محمد الأسعد
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1968)
ناجي العلي خطاب فلسطيني ممنوع، أو هو جزء من الخطاب الفلسطيني الممنوع الذي ينبذه المقاولون ويتجنبه المثقفون ويطلق عليه الرصاص قتلة محترفون.
لم يشهد عصر فلسطيني مثلما شهده هذا العصر من أشباه ثقافية وأشباه سياسية انتحلت اسماء الأصول، واعتلت المنابر ساعية الى مراعيها الخاصة، وحرضت على اغتيال كل ومضة في ليل اللاجئين الفلسطنيين الطويل.
هذه “ ثقافة ” اغتيال بامتياز، وان انتحلت نشيد اطفالنا، وحزن امهاتنا وكآبة أبائنا، واختلست عذابنا، وحولتنا الى نظارة مسرح يرقص فيه الممثل السياسي وبطانته من الشعراء والكتاب والمقاولين والمهرجين.
كيف يمكنني استعادة ناجي من دون هذه اليقظة على مسرح المسوخ، من دون رؤيته يطوي جوانبه على خريطة فلسطين السرية ويرحل في حلمه البسيط؟ كيف يمكنني التفكير فيه من دون التفكير بحشد السماسرة الأكولين حد التخمة، بالراكضين وراء المهرجانات الباذخة، أمام دهشتنا وذهول شهدائنا الدامعين؟ كيف يمكنني التفكير فيه من دون اللقطة الأخيرة التي حاصره فيها المسوخ في الزاوية وامطروه بالرصاص؟
في أواخر الستينات كان الفلسطيني مدعوا للرحيل في سفينة “ ثوريين ” نبتوا مثلما ينبت الفطر، مسرنما لا يعرف اتجاها ولا دربا سوى ما علمته اياه حكمة العذاب، وتهويدة الأمهات، وسياط المعتقلات العربية، ووحول المخيمات،وهذا الحلم الجميل : أن يستعيد الانسان فيه.
السرنمة هي حالتنا المثالية الملائمة لنبات الفطر ونبات الظل من الشعراء والكتاب والمترحلين وراء الماء والكلاء. والسرنمة هي الحالة الثورية المطلوبة كي لا يفكر السائرون في نومهم بمعرفة من يقودهم والى أين.
في تلك الايام ايقطني ناجي على مشهد القائد المترهل وهو يقف خطيبا أمام حشد من الفدائيين تكدسوا مثل سمك السردين في الأغوار، فيقول أحدهم “ يوافقون على اللجنة السداسية مع أن نجمة داهود سداسية “!
ويقول آخر ” يقول حمينا ظهر الثورة وعلينا الآن أن نحمي كروشها “!
وفي صورة أخرى يرسم ناجي قائدا مستلقيا على سريره ممسكا بالهاتف ويخاطب الفدائيين : ” خليكو على الخط… أنا معاكم على الخط “!
يفاجئني هذا العلي ويوقظني، وسيفاجئني بصمته أكثر حين تجاور مكتبانا في مجلة ” الطليعة ” الكويتية في مطلع السبعينات، فرغم أن رسومه تتحدث بل وتثرثر وتحتشد بالاصوات، الا انه لم يكن كثير الكلام ( ربما لأنه لم يكن لديه ما يقول، بقدر ما أن لديه الصور.. والصور وحدها ) حين ترى العالم على هيئة صور ربما تفقد شهية الكلام، وحين ترى الكائنات الثورية في مباذلها وصفقاتها ربما تفقد شهية الحلم ذاته، واما حين ترى المسرح عاريا من زيناته واضوائه واصداء خطاباته، ولا يتسابق على خشبته سوى الوحوش، فستغضب وتحاول أن توقظ المشاهدين المسرنمين.
هذه هي قضية ناجي العلي بالضبط : ايقاظ اكبر عدد من الناس على حقيقة المسرحية، وحقيقة الممثلين، أعني مسرحية الثورة والثوار، فقادتها منتحلون، وشعراؤها متعيشون، وكتبتها زمارون، لقد ابتلع الذئب جدة ليلى وها هو يستعد لالتهامها.
وحين كنا نعجب من اتساع عيني الذئب، كان ناجي يضحك، وحين كنا نتساءل ببراءة عن الكروش المتضخمة، كان ناجي سخر من براءتنا، وحين كنا ندهش امام الأنياب الطويلة، كان ناجي يغضب ويطلق شتائمه.
لم يكن العالم بريئا أبدا، بل قفص وحوش تنتحل سمات الأدميين وتتحدث لغتهم بل وتنتحل حتى عذاباتهم. ولكن لن تتجسد هذه الرؤيا وتقترب من الملموس الا تدريجيا، ولن نفقد براءتنا المحزنة الا ونحن على بوابة منتجع اوسلوالريفي الذي اقيمت فيه حفلة المسوخ الأخيرة.
ما لذي لم يقله ناجي قاله من قبل، ورسمه، وكان علينا أن ننتظر كل هذه السنوات لنرى منتحلي لباس الفدائي وهم يخلعون ازياءهم ويرتدون ازياء السماسرة ومقاولي بناء المستعمرات الصهيونية ومحتكري قوت الشعب الفقير بعد أن انتحلوا صوته، ولنرى ابناءهم وأبناء أبنائهم يمرحون مع ابناء الصهاينة في تل أبيب وحيفا، ويصبون أموالهم في البنوك الصهيونية.
ألم تكن شخصيات هؤلاء هي ذاتها شخصيات الزواحف التي فقدت اطرافها الآدمية في رسومه وتحولت وجوهها، فاذا هي قطيع فقمات بلهاء يقف جنبا ال جنب رجال المخابرات الاسرائيلية والأمريكية في احتفال تمزيق الميثاق الوطني الفلسطيني في غزة؟!
أعرف الآن كم كان ناجي رائيا حقيقيا، بل وأكاد أقول الرائي الوحيد في زحمة مهرجان منتحلي الثورات والانتفاضات، وأعرف كم كان ثمينا أن يستيقظ الفلسطيني ويتحسس صوته، صوته الممنوع منذ اكثر من خمسين سنة.
لأن ناجي تجربة الفلسطيني الانسانية، اللآجىء خارج وطنه واللاجىء داخل وطنه، كان خطابا ممنوعا، لأنه امتلك القدرة على أن يكون صوت وصورة هذه التجربة ( بعيدا عن انتحال الشعراء والخطباء والزواحف ). كان يجب أنيحاصر، وتجند لحصاره قطعان المتعيشين والمنتفعين الذين كان ناجي شاهد فضيحتهم.. وجبنهم.. وارتزاقهم.
لم يشهد الزمن الفلسطيني أشد نبلا ونقاءا من هذا الفنان، في وقت صودرت فيه الثقافة الفلسطينية وتحولت الى مهرجان زواحف، وصودر فيه الفن الفلسطيني وتحول الى تسبيح بحمد امبراطور عار من الثياب، وتحولت فيه الصهيونية الى انشودة على ألسنة جوقة مكتملة من الطبالين.
هل تريدون شهادة؟
اذن اسألوا هذا الحصان الفلسطيني الجامح الذي تتجاذبه حبال الصيادين والمقاولين وتجره في الشعاب والوديان داميا مرهقا، اسألوا هذا الحصان الفلسطيني الذي يتلفت دائما الى فلسطين حتى وهم يفقأون عينيه، ويقتطعون لحمه، وينهالون عليه بالخناجر والرصاص.
اسألوا انتفاضات شعب يقاتل منذ اكثر من مائة عام مغتصبي أرضه من جانب، وسماسرة ارضه من جانب آخر. وهل كان ناجي العلي سوى الرائي الذي قتلوه والرائي الممكن الذي يولد مع كل طفل فلسطيني؟