فاطمة الصمادي
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1987)
في واحدة من خطب الجمعة وصف المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي بريطانيا بأنها الأكثر شراً بين “الذئاب الجائعة”. وفي العلاقة مع بريطانيا، ثمة قناعة متجذرة في وعي الإيرانيين تقول أن المملكة المتحدة لا تتوقف عن حشر أنفها في شؤون بلادهم، وأن كل ما يجري من أحداث وتطورات بشأن القضايا الإيرانية في الداخل والخارج لساسة بريطانيا ومخططيها يد طولى فيها. وللوهلة الأولى تبدو المسألة أسيرة ما يمكنه وصفه باعتناق نظرية المؤامرة، لكن المسألة تأخذ أبعادا مختلفة بالعودة إلى ملفات التاريخ، وهي التي تؤكد من دون شك أن للإيرانيين الحق في جعل ذاكرتهم يقظة تجاه دولة من أهم دول الحقبة الاستعمارية. ورغم أن إيران خلافا للعديد من دول المنطقة لم تصبح مستعمرة مباشرة للإمبراطورية البريطانية، إلا أن لندن استخدمت إيران منطقة عازلة لحماية إمبراطوريتها في الهند.
ولعل العودة إلى العام 1813 يعطي أرضية جيدة لفهم هذه العلاقة التي لم تفقد صفة التوتر إلى اليوم، ففي ذلك العام دفعت إيران إلى توقيع معاهدة (جولستان) وأجبرت بموجبها على التنازل عن أراض واسعة لروسيا ومن ضمنها تاجيكستان وأوزبكستان وأذربيجان، ورغم أن المعاهدة جاءت في مصلحة روسيا إلا أن الإنجليز كانوا اللاعب الأساسي فيها، فالمعاهدة -التي ما زال الإيرانيون يصفونها بـ”العار” إلى اليوم- وضعها الدبلوماسي البريطاني السير غور أوسيلي، وذلك ضمن تبادل للمصالح بين الدولتين.
وفي بداية ثورة المشروطة، أو ما يعرف بالثورة الدستورية التي شهدتها إيران عام 1905 قدمت بريطانيا الدعم لهذه الحركة وذلك حماية لمصالحها في الهند وإبقاء العين الروسية بعيدة عن مستعمراتها، لكنها عادت وأجهزت على هذه الحركة الديمقراطية بالتعاون مع روسيا. ووقعت في العام 1907 مع موسكو معاهدة تقسم إيران إلى ثلاث مناطق، حيث وضعت المنطقة الشمالية التي تعتبر الأكبر من حيث التجمع السكاني، والأهم تجاريا تحت النفوذ الروسي، ووضع القسم الجنوبي صاحب الأهمية الإستراتيجية لحماية مستعمرات الهند ويشمل بندر عباس وكرمان والحدود مع أفغانستان تحت النفوذ البريطاني، أما القسم الثالث والذي يضم الصحارى والمناطق المقفرة فقد ترك للحكومة الإيرانية.
وفي عشرينيات القرن العشرين قدمت القوات البريطانية في إيران المساعدة لرضا شاه ليستولي على الحكم ويعتلي عرش إيران. ولم تعبأ لندن كثيرا بحكومة الدكتور محمد مصدق الوطنية المنتخبة وساندتها الولايات المتحدة في تدخل سافر أدى إلى الإطاحة بحكومة مصدق عام ،1953 وكان تأميم النفط والقرار الوطني المستقل هما عناوين حركة مصدق التي لم ترق للإنجليز وأصدقائهم في واشنطن.
وإن كانت الثورة الإسلامية قد وضعت الولايات المتحدة على رأس قائمة الأعداء أثناء تحركها ضد حكومة الشاه محمد رضا بهلوي وحتى الإطاحة به عام 1979 واصفة إياها بـ”الشيطان الأكبر” إلا أن العلاقة مع بريطانيا لم تخرج من تأثيرات الماضي وما أوجدته الثورة الإسلامية من تغييرات على أرض الواقع. واستمر ذلك خلال الحرب العراقية الإيرانية والدعم الكبير الذي قدمه الغرب للعراق.
فقد قطعت العلاقات عام 1979 حيث أصبحت سفارة السويد راعية للمصالح البريطانية في إيران. واستمر ذلك إلى العام 1988 عندما قبلت إيران بالقرار 598 لإنهاء الحرب مع العراق. ولم تمض بضعة أشهر حتى عاد الاشتباك السياسي إلى الظهور بعد صدور كتاب (الآيات الشيطانية) لسلمان رشدي والفتوى التي أصدرها الإمام الخميني بقتله. لكن العلاقات أعيدت مرة أخرى عام 1997 بفعل السياسة التي اتبعها الإصلاحيون برئاسة محمد خاتمي وهي السياسة التي حاولت التقارب مع الغرب رغم معارضة أوساط إيرانية لهذا التوجه وسعيها لعرقلته.
وشهد العام 1998 لقاء مفاجئا لوزيري خارجية البلدين على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة وجرى حديث وصف بالجدي لتطوير العلاقات الدبلوماسية حيث تم تبادل السفراء بين البلدين عام .1999 وقام وزير خارجية إيران في ذلك الوقت كمال خرازي بزيارة لندن عام 2000 هي الأولى التي يقوم بها وزير إيراني إلى بريطانيا عقب الثورة الإسلامية في إيران.
وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول زار وزير الخارجية البريطاني جاك سترو، طهران مرات عدة وهو ما وصف بالحدث غير المتوقع. لكن طهران في العام 2002 رفضت قبول اللورد ديفيد ردوي سفيرا لبريطانيا في إيران حيث أثار الرفض أزمة في العلاقات الثنائية ويومها اتهم الإصلاحيون، منافسيهم الأصوليين بإشعال تلك الأزمة لإفشال سياسة خاتمي الرامية إلى إزالة التوتر مع الغرب. لكن سياسة التقارب تلك تم العودة عنها مع مجيء الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى الحكم عام 2005 وبدأت العلاقة تشهد شكلا جديدا من المواجهة والتوتر.
وشكلت قضية اعتقال أناس من الجانبين صفة صبغت علاقة الطرفين ومن ذلك اعتقال هادي سليمان بور بناءً على طلب القضاء الأرجنتيني الذي يتهم وبعض المسؤولين الإيرانيين الآخرين بالضلوع في حادث تفجير المركز اليهودي الأرجنتيني عام ،1994 واعتقال نصرت الله تاجيك الذي شغل منصب سفير إيران لدى الأردن في وقت سابق والتهديد بتسليمه إلى واشنطن، ومن الجانب الإيراني كانت أزمة البحارة حين قامت البحرية الإيرانية عام 2007 باعتقال 15 جنديا من البحرية البريطانية، بينهم امرأة لاتهامهم بدخول المياه الإقليمية الإيرانية بصورة غير مشروعة. وبعد ايام شهدت توترا شديدا، أعلن احمدي نجاد الإفراج عن البحارة البريطانيين واصفا مبادرته بأنها “هدية” للبريطانيين لكن تلك الهدية لم تفلح في تحسين علاقة الجانبين.
وأخيرا جاءت أزمة الانتخابات الإيرانية لتكشف عن فصول أزمة جديدة في العلاقات، وتم اعتقال عاملين في السفارة البريطانية في طهران بتهمة التدخل في الشأن الداخلي الإيراني والمساهمة في الاضطرابات التي وقعت عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويبدو أن الأزمة ستدخل منعطفا جديدا مع بدء محاكمة أشخاص قالوا أنهم كانوا مكلفين بإعداد تقارير مستمرة عن الأحداث في إيران أثناء الانتخابات وبعدها.
ومما يزيد التوتر بين الجانبين الدور الأساسي الذي لعبته وتلعبه الحكومة البريطانية في موضوع العقوبات المفروضة على إيران، إذ كانت بريطانيا على الدوام صاحبة السبق في اقتراح عقوبات جديدة وتتخذ موقفا متشددا تجاه البرنامج النووي الإيراني، وفي حزيران الماضي أعلنت الحكومة البريطانية أنها جمدت أصولا إيرانية تقترب قيمتها من مليار جنيه إسترليني في إطار العقوبات الدولية المفروضة.
(العرب اليوم)