عن ترجمة “عَامُوس عوز” للعربية

أحمد أشقر

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1964)

تعتبر الترجمة جزءًا من أية عملية للتثاقف مع الآخرين؛ فهي التي تأتي من باب التعاون معهم، أو من باب الاستزادة من معرفتهم وعلمهم وأدبهم، أو من باب: “إعرف عدوك”، إذا كان الآخرون أعداءاً. وأمتنا العربية على مدار تاريخها الطويل والمؤثر في الحياة الإنسانية، تعاشرت واشتبكت مع الآخرين، ولا تزال. وعليه، فقد كانت الترجمة في العصور الغابرة، ولا تزال إلى يومنا الراهن، صنعة هامة، وإن أهملها قادتها الرسميون في عصرنا الحالي، كي يبقوا عقول أبنائها رهينة الثقافة الرسمية، مثلا: تمنع هذه العقلية العرب في الخليج من معرفة تقنيات بسيطة: فكّ مصباح كهربائي احترق وتبديله بآخر جديد!

صراعنا مع اليهود الصهاينة وحركتهم الصهيونية وذراعها الماديّة “إسرائيل”، كان من المفترض أن يجعل صنعة الترجمة من العبرية، قديمة كانت أو وسيطة أو حديثة، صنعة نخبويّة يوليها قادة الأمة ومثقفوها جلّ اهتمامهم. إلا أن أمرا كهذا لم يحدث، والذي حدث هو حوادث مريبة، هي ترجمات لبعض هوامش السياسة والثقافة في “إسرائيل”، يدعون يسارا، يدعوننا للخضوع لهم، وقبول التسوية التي يعرضونها علينا، وإلا فإن “ربّ الجنود” لنا بالمرصاد! هذا ما يمكننا فهمه من المواد المترجمة التي ينشرها فلسطينيون وسواهم من عرب!

كان الدكتور جابر عصفور، رئيس المركز القومي المصري للترجمة، قد أعلن عن قرار المركز ترجمة بعض الأعمال للـ”إسرائيليين”: “عاموس عوز” و”ديفيد جروسمان” للعربية. جاء هذا القرار في خضم المساعي المحمومة لانتخاب سكرتيرا عاما للـ”يونسكو”. فمن المعروف، أن وزير الثقافة المصري، فاروق حسني، يرغب بهذا المنصب- الوظيفة إلى درجة الاستماتة. لكن “إسرائيل” تعارض انتخابه بشدة، بحجة أنه في منصبه الحالي وزيرا للثقافة في مصر، ضدّ التطبيع الثقافي معها. علما أن حسني وزير، منذ ثلاثة عقود، في حكومات مصر التي عقدت أول اتفاقية “صلح، كامب ديفيد” مع “إسرائيل”! والدكتور عصفور، من جهته، نفى أن يكون لنيّة حسني أية علاقة باتخاذ قرار الترجمة. وقال: “[…] ولا يدخل في باب التنازل بسبب ترشيح فاروق حسني لليونسكو‏ […]” (جابر عصفور، الأهرام، 29. 6. 2009). يبدو أن النفي الذي يقوله أي سياسي- وعصفور في هذا السياق سياسي بامتياز- ما هو إلا تأكيد على الأمر الذي يريد نفيه. وهذا هو حال عصفور، الذي إطلالاته السياسية أكثر من الثقافية. سواءً صدقنا ما قاله عصفور أم لا، فإن الترجمة في هذا السياق مرفوضة.

فيما يلي سأقوم بترجمة بعض الاقتباسات من أدبيات “عوز” تفصح عن صورة العربي في كتاباته. لكن قبل ذلك نقول بعض الكلمات عنه: ولد عوز في مدينة القدس عام 1939. لعائلة مستعمرين هاجرت من أوكرانيا عام 1934، كانت محسوبة على أكثر التيارات فاشية في الحركة الصهيونية، جماعة جبوتنسكي. وسكن في حي استوطنه مهاجرون من شرق أوروبا. ولم يحتك بالعرب في المدينة، أو باليهود العرب الذين عاشوا فيها. أي أنه رضع الكراهية للعرب مع حليب أمه التي انتحرت عام 1951. ويقول عن التربية التي تلقاها: “كنت ولدا وطنيا متحمسا في سنوات الصف الرابع والصف الخامس في مدرسة تحكموني. كتبت قصة تاريخية مسلسلة واسمها ‘نهاية مملكة يهودا’ وعدة أناشيد احتلال وأناشيد عن المكابيين وباركوخبا وأناشيد عن عظمة الأمة، التي كانت تشبه القوافي الوطنية الملتهبة لجدّي ألكسندر وبذلت جهدا لتقليد نشيد بيتار وباقي أشعار الأمة التي لزئيف جبوطانسكي: […] ‘أشعل نارا، لا شيء!/ لأن الصمت وحل/ اترك الدم والروح/ من أجل العُلى المخفي! […]’. تأثرت أيضا من أناشيد الفدائيين اليهود ومتمردي الجيتوات! […]’. ومن أشعار شؤول تشرنيخوفسكي التي كان أبي يقرأها بنغمات طربة: ألحان الدم والنار! اصعد إلى الجبل وحطّم الحواجز، كل ما تراه- فقير” (عاموس عوز، قصة عن الحبّ والظلام، إصدار كيتر، 2002، ص 474). ويضيف: “هم [أي العرب] يفهمون فقط لغة واحدة، لغة اللكمات [العنف] ويعتبرون ضبط النفس ضعفا” (“مكان آخر”، 1969، ص 114).

يُسَوَّق “عوز” بالقول إنه “يساري”؛ ليس من قبل “اليسار الصهيوني” فقط، بل من قبل حلفائهم العرب، الذين باتوا يتحالفون أيضًا مع اليمين الصهيوني! وبعض الأوساط الليبرالية في العالم. فهو أكثر الكتاب “الإسرائيليين” ترجمة وانتشارا في العالم. وأعتقد أن هنالك دوراً هاماً للمؤسسة “الإسرائيلية” في مسألة تسويقه كـ”يساري”، فهي بحاجة لبوق إعلامي يتحدث بخطاب شكليّ مغاير للغة السياسيين. لذا، فالمؤسسة هي التي جعلته “يساريا”، وهي التي سوّقته بهذا الرداء. وهو الأثير على الذين يقرؤون ويكتبون في الكيان. ولنا أن نذكر: هذا “اليساري” كان قد طالب بقصف العراق بالسلاح النووي عام 1991. وفيما يلي بعض الاقتباسات من كتاباته، وفي هذا السياق لا بدّ لي من شكر السيّد “جباي مردخاي” الذي زودني بالاقتباسات من كتب “عوز”، لكن تبقى مسؤولية اختيار النصوص المنشورة هنا وترجمتها والتعليق عليها والتقديم للموضع، مسؤوليتي وحدي فقط:

1- “[…] أودي هذا، مثلا، لو يفتح أوراقه مرة واحدة كان سيقول لي اسمع، زارو، طالما لم تقتل بقنبلة يدوية وبندقية من مسافة متر ونصف أو حربة في بطن عربوشية، لن تعرف ما معنى الحياة، لن تشعر بالمتعة ببطنك بالمتعة التي لأجلها ولدنا. […] أودي سيحضر في الربيع من مقبرة الشيخ ظاهر هيكلا عظميا لعربوش، وسيثبته بأسلاك حديدية كي يكون بعبعا في الحديقة وليتفجر الجميع […]” (عاموس عوز، “أيام الراحة”، عام عوبيد، 1982، ص 187).

ما يقوله “عوز” في السياق في غاية العنصرية والعنف؛ فهو يصف العرب بصفات تحقيرية: عروبشية” و”عربوش”، ومعنى الحياة عنده الاستمتاع بقتلهم والتمثيل بجثثهم.

2- “كان يحزقئيل يقصّ على حفيده أثناء الطعام عن عرب سيئين وعرب ملاح، على نواطير وعلى عصابات هوجاء […] “يئير كان تلميذا مطيعا ومنكبا على دراسته. لم يُنقِص كلمة واحدة ولم ينس كلمة واحدة […] من رابية تل العريش أطلقت عصابة حسن سلامة النار على حولون [(مستعمرة بين يافا والرملة)] […]” (عاموس عوز، ميخائيلي، عام عوبيد، 1984، ص 102).

ومثل كل الصهاينة لا يذكر “عوز” حقّ العربي بالمقاومة والدفاع عن نفسه. فكل مقاوم عنده: “إرهابي”.

3- “في بيتنا شرشفا أبيضًا. باقة أقحوان صفراء في مزهرية. رجاجة نبيذ أحمر. ميخائيل يقطع خبز السبت. أنشد يئير ثلاثة أناشيد للسبت تعلمها في الروضة […] “ميخائيل يبدأ بالحديث إلى يئير حول جزء من أحداث 1936. الولد يتشرب التفاصيل بعطش. ويعرض سؤالا مفحما […]”(عاموس عوز، ميخائيلي، عام عوبيد، 1984، ص 116).

أصبح الحديث عن التنكيل بالعرب عام 1936، وتربية الأبناء على هذا، طقسا مقدسا ورومانسيا مساء السبت.

3- “يبدو أني أخطأت. شهوة سلطة هوجاء تبدو على يئير. ليس ميخائيل هو الذي أعطاه هذا الأساس. ولا أنا. قوة ذاكرته القوية عادت توقظ فيّ الجزع. حتى الآن يتذكر عصابة حسن سلامة وهجومها على حولون من اتجاه تل العريش. كما تعلم من جده المرحوم قبل أكثر من سنة ونصف” (عاموس عوز، ميخائيلي، عام عوبيد، 1984، ص 168).

يعزو أن سبب العنف “الإسرائيلي” هو مقاومة العرب لهم في ثورة عام 1936، وليس هم، “اليهود، العنف ذاته.

4- “فيما اليساري تفحص بدراسة بالغة القسيمة المحوسبة من البنك ولم يتمكن من فهم إن كان أُضيف إلى حسابه مبلغ 600 شاقلا أم 450 أو العكس. رأسه سقط على صدره وداخل عينيه المغمضتين، حشود مسلمين مرّوا مهتاجين، يصرخون آيات وشعارات، يدوسون ويحرقون كل ما يصادفهم. حتى فرغت الساحة وفقط قطع أوراق صفراء اختلطت بالريح وذابوا في أصوات المطر” (عاموس عوز، “الحالة الثالثة”، إصدار كيتر، 1991، ص 14).

هذا “اليساري” لا يرى في الإسلام والمسلمين سوى حشودا تدميرية تقضي على الأخضر واليابس.

5- “الرجل من حانوت الملابس النسائية التي لعمتي جيرثا؟ الرجل العربي العطوف الذي أنقذني من فخّ الظلام وحملني بين ذراعيه عندما كنت ابن أربع أو خمس سنوات فقط، الرجل النعسان واللطيف هذا، الذي ابتسامة خجولة كانت تلمع للحظة على شفتيه، وبسرعة كان يعود ليختبأ تحت شاربيه الشائبتين الطريتين، هو الصوت الذي أذكره كل حياتي من كل قلبي، ‘يكفي يا ولد كل شيء على ما يرام، يا ولد كل شيء على ما يرام’: ماذا، أيضا هو؟ يجلخ الآن حربته بحجر، يسنّ قلبه ويستعد لذبحنا جميعا؟ وأيضا سيتسلل هو إلى شارع عاموس في منتصف الليل مع سكينته الطويلة الملتوية بين أسنانه لذبحنا، ليحزّ حنجرتي وحناجر والدي و’يغرقهم في الدم’؟ (عاموس عوز، قصة عن الحبّ والظلام، إصدار كيتر، 2002، ص 747).

هذه الحادثة حقيقية في حياة “عوز” وبدل أن يذكر العربي الذي ساعده بالخير، أو ينقلها دون شروح وتعليقات، استخدمها استخداما عدائيا مثيرا للتقزز.

6- “كنت على استعداد لأتحالف مع إنجلترا، وأنشأ سويا مع البريطانيين تحالف شعوب الثقافة المتنورة- بوجه أمواج الوحشية الشرقية منحنية الأحرف، منحنية السيف، المشتعلة والمبحوحة، التي تهدد أن تندفع من الصحراء لذبحنا ونهبنا وذبحنا بعواء- صيحات حلقية التي تجمد الدم […] (عموس عوز، “قصة عن الحبّ والظلام”، إصدار كيتر 2002، ص 83).

في هذا النصّ يردد “عوز” بصورة “أدبية” ما قاله مؤسس الحركة الصهيونية “هرتسل” عن الشرق. ويؤكد ما قاله “ماكس نوردو” عن تحالف الصهيونية مع الشيطان ضد الشرق.

7- “في حرب الأيام الستة، اقترح جدّي أن تساعد أمم العالم إسرائيل الآن، لإعادة كل عرب بلاد الشام ‘باحترام كبير، دون أن تُسقط ولو شعرة واحدة من رؤوسهم وبدون أن ننهب ولو دجاجة واحدة من أملاكهم’ إعادتهم إلى وطنهم التاريخي، الذي يسميه [أي الجد] العربية السعودية” (عموس عوز، “قصة عن الحبّ والظلام”، إصدار كيتر 2002، ص 124).

بالنسبة لـ”عوز” لا مكان لعرب بلاد الشام في فلسطين. فوجودهم فيها صدفة ومؤقت. وما على الأمم “المثقفة- المتنورة” إلا أن تساعد “إسرائيل” بتهجيرهم كافة. إذ لا يكفي تهجير عامي 1948 و1967.

8- “ومن يعرف ماذا سيفعل لنا البريطانيون قبل خروجهم. وبعد خروجهم. ستقوم جحافل العرب المتعطشة للدماء، ملايين المسلمين المتحمسين، سيقومون وخلال أيام قليلة بذبحنا كلنا. لن يتركوا بين الأحياء ولدا واحدا” (عموس عوز، “قصة عن الحبّ والظلام”، إصدار كيتر 2002، ص 341).

ربما هي دعوة منه أن تبقى بريطانيا في فلسطين حامية ومساعدة لهم، خوفا من المسلمين.

هذا هو “عاموس عوز” الذي يعتبر أكثر الكتاب مبيعا في “إسرائيل”. وعندما نرى جنديا- إرهابيا أو جندية- إرهابية، تقرأ كتاب “عوز” في محطات الحافلات والقطارات، بانتظار وسيلة نقل تقلها إلى إحدى القواعد العسكرية، وعندما نسمع في وسائل الإعلام أن الجنود- الإرهابيين اليهود نفذوا مجزرة في غزة أو الضفة أو شفاعمرو، نفهم الدور الذي يلعبه الأدب، الذي هو بجوهر أدب “عموس عوز”!

ashkar33@hotmail.com