عوني صادق
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1983)
في الخامس من أغسطس/آب الحالي جري الاحتفال تنصيب الجنرال محمد ولد عبد العزيز رئيساً لجمهورية موريتانيا الإسلامية، بعد انتخابات تعرضت للطعن في نزاهتها، لكن المجلس الدستوري الموريتاني رفض الطعن الموجه إليها وثبت نتائجها. وككل انتخابات تجرى في بلداننا العربية، كانت الانتخابات الموريتانية مناسبة جديدة للتأمل في أوضاعنا العربية أكثر مما كانت فرصة للأمل في تغيير الأحوال. فكلما سمعت عن انتخابات تجري في بلد عربي عاودني سؤال قديم: هل هذه هي الديمقراطية؟ وكلما رأيت رايات الديمقراطية مرفوعة فوق جحافل الغزاة، مختبئة وراء دبابات العسكر، أو وراء ما يسمى “المال السياسي”، أو مستبطنة الطائفية حيناً والقبلية والعشائرية أحياناً، ازدادت شكوكي في هذا المصطلح الملتبس والمسمى الإشكالي، وعاودني سؤال قديم آخر: هل تكون “الديمقراطية” شكلا آخر من أشكال الاستبداد؟
لكن التشكيك في “الديمقراطية” يأتي ليس من الصور المشوهة والأشكال الزائفة لما يجري في البلدان العربية والنامية، بل يأتي أولاً ممن يزعمون أنهم الأوصياء على الديمقراطية والمدافعون عنها بكل ثمن. ومنذ أن غزا جورج دبليو بوش العراق دفاعاً عن “الديمقراطية وحقوق الإنسان”، ثم اتضح للجميع حقيقة تلك الديمقراطية، ازدادت الشكوك بجدية الذين يرون فيها أسلوباً قادراً على تحقيق شعارات الحرية، وتراجعت صدقيتها وصدقية الداعين إليها، بينما كل شيء حولنا يشي بأن القانون الوحيد هو “قانون القوة”، وما يقال عن “قوة القانون” ليس إلا تدليساً على ذوي النوايا الحسنة والمستضعفين من البشر.
وفي البلدان العربية، ومنذ وقوع هجمات سبتمبر/ايلول ،2001 أصبح الجميع ديمقراطيين فجأة، وأصبحت الانتخابات التي تنظمها السلطات هي الطريق إلى تداول السلطة. لكن ذلك لم يلغ الأوضاع الاستبدادية، ولم ينه الحنين إلى زمن الانقلابات العسكرية. والمفارقة هي أن نتائج هذه الديمقراطية، التي تختصر في الانتخابات، تكون معروفة سلفاً، فإذا أسفرت عن فوز من لا يرضى عنه الحكام وأصدقاؤهم (الأمريكيون) أصبحت لاغية وكان الفائزون غير شرعيين، وفرضت عليهم العقوبات إلى أن يثوبوا إلى رشدهم فيستقيلوا، أو تسقطهم القوى الخاسرة بطرق غير ديمقراطية، وأيضاً باسم الدفاع عن الديمقراطية.
ولدينا في هذا المجال مثالان بارزان، الأول جاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة والثاني من موريتانيا، وكلاهما قيل في نزاهتهما وشفافيتهما معلقات.
وبينما تم سحب الاعتراف بالوضع الذي أسفرت عنه الانتخابات الفلسطينية وتعرضت الحكومة الناتجة عنه للمقاطعة والحصار، انقلب العسكريون على الرئيس الذي أنتجته الانتخابات الموريتانية قبل الأخيرة.
في موريتانيا، وقبل حوالي ثلاث سنوات، وقع انقلاب عسكري قاده الجنرال إعلي محمد ولد فال ضد الرئيس معاوية ولد طايع لاتهامه بالفساد. وغداة الانقلاب وعد الرجل بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في موعد قريب يعيد بها السلطة للشعب. والحقيقة أن الرجل وفى بوعده، ولم يستغل وجوده على رأس المجلس العسكري الذي حكم تلك الفترة الانتقالية، بل ولم يرشح نفسه للرئاسة في تلك الانتخابات التي أشرفت عليها الحكومة التي تشكلت في عهده، فجرت الانتخابات نزيهة شفافة فاخر بها العرب جميعاً، وفاز فيها سيدي ولد الشيخ عبدالله. ولكن لم تمض إلا شهور حتى وقع انقلاب عسكري جديد قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي كرر ما سبق للموريتانيين أن سمعوه من إعلي ولد محمد فال دون أن يتم الالتزام به هذه المرة، الأمر الذي وضع البلاد في أزمة تدخل الوسطاء لحلها فكان اتفاق داكار الذي حدد موعداً جديداً لانتخابات جديدة أجريت في الثامن عشر من يوليو/تموز الماضي وأسفرت عن فوز ولد عبد العزيز من الجولة الأولى. ولم يحصل ولد فال الذي رشح نفسه في هذه الانتخابات إلا على 3% من الأصوات، بينما حصل ولد عبد العزيز على 52% منها، وفي هذه النتيجة ما يشير إلى “حجم التقدير” الذي يمكن أن يحظى به، في بلد متخلف، رجل ثبتت نزاهته وديمقراطيته من خلال التجربة.
وانطلاقاً مما جرى في موريتانيا، يمكن استنتاج أن البلدان العربية لم تغادر بعد زمن الانقلابات العسكرية لأن نظمها الحاكمة ما زالت تتمترس في خنادقها القديمة من حيث عدم الاعتراف بالشعوب وبحرياتها وحقها في تقرير المصير، بالرغم مما يشاع عن تحولها إلى الديمقراطية. كما يمكن الاستنتاج أنه مثلما يمكن لانقلاب عسكري أن يوصل إلى ثورة اجتماعية وإلى حالة ديمقراطية منشودة، فإنه يمكن لانقلاب عسكري آخر أن يغتال حالة ديمقراطية قائمة وأن يحتفظ بصفاته الانقلابية، ولو تغطى بلبوس ديمقراطي. والمسألة مرهونة بقدرة ودور القوى السياسية المشاركة في العملية الاجتماعية، وقدرتها على الدفاع عن الجماهير وحقها في اختيار حكامها وممثليها والنظم التي تراها صالحة لحياتها.
وهناك من يرى أن الانتخابات الأخيرة في موريتانيا جاءت فقط لتجاوز الأزمة السياسية التي أوجدها الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب الذي أطيح، ومن أجل شرعنة هذا الانقلاب والاحتفاظ بالنتائج التي ترتبت عليه. ولأن الانقلاب الثاني شطب ما أسس له الانقلاب الأول، أصبح “مفهوم الديمقراطية”، وفي أحسن الأحوال، غير مفهوم لدى معظم الموريتانيين، بل شوش على مستوى فهم العلاقة بين الديمقراطية والانقلابات العسكرية، إذ إنه طرح نوعاً من “التشارك” بين الديمقراطية والاستبداد. لكن القضية الأساسية الآن تتمثل في سؤال بسيط: كيف يضمن الرئيس الجديد ألا يتحرك جنرال آخر، في مدى ما، ليكرر ما أقدم هو عليه؟