصمة الأبدية لهذه الدولة، المستوطنات باقية، قضية اللاجئين تحل خارج “إسرائيل”، والدولة الفلسطينية منزوعة السلاح . بعبارة قصيرة، قال نتنياهو: “إسرائيل هي فلسطين”، ولا شيء للفلسطينيين الذين هم مجرد مجموعة بشرية موجودة في “أرض إسرائيل”، والمطروح للبحث هو كيف يديرون أمورهم، إلى حين أن نتخلص منهم، من دون أن يسببوا لنا الإزعاج .

من ناحية أخرى، بالنسبة إلى ما يسمى “المجتمع الدولي” و “الشرعية الدولية” اللذين تنوب عنهما الولايات المتحدة الأمريكية وتمثلهما، وترعى “عملية السلام” برضا فلسطيني وعربي، لم تعد القضية احتلالاً، ولاحقاً في تقرير المصير، بل أصبحت، إذا تجاوزنا الألاعيب اللفظية، مجرد “تحديد حجم المستوطنات” في المدى المنظور، وما المقابل الذي يجب أن يدفع ل “بيبي” وبطانته لإتمام الصفقة .

والمراهنون على الولايات المتحدة، آملين أو طامعين أكثر من ذلك، هم واهمون أو أغبياء، أو أسوأ من ذلك . وليس من حاجة لأي تفصيل في الموقف العربي الرسمي، فهو يقبل ما تقبله الولايات المتحدة و”إسرائيل” في الموضوع، وليس ما يقبله الفلسطينيون .

أما الموقف الفلسطيني، وبالعودة إلى ما بدأنا به، فهو ولا شك الأسوأ بين كل المواقف . فكل الوضع السيئ يعزى إلى الانقسام الحاصل، ولكن ألم يكن الانقسام حاصلاً منذ توقيع أوسلو؟ ومع ذلك لم تصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم . وإذا قبلنا أن هذا الانقسام في الظروف الفلسطينية، يمثل قمة من قمم الضياع السياسي و”التفاهة الوطنية”، إذا جاز هذا التعبير، فإنه ليس القمة الأعلى في حد ذاته، بل في طبيعته . فالانقسام الفلسطيني الراهن ليس بسبب أن طرفاً يريد كل فلسطين وآخر يقبل نصفها، كما قد يظن البعض، بل بسبب أن كل طرف يريد له ولجماعته ما يتفضل به اللصوص علينا، إنهم جميعاً، الكبار والصغار والأبطال والكومبارس، كلهم يتقاتلون على وهم، وفي نهاية التحليل على من يحظى بشرف خدمة الأهداف الصهيونية، سواء رأوا ذلك أو لم يروه . الطامة الكبرى أن المتقاتلين يتوقعون من خلال مواقفهم وممارساتهم أن يقنعوا الشعب كل ب “وجهة نظره”، كأنهم لا يعرفون أن الشعب فقد ثقته في كل من يزعم تمثيله، أو قيادته في هذه اللحظة .

هذا الخراب، الفلسطينيون كلهم مسؤولون عنه، إنهم “شركاء يتقاسمون الخراب”، كما جاء في عنوان مسلسل درامي سوري . والسؤال المطروح الآن: ألم يأت الوقت الذي ينتهي فيه هذا المسلسل؟ ألم يئن الأوان للقطع مع أسباب التقاتل في غابات الوهم والعصبية والبدء بنص جديد؟ وإلى متى ستظل الساحة فارغة؟