سياسة “الغمز المتبادل”… قعقعة أوباما وطحن نتنياهو!

عبد اللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1983)

نصف عام يمكن حذفه الآن من الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما. إنها المدة التي مضت على إطلالة الساحر الشاطر، وبداية رحلة المبشر والخطيب المفوّه، الذي نثر وعوده التغييرية الخلابة التي أطربت الأمريكان وشنّفت آذان العالم، لاسيما وأنها جاءت في حقبة عم فيها الجدب الأخلاقي في السياسة الدولية، وهبت فيها ريح الكوارث الإقتصادية، التي لبلاده الباع الأطول في مسبباتها… وكل ما جنته الحماقات البوشية وسطرته غطرستها في سجل الإمبراطورية غير الناصع أو ما ألحقته بصورتها القبيحة أصلاً.

كانت وعوداً تغييرية سخية أيقظت أحلام حالمي العالم، وأخرجت واهمي العرب، الذين وضعوا كل بيضهم في السلة الأمريكية، عن طورهم، واستبشر لسماعها المسلمون المتهمون جميعاً بالإرهاب خيراً. بيد أن جردة حساب بسيطة لمنجزات المبشّر خلال هذه المدة التي قضاها في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض تعد كافية لتفسير بداية تراجع شعبيته لدى بسطاء الأمريكان، وخيبة أمل حالمي العالم، وإحباط الواهمين العرب، لا سيما منهم منتظري الحلول التي سوف يخرجها من قبعته لقضاياهم التي أوكلوا أمرها منذ عقود للراعي الأمريكي.

سيكون من المبكر القول أن سياساته الترقيعية الإقتصادية قد أسهمت في إلقاء طوق النجاة أو حتى كفت من تفاقم الأزمة الإقتصادية التي تعيشها بلاده، وتعيّش العالم معها فيها. ولا شيء ملموس على صعيد تحسين حال الحريات المدنية، التي ضيق سعار ما بعد 11 سبتمبر الخناق عليها، وكل ما خلّفه المحافظون الجدد من تركة ثقيلة، وصولاً إلى العجز حتى عن الإيفاء بوعد إقفال معتقل غوانتينامو، أو ما يرمز لعار الولايات المتحدة في غرة القرن الواحد والعشرين.

لقد شاب قرارات الواعد بالتغيير خلال هذه الفترة من ولايته التردد والتراجع عنها أمام أي عقبة تثيرها بعض أطراف المؤسسة الأمريكية، التي جاءت هي بأوباما في سياق رغبتها في التغيير ووفق رؤيتها له…

هذا داخلياً، أما كونياً، فما الذي تغيّر؟!

في العراق، ما خلا وعود الانسحاب والعودة بجيوش الغزو والاحتلال إلى بلادها، لم يفعل أوباما حتى الآن أكثر مما قرره بوش قبل رحيله، والمتعلق بتنفيذ الاتفاقية الغامضة، أوإعادة التموضع، ثم البحث عن ذرائع ولو دموية بشعة لإطالة عمر الاحتلال، وها هو الجنرال أديرنو يرفض الانسحاب المبكر، ويقول أن هدفنا هو جعل العراق شريكاً أمنياً!

وفي أفغانستان، المزيد المزيد من التورط واعتماد الحلول الأمنية، وتوسيع دائرتها لتشمل شمالي الباكستان المفترض أنها حليفه في الحرب على ما يسمى الإرهاب، والتي محصلتها المزيد من الفظائع التي تلحق بالمدنيين، وازدياد مساحات المسارح الطالبانية، بعد الإضافة الباكستانية، وامتدادها إلى كشمير الهندية، وحتى بنغلاديش… وبعيداً، يقال في الصومال، وأخيراً ما نسمعه من أنباء طالبان النيجيرية!

لقد سمعنا أمين عام حلف النيتو المتورط في المستنقع الأفغاني المنتهية ولايته يحذر من “سيطرة طالبان” الكاملة على أفغانستان بعد أن غدت صواريخها تدك العاصمة وتصل حارات سفارات الاحتلال ومراكزه، وأن باكستان هي المتضرر الأكبر، ويعبّر عن خشيته على آسيا الوسطى برمتها. وبدأنا نسمع يومياً عن خسائر المحتلين الأمريكان والناتويين هناك، ونقرأ الإحصائيات عن الأرقام القياسية لمنتحري جنودهم… عن فشل مكائد هولبروك، ورحلات سولانا الاتحاد الأوروبي بحثاً عن طالباني واحد يجنح للتفاوض. وهاهو راسموسن الأمين العام للناتو الجديد يخف إلى بلاد الأفغان بعد يومين فقط من ولايته للبحث عن “تدابير براغماتية للخروج من الورطة”!

هذا الواقع جعل وزير حرب الإدارة الأوبامية روبرت غيتس يعترف نيابة عن الأمريكان وإدارتهم بأنه “بعد تجربة العراق، لا أحد على استعداد لرحلة طويلة لا يبدو أننا نتقدم فيها… القوات تعبت، والشعب الأمريكي متعب جداً”.

مشكلة أوباما أن تعثر السياسة الإقتصادية وسائر أوجه السياسة الداخلية الأخرى، يدفعه للبحث عن منجزات في السياسة الخارجية رغم اعترافات غيتس التي لا ينكرها أحد لا داخلاً ولا خارجاً.

هنا، يكمن سر الهجوم الأمريكي لتحقيق السلام المستحيل في بلادنا، والذي آخر مشاهده هو ما دعاه نتنياهو ب”القطار الجوي” من المبعوثين الأمريكيين الذين يحطون في تل أبيب ثم يقفزون منها إلى بعض العواصم العربية… بالمناسبة لم يتوقف أوباما، ومنذ حلوله في البيت الأبيض، من إرسال طلائع مبعوثييه الخاصين إلى أربع جنبات الأرض لحل كافة مشاكلها دون حلها!

وعربياً: يأتي ميتشل متعهد التطبيع، ومطالب العرب ب”الخطوات الجوهرية” التطبيعية، بعد أن طالبتهم قبله وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون ب “اتخاذ تدابير ملموسة الآن” في هذا المجال إلى المنطقة… ثم روبرت غيتس وزير الخارجية ويلحق به الجنرال جيمس جونز، رئيس مجلس الأمن القومي، ومرجع سيء الصيت فلسطينياً الجنرال دايتون… وبعدهما، دنيس روس، الغني عن التعريف، الذي غدا المستشار الرئاسي الخاص… الإسرائيليون، يرون في مثل هذا “القطار الجوي” الأمريكي المتوالي هبوطاً في محطتهم، وفق توصيف لنتنياهو، “كجزء من منظومة علاقات متشعبة” بين الطرفين، التي “قامت في الماضي ولا تزال قائمة”… هذا الحجيج الأمريكي إلى تل أبيب ومن ثم الانتشار في المنطقة، يأتي بعد الخلاف المصطنع، أو “خلاف المصلحة”، وفق توصيف بعض المصادر الإسرائيلية، والذي عنوانه مسألة تجميد التهويد، أو ما يعرف ب “الاستيطان”، أو هذه الضجة المفتعلة المحببة لقلوب “المعتدلين” العرب، التي يعلقون عليها آمالاًعريضة، أنتجت استعدادات متعجلة للتطبيع سلفاً، أو على الحساب، وحتى مجاناً، من قبل البعض، حيث يقول ميتشل أنه في الحوارات المغلقة سمعت من العرب ما يخالف تصريحاتهم… “خلاف المصلحة” أوالخلافات التي يصفها الإسرائيليون وليس سواهم ب”سياسة الغمز المتبادل” بين الحليفين الأمريكي والإسرائيلي!

لقد نجم عن هذا الغمز المتبادل، خفوت اللهجة الأمريكية المطالبة بوقف التهويد، وارتفاعها إزاء مطالبة العرب بالتطبيع، والحرص على تأكيد العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب واستمرار الحوار الاستراتيجي بينهما، والتركيز على التباحث حول الخطر الإيراني المزعوم، أما عملياً، فأسفرعن مستعمرة تهويدية جديدة أقامها المستعمرون على تلال الضفة تحدياً للمطلب الأمريكي بوقف التهويد اسمها “أوباما هيلتوب”…وعبرنة أسماء المدن العربية في المحتل من فلسطين عام 1948…. باختصار انتهى ميتشل في تل أبيب إلى هذه الحصيلة: “حققنا تقدماً”… ولم يذكر لا هو ولا مضيفيه كلمة واحدة عن مسألة التهويد أو ما يدعى “الاستيطان”. كل ما قاله هوأن الخلافات حول البناء في القدس و”المستوطنات” هو خلاف بين أصدقاء “وليس شجاراً بين خصوم”!

ماذا بعد؟

لقد حفلت شهور أوباما الستة بقعقعة أوبامية، بدأت مع قدوم صاحبها للسلطة، وارتفعت وتيرتها لاحقاً في كل من اسطنبول والقاهرة، لتصل آذان المسلمين بعد العرب، موهمة البعض بأنه إنما يستمع إلى مولانا الشيخ باراك حسين أوباما، وانتهت هذه الأيام بأن تمخض جبلها عن طحن تهويدي من قبل نتنياهو… أما عربياً، فكانت تداعياتها تغيير بعض العرب شعار قمة بيروت، التطبيع مقابل الانسحاب، بالتطبيع مقابل تجميد التهويد… أما “فلسطينياً”، فأنباء عن عودة جماعة وثيقة جنيف للإطلالة من العتمة مجدداً، لكي يعدوا ملحقها الأمني مستعينين هذه المرة بجنرالات متقاعدين وعلى رأسهم جنرال أمريكي من المشرفين على تهيئة سلطة أوسلو أمنياً، وفحوى هذا الملحق هو كيف تكون الدويلة المنزوعة السلاح… وهذا تم، كما تقول المصادر الإسرائيلية، بمعرفة أمريكية، بريطانية، فرنسية… أما كنه هذه الدويلة فهو وفق خطة تحدثت عنها صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، صاحبها هذه المرة الداهية شمعون بيريز، “نموذج مقلص، بخيل وواقعي”، أو حل مرحلي ودولة مؤقتة، ليس عبر مفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، وإنما بين الفلسطينيين والعرب “المعتدلين”… أو كما نقل عن بيريز “هم (أي العرب) سيجلبون الفلسطينيين إلى هذه الحكاية وليس نحن”! أما التهويد فالكتل الاستعمارية الكبرى، والقدس واللاجئين “قضيتان غير قابلتين للحل الآن”، أو “هناك مشاكل يجب الالتفاف عليها واستخدام صياغات وعبارات حولها”… ترى ما علاقة ما تقدم بالإعداد والإخراج المثير للجدل لمؤتمر “فتح الداخل” وما يراد له أن يسفر عنه لصالح تمرير مثل هذا السياق؟!

ثم أو ليس هذا هو كل ما تهدف إليه قعقعة أوباما التي تترجمها سياسة “الغمز المتبادل” بين واشنطن وتل أبيب طحناً تهويداً صافياً يصب في طاحونة نتنياهو؟!

إن هذا هو ما تؤكده صافرة “القطار الجوي” التي أُطلقت مؤذنةً بتصفية الخلافات المزعومة بين الحليفين في غير صالح من قبلوا بأن تتحول قضية قضاياهم في فلسطين إلى ما هو أشبه بالخلافات العقارية، وشُغلوا بحكاية تجميد المستجد من التهويد، وليس المباشر به، ومؤقتاً، كمجرد “وديعة” ، ومقابل خطوات تطبيعية، وعودة سلطة أوسلو للمفاوضات، وفق النموذج البريزي المقلص، أو ما يذكرنا بدويلة أمين عام الجامعة العربية “المعدلة”، وكل هذا على قاعدة قبول السلطة وموافقتها على استئناف التهويد المباشر و”إقرارها” به!